fbpx

الاتفاق مع قسد.. اتفاق أمني – عسكري وليس اتفاقاً سياسياً

0 4٬122

يعلم قادة العهد السوري الجديد عمق التحولات الجارية في المنطقة والعالم، ولا أدل على ذلك من استعدادهم الجيد للمعركة الآتية، والتي لا ريب فيها، مع نظام الأسد. واختيار اللحظة الدولية المناسبة لساعة الصفر فيها. ويعلمون حجم الأهمية الجيوسياسية لسوريا وموقعها أو دورها في النظام الدولي الجديد، والذي يجري تشكيله حالياً.

ويعلم الرئيس الشرعي أن الدول تتعامل وفق مصالحها، ولا قيمة لأي قوالب جامدة أو أحكام مسبقة أو سرديات بالية أو تصنيفات الماضي، لأن ما يهمها هو الحاضر الذي يرسم ملامح المستقبل.

لذلك كان هناك ترحيب دولي وإقليمي بسقوط ورقة الأسد الصفراء اليابسة، وقدوم الربيع السوري الأخضر الذي سيزهر. ويعلم الجميع أن سوريا الجديدة محكوم عليها (ومطلوب منها) أن تتناغم مع البوصلة الدولية، بل وأن تكون جزءاً منها. سوريا الجديدة، الدولة التي تحترم القوانين الدولية، وتكون عدواً للتطرف والإرهاب، وتحترم جيرانها وشعبها، وتعمل على أن تكون واحة للاستقرار عبر البدء ببناء دولة لكل السوريين، والتطلع إلى الأمام، وعدم الوقوع في أفخاخ الرجوع إلى الخلف بعد عدالة انتقالية ومصالحة مجتمعية تحاول تضميد الجراح ومغالبة الآلام للوقوف على القدمين ثم السير إلى الأمام.

ولأن خطوات المسير السوري لاقت تأييداً داخلياً وخارجياً، لم تتمكن المؤامرة الإيرانية الأخيرة عبر عصابات الفلول الأسدية من تعكير صفو الحالة السورية وعرقلة مسيرها. ولم تلاقِ سكرة الموت الأخيرة في الساحل السوري إلا الرفض الشعبي العارم والإدانة الدولية والإقليمية لمحاولة إحياء الأسدية الميتة.

وتجلى التأييد الدولي والإقليمي للعهد الجديد بالحج إلى دمشق، وزيارات الرئيس ووزير خارجيته للخارج، وهو ما يمثل اعترافاً صريحاً بالعهد الجديد. وكان مشهد حضور سوريا الجديدة ورئيسها في القمة العربية الطارئة في القاهرة اختصاراً لذلك المشهد من مباركة كل ما حصل في سوريا.

ويتسارع وتيرة الخطى الدولية على طريق رفع العقوبات كاملةً عن سوريا، ونرى الاستثناءات والإعفاءات والمساعدات كلها تصب في جدول رفعها كاملةً عما قريب.

وعلى وقع الأحداث التي تشهدها سوريا بعد التحرير، ومحاولة تجنيبها المطبات الخطيرة والعمل على تعافيها بسرعة، كانت تدور مفاوضات في الظل بين القيادة السورية وقيادة قوات سوريا الديمقراطية. ولنجاح تلك المفاوضات، كان الحرص على إبقائها سرية وبعيدة عن الأضواء. كانت تلك المفاوضات تتم برعاية تركية وأمريكية بالدرجة الأولى لأسباب معروفة، وتلاقي دعماً عربياً وأوروبياً لإنجاحها، وعلى رؤية واضحة من الداعمين لوصولها إلى بر الأمان. ويتلاقى ذلك مع قرار القيادة السورية في الثوابت التي أعلنتها من الأيام الأولى لوصولها إلى دمشق، بأن سوريا دولة واحدة، والسلاح يجب أن يكون في حوزة وزارة الدفاع، وأن حقوق كل المكونات السورية محفوظة، لأن الغاية هي إقامة دولة المواطنة التي تكفل الحقوق والحريات لكل سوري بغض النظر عن عرقه أو دينه أو مذهبه.

وسارت المفاوضات نحو تكريس الرغبة الداخلية والخارجية في إنهاء ملف شرق الفرات سلمياً، وعدم فتح جراح جديدة أو نكء جراح قديمة.

