البنية، الفرد والتاريخ
ما لا يعرفه أكثر أهل السياسة من العرب، أو من قادتهم المصادفة للاشتغال بالسياسة، هو أن البنية بإرادتها اللاواعية أقوى بكثير من إرادة الفرد. وأن البنية لا تموت إلا إذا نمت في أحشائها بذور الموت. وعندها تكون إرادة الأفراد، إذا أحسنت السلوك بدهاء، قادرة على إزالة البنية القديمة، وتعبيد الطريق لولادة البنية الجديدة.
وبالمقابل فإن الدفاع عن بنية ينهشها الفناء، والعمل على الاحتفاظ بها بكل الوسائل، ضرب من الوهم القاتل.
ويُخلق الاستعصاء التاريخي المدمر في تلك المرحلة التي لا تستطيع الإرادة أن تنجز انتصار البنية الجديدة التي ولدت في أحشاء البنية القديمة، بسبب شروط ذاتية وخارجية، من جهة، ولا تستطيع إرادة البنية القديمة إعادة الحياة إلى بنيتها بعد أن تآكلت، من جهة ثانية. فيرواح التاريخ بين عجزين، عجز بنية قديمة عن البقاء كما كانت، وبالتالي عجز الإرادة المطابقة لها. وعجز البنية الجديدة القائمة في رحم البنية القديمة عن الولادة. وإذا طالت الفترة هذه، فإن الخراب سيطال كل صعد الحياة، وينتظم العنف البلاد والعباد.
وهناك ما هو أعقد مما سبق، ألا وهو: الاختلاف الكبير بين سهولة تحطيم البنية المادية الاقتصادية والتقنية والإنتاجية، وتحطيم البنى الذهنية التي تكونت عبر مئات السنين.
فالبنى الذهنية بطيئة التغير، بل ومعندة أحياناً، والبنية الذهنية هي جملة المعتقدات والأفكار والعادات والقيم والحياة النفسية التي تكوّنت في بنى اجتماعية – اقتصادية قديمة، وحافظت على وجودها ردحاً طويلاً من الزمن، وتعبر عن هذا الوجود في السلوك.
فلقد دلل علم النفس الاجتماعي والأنتروبولوجيا أهمية الذهنيات في فهم ممكنات التغير والتطور في مجتمع من المجتمعات. فالذهنية المتولدة من استمرار المجتمع الفلاحي -القروي، الذهنية التي تقوم على محدودية العمل، والنظرة الفوقية للعمل الحرفي، وعلاقات القرابة، والميل إلى المحافظة، وضعف الفردية، كل هذه السمات الذهنية تقع في تناقض مع الذهنية المدينية حيث الحرفة والإنتاج والتجارة والسوق وما يتطلبه ذلك من ذهنية التنظيم والعمل اليدوي ومكانة رأس المال والفردية وضعف رابطة الدم. والذهنيتان تنعكسان ولا شك على عمل المؤسسات والنظرة إلى وظيفتها.
فأي مؤسسة تقوم على ذهنية رابطة الدم أو المذهب لا يمكنها أن تقوم بعملها القانوني في الدولة.
يتأسس على تحليلنا السابق القول الذي هو أقرب إلى البداهة:
أولاً: إن المجتمع، أي مجتمع، بوصفه بنية يحتوي على مجموعة من البنى المختلفة. وإن تناقضات البنى إذا ما تحولت إلى صراع، فهذا يعني بأن هناك حركة موت وولادة.
ثانياً: إن الحفاظ على سلطة بنية واستقرارها عن طريق القوة والعنف سيقود حتماً تشويه حركة التاريخ الطبيعية أو السلمية.
ثالثاً: إن أخطر ما تواجهه بنية هي على وشك الخروج من رحم التاريخ إلى الحياة هو الذهنيات القديمة التي تعبر عن ذاتها في حركات وفئات منظمة، لتكون سداً أما مجرى نهر الحياة، كالذهنيات الطائفية والذهنيات الدينية – الأصولية العنفية وغير العنفية.
فخنق ممكنات ولادة البنى الجديدة بالعنف الداخلي أو الخارجي أو كلاهما معاً سيخلق ركوداً تاريخياً طويل الأمد، لأن استعادة الممكنات الموضوعية والذاتية أمر في غاية الصعوبة، وهذا ما يختلف عن خسارة دولة للحرب وقد كانت بناها الجديدة قد تكون ووجدت طريقها إلى الواقع. كألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية.
رابعاً: لا يمكن أبداً استعارة بنية مجتمع ودولة وشعب لفرضها بالقوة على مجتمع ودولة وشعب آخر، إلا إذا نمت في هذا الأخير بفعل حركة التاريخ العالمي شروط البنية المرجوة.
خامساً: إن الاعتقاد بأن خلق بنى إنتاجية – اقتصادية وتقنية وعلمية مع الاحتفاظ بذهنية ما قبل البنى هذه ضرب من الوهم غير المحمود النتائج.
فكل تغير وتطور في الحياة المادية سيخلق الذهنيات المطابقة له، وبخاصة لدى الأجيال التي تعيش في البنية المادية الجديدة.
سادساً: إن من سمات العقلانية السياسية، وعقلانية الفاعلين رصد التحولات، التحولات العفوية الموضوعية في البنيتين المادية والذهنية، وما تولده من حاجات، والتفكير بالسبل الكفيلة بتلبية الحاجات الجديدة بحسب الأهمية والضرورة، وانطلاقاً من جدل الإمكانية والواقع.
فترك البنى لحركتها العفوية دون تدخل الإرادة التي تمنحها طابعها الواعي، في التخطيط ورصد المستقبل يجعل من تطور البنى العفوي خالقاً للأزمات.
وكل تراكم للأزمات دون الحل العقلاني والواقعي لها يمهد الطريق لولادة المأزق، فإذا كانت الأزمة انقطاع مؤقت في سيرورة التطور، فإن المأزق هو سد صلب أمام سيرورة التجدد والتطور.