ومن المرجح أن مثل هذه المفاوضات، لكي تنجح، لا بد من تكامل عوامل ذاتية وموضوعية لإنجاحها. ولا شك أن لدعوة أوجلان الأخيرة (وهو زعيم كردي وليس رئيس حزب كردي فقط) بإلقاء السلاح وحل حزبه، والتوجه نحو النضال السلمي لتحقيق الأهداف التي عجز السلاح عن تحقيقها، والاندماج بالأوطان، كانت غطاءً شرعياً عزز موقف مظلوم عبدي وتياره في إتمام الصفقة مع دمشق، وأضعف أصحاب الرؤوس القنديلية الحامية المتخاذلة له. بالطبع، كان الإيرانيون وحلفاؤهم من الكرد يرغبون في تعطيل الوصول لنجاح الاتفاق، وقد يكون إشعال تمرد الفلول قبل نضوج ظروف أفضل لإنجاحه هو الرغبة في تعطيل الوصول للاتفاق وتحويل سوريا لبؤرة صراع طائفي. وساهم تصعيد الطيران التركي وضربات الجيش الوطني السوري في التحذير من أي هجوم من بعض التيارات الإيرانية في قسد لتعزيز تمرد الفلول في الغرب عبر فتح جبهات جديدة على جيش وزارة الدفاع. ووصل التحذير لهم، ولم يتجرؤوا على أي مساندة، وتركوا المتمردين لمصيرهم دون تقديم أي جهد لمساعدتهم.

وبالتأكيد، كل تلك المفاوضات بين قسد ودمشق ما كان لها أن تبدأ أو أن تصل لخاتمتها السعيدة دون أن تجري على وقع قرب انسحاب أمريكي وشيك من سوريا، وهو ما وضعته قسد نصب أعينها.. حيث إن اتفاقاً برعاية أمريكية أفضل بكثير من حرب بدون غطاء أمريكي.

يرى البعض أن جوهر الاتفاق الأمريكي التركي الذي أنتج الاتفاق بين قسد ودمشق، هو انسحاب واشنطن عملياً من الأرض السورية مقابل إنشاء منظومة أمن إقليمية بين الدول الأربعة (سوريا.. تركيا.. العراق.. الأردن) تتولى محاربة تنظيم داعش ومنع عودة الميليشيات الإيرانية إلى سوريا بالتنسيق مع القيادة العسكرية الأمريكية الوسطى (السنتكوم). وإنشاء هذه المنظومة هو اقتراح تركي تم تقديمه للإدارة الأمريكية السابقة في آخر عهدها، وترك القرار فيه لإدارة الرئيس ترامب، والتي تبدو أنها وافقت عليه، بدليل حدوث أول اجتماع للدول الأربعة في عمان منذ عدة أيام.

وبالتالي، تبدد المخاوف الأمريكية من عودة داعش وما أشبه إلى المنطقة فيما لو انسحب الأمريكيون منها. وبالتالي، لم يتبقَ لقسد أي دور تؤديه لتحصل على دعم واشنطن، حيث سيقوم بدوره (بل وزيادة) الدولة السورية الجديدة، والتي تعاونت معها الأجهزة الأمريكية في أكثر من عشر مرات لإحباط عمليات لداعش والفلول الإيرانية نتيجة تبادل معلومات بينهما.

ومن المحتمل بناء قوة عسكرية نوعية لمحاربة الإرهاب، قوامها خليط من مقاتلين كانوا منضوين في قسد، وانتقاهم جيداً الأمريكيون من العرب والكرد السوريين، وتلقوا تدريبات عالية المستوى مع قوات نوعية من جيش وزارة الدفاع السورية، ويكون نطاق عملها تحت إدارة المنظومة الرباعية الإقليمية بقيادة تركية.

كان الاتفاق بين الرئيس الشرعي والسيد عبدي اتفاقاً أمنياً وعسكرياً صرفاً دون أي رؤية سياسية. بحيث لم يتم التوقيع مع السيد عبدي بصفته ممثلاً لمنطقة شرق الفرات كافة، ولا بصفته زعيماً كردياً، بل بصفته قائداً عسكرياً لميليشيا أمر واقع يتفاوض مع سلطة الدولة الشرعية المركزية لتحديد خارطة طريق لتسليم المقدرات الاقتصادية والمنافذ الحدودية والمنشآت الحيوية، ودمج كل السلطات الإدارية القائمة في مؤسسات الدولة، وحل الأجهزة العسكرية لدمجها في مؤسسات الدولة ضمن شروط وآليات وقرارات وزارة الدفاع المعلنة سابقاً..

وللدلالة على ذلك، لم يتم دعوة قسد أو ممثلين تختارهم لمؤتمر الحوار الوطني الذي عُقد مؤخراً في دمشق، ولم يتم إدراج أي ممثل عن قسد عند إنشاء مجلس الأمن القومي السوري الجديد، ولم يتم الإشارة في مسودة الإعلان الدستوري التي وقعها الرئيس إلى أي حالة خاصة كحالة قسد في الجمهورية العربية السورية.

وما تم نشره في بنود الاتفاق الثمانية بين الرئيس الشرعي وعبدي عن الاعتراف بخصوصية للمجتمع الكردي، فهو أمر عادي يقر به كل السوريين، وأشار إليه عدة مرات الرئيس نفسه عن الاعتراف بالمكون الكردي كجزء أصيل من المجتمع السوري، وضرورة نيله كل ما يعزز تلك الأصالة لديه من خصوصيات اللغة والثقافة، والتي بالتأكيد ستكون رافداً للنسيج السوري، وجعل ذلك التنوع من عوامل القوة وليس الضعف.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني