الإسلام السياسي
يقول ابن رشد: “فقد ينبغي أن نضرب بأيدينا إلى كتبهم، فننظر فيما قالوه من ذلك؛ فإن كان كله صواباً قبلناه منهم، وإن كان فيه ما ليس بصواب، نبهنا عليه” كم من الباحثين يطبقون هذا المبدأ الرائع في النظر بما يعرض عليهم وهل يمكن أن تطبقون نفس المبدأ بالنظر بما ستقرؤون الآن؟! وكم يحتاج الباحث منا إلى أن تمتلكه تلك الروح والأخلاق بالنظر بكل ما يصلنا ممن سبقونا. فهذه إشكالية معرفية عامة وتتحكم بها عدة عوامل، منها الذاتية، ومنها الموضوعية، ومنها ما هو فردي يتعلق بالباحث ذاته وسماته الخاصة، ومنها ما هو عام يتعلق بالوعي الجمعي، فهي من الموضوعات الأبستمولوجية الشائكة والمعقدة والمتشابكة والحساسة، وفيها الكثير من الحقائق التي تحتاج لإعادة النظر لأنه قد يكون فيها الكثير من التشويه والتضليل والتعصب والتطرف، والنظر فيها بقواعد المنهج عند ديكارت (الشك المنهجي) أمر ضروري وتقتضيه المصداقية بالبحث عن الحقيقة، كما تتعلق بمستويات التعامل معها ومرجعياتها وتعلقها بالوعي العام والخاص والوعي الجمعي والمألوف وغير المعتاد، وقناعات الناس العامة منها والخاصة والذهنية المسبقة والأحكام الجاهزة والمفبركة والمصنعة، فالبعض يقرر ورواسبه تتحكم به، ومستوى معرفته الضحلة والمحدودة والضيقة، وعدم وجود منهج علمي وعدم الاستناد للحيادية بالتحليل والتركيب كعمليتين عقليتين ضروريتين لأي بحث علمي أو معرفي أيّاً كانت موضوعاته، وأيضاً المواقف التي تسير باتجاه غايات مسبقة وأهداف ضيقة، منها ما هو معلن ومنها ما هو غير معلن، وقد تتحكم بها غايات سياسية أو مكتسبات مادية أو نزعات قومية أو غير ذلك.
إذن لابد من طرح السؤال الآتي: كيف نقيّم أو كيف نقرأ الموروث الثقافي أو الفلسفي أو الديني أو العلمي أو..؟ مثلاً، الفلسفات التي وصلتنا من فلسفة اليونان مروراً بالماركسية والوجودية وغيرها من فلسفة العصر الحديثة، كيف نقرأ إنتاج علماء الكلام العرب؟ كيف نقرأ مفكري عصر النهضة العربية؟ كيف نقرأ أفكار حركة التحرر العربية يسارية كانت أو قومية أو إسلامية؟ لنتوسع قليلاً بالإجابة على سؤال من هذه الأسئلة كنموذج للبحث.
كيف نقرأ الاسلام السياسي؟ كيف ننظر فيه؟ ما هو المنهج الذي نعتمده في القراءة؟ كيف نحلل ونستقرئ ونستنتج (تحليل، استقراء، استنتاج)؟ حتى تكون قراءتنا موضوعية وقريبة من الحقيقة. فالمنهاج التي تستند عليه القراءات كثيرة؛ ولذلك فالرؤى كثيرة والاستقراءات متباينة، والاستنتاجات مختلفة، منها ما نقبله أو نقبل جزء منه ونرفض الباقي، ومنها ما نرفضه جملة وتفصيلاً أو نرفض أجزاء منه ونقبل بعضه، ومنها ما نقبله نحن ويرفضه الآخرون أو ما نرفضه نحن ويقبله الآخرون. يمكن القول إن الاختلاف واضح، ويفرض نفسه، وبشكل عام الاختلاف في الرأي يُغني ويفيد؛ ولكن ليس دائماً، وخصوصاً في الاختلافات حول الإسلام السياسي عندما لا تستند لمنهج موضوعي، أو حيادي فكل من قرأ الإسلام السياسي استند على حجج وبراهين منها ما هو من داخل العقيدة الإسلامية أي مرجعيته القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ومنها ما هو خارج عنها. وأيّاً كانت القراءة سواء قبلناها أو رفضناها، فهي تستند على الحجج الداخلية للبنية المعرفية للإسلام، وكذلك البراهين تتعلق بالجوهر والنص والتفسير، أي مادتها النص الإسلامي وما ترتب عليه من تفسيرات أو شروحات وأحكام شرعية أو فقهية. إذا كان ما يتعلق بالكتاب والسنه يواجه الباحث صعوبات جمة فما بالك عندما يتعلق الأمر بالفقهاء وأصحاب الفتاوى وغيرهم، ومنهم من يعتبر نفسه المرجع الأصح والمرجع الأكثر إيماناً والأصوب قراءة.
بعيداً عن الدخول في تفاصيل هذه القراءات وبعيداً عن الدخول في نقد حججهم وبراهينهم، وتجاوزاً للقبول أو الرفض لهذه القراءات، فإذا رضينا وقبلنا فسنقع بالخطأ؛ لأنّ عين الرضى عن الحقيقة كليلة، وبعيدة عن الموضوعية، ولا ترى إلا ما تحب وترغب وينسجم مع قناعاتها المسبقة، أما إذا رفضنا فنقع بعدم الرضا والسخط ولن نصل للحقيقة لأن العين الرافضة والساخطة منحازة سلفاً، وتبحث عما يُدعّم موقفها ورأيها الرافض، وتسوق الحجج والبراهين الداعمة لها.
إذاً كلا القراءتين لا تصيب كبد الحقيقة تماماً، ولا تقاربها أحيانا، وبذلك نقع في مغالطة منطقية شائعة وهي تعميم الجزء على الكل، فبذلك لا يُرى من الأمر حقيقته، كالعين التي ترى الشجرة وتتعلق بها فلا تبصر الحديقة. إذا كانت هذه حقيقة القراءات للإسلام السياسي، فما هو الحل؟ أي كيف نقرأ الإسلام السياسي؟ وهل قراءة الإسلام السياسي بحيادية وموضوعية وعلمية أمرٌ ممكن؟ وكلنا يعلم أن الموضوعية في العلوم الإنسانية تواجهها صعوبات عدة. فما بالك إذا كان الموضوع علم الدين والسياسة.
أعتقد أن الموضوعية في قراءة الإسلام السياسي غير ممكنة؛ لأننا سلفاً نقرأها إما منحازون لها مؤمنون بها، أو نقرأها ونحن مسلحين ضدها، وإذا أردنا أن لا نكون منحازين لها، هل هذا ممكن؟ وألا نكون ضدها هل هذا ممكن؟ بعضكم سيقول لنستند إلى المنهج الجدلي في القراءة، القول لا بأس به، لكن ما هي الكيفية التي سنتعامل بها مع الإسلام السياسي؟ هل النزاهة بمعناها الأخلاقي كافية؟ النزاهة الفكرية ممكن أن نستند عليها، لكن هذه النزاهة ستواجه عالماً معقداً وأموراً دينية ودنيوية وسياسة ومذهبية وفلسفية وإيديولوجيا، بينها قدرٌ كبير من التشابك والتحول، كتحرك وتطور وتغير الإسلام السياسي ذاته، لذلك سنقف متسائلين هل آلياتنا لفهم الإسلام السياسي مناسبة وملائمة ومواكبة لهذا التغير، أتتحكم الإيديولوجية السابقة بآلياتنا كما يتحكم فهمنا صحيحا أو خاطئاً في تلك الآليات؟ هل أخطأنا فقط في قراءة الإسلام السياسي فلم نخطئ في قراءات أخرى؟ ألم نحصد الآن أخطاء الماركسيين والشيوعيين والاشتراكيين في قراءة الفلسفة الماركسية، إذا كان أعداؤها لم يخطئوا في المطلق، وأصدقاؤها وأصحابها لم يصيبوا في المطلق. فهذه الشيوعية فشلت فشلاً ذريعاً في الواقع وقد أطال الفشل الفكري، أحياناً، بعد أن سيطرت الماركسية على عقول نصف سكان العالم تقريباً، وقُدِمت ضحايا وشهداء من أجلها، فإذا نظرنا إليها أي إلى الماركسية بعين الرضى فلم نرى السلبيات، فقد عشقناها وعشقنا مستقبلنا بها، وإذا نظرنا إليها بعين السخط فلم نرى الإيجابيات، فقد ينطبق هذا على الفكر القومي وحركات التحرر الوطني وغيرها.
نعم أنظمة الإسلام السياسي لم تنجح، لكن يجب ألا نقع في فخ عدم النزاهة. وللخروج من هذا المأزق يجب أن يقدم الباحث أوراقه مكشوفة دون تمويه، أو مواربة قبل أن يطرح أوراقه، يجب أن يعلن لنا من هو؟ ما هي دوافعه؟ ماهي أسبابه؟ ماهي أهدافه؟ لنتعرف عليه أولاً كيف يفكر؟ كيف يتعامل مع الآخرين؟ وهل يطرح موضوعه دون أحكام مسبقة أو دون قناعات مسبقة، كما تنطبق النزاهة على الباحث يجب أن تنطبق على موضوع البحث، ونهيب بالقارئ أن يكون نزيهاً أيضاً.
فالعمل السياسي والمعرفي والعلمي لا يقاس بالنية بل بالنتائج، فأي حركة سياسية كانت أو دينية يجب أن تحاسب على نتائجها ليس على نيتها، ولا نحاسبها من خلال ما يقوله الأعداء ولا من خلال ما يقوله الأصدقاء ولا من خلال ما تقوله الحركة ذاتها عن نفسها أو عن موضوعها. لقد بدأ الإسلام السياسي من سقيفة بني ساعدة والسياسة صاحبة الإسلام كظله، وما يعنينا اليوم ما الذي يميز الإسلام السياسي المعاصر؟ وحتى نقارب الحقيقة يجب أن لا نضع الإسلام السياسي في كفة واحدة وكأنه تيار واحد منسجم ومتفق، وهنا لابد من تفكيك مفهوم الإسلام السياسي ومعرفة تفاصيله ومكوناته، فيه أي (الإسلام السياسي) حركات سياسية بالغة التنوع ومتعددة الاختلاف؛ لكن يجمع بينها قاسم مشترك واحد ألا وهو مرجعيتها الواحدة، هو الدين الإسلامي (قرآن كريم وسنةٌ شريفة) ولا بد أن نميز بأن هناك إسلام سياسي حاكم، وإسلام سياسي معارض، والإسلام السياسي الحاكم يمكن أن نميز به تيارين شيعي وسني، فتوجد دول الحاكمية فيها للإسلام السياسي السني مثال: مصر والسعودية، وتوجد دول الحاكمية فيها الإسلام السياسي الشيعي مثال: إيران. أما الإسلام السياسي المعارض يمكن أن نميز به أيضا تيارين:
إسلام سياسي معارض مدني، وبه اتجاهان: مقاوم كالإخوان المسلمين في مصر، ومعاضد كحركة النهضة في تونس في فترة ما سمي بالربيع العربي، وقد يتم تغيير الأدوار حسب الظروف والمعطيات السياسة، أي يتحول المعارض إلى معاضد والعكس.
إسلام سياسي معارض مسلح “العسكري” ويمكن أن نميز فيه اتجاهين: إسلام سياسي معارض مسلح مقاوم مثال: حماس، وإسلام سياسي معارض جهادي أو إرهابي مثال: داعش.
فحتى لا نقع في خطأ قراءة عين السخط أو خطأ قراءة عين الرضى، في قراءة الإسلام السياسي بأنواعه يمكن أن نعتمد على نتائجه في الواقع معتمدين مبدأً أخلاقياً للتقييم بأن أي حركة سياسية أو دينية أو دنيوية لا يكون رأس مالها الأخلاق وهدفها تحقيق إنسانية الإنسان دون تمييز، أعتقد أنها تحفر قبرها بيدها.
يُطرح السؤال الآتي ماذا حقق الإسلام السياسي المسلح؟ ونحاول الإجابة عليه بكل حيادية ونزاهة وموضوعية: والإجابة ليست نهائية، وليست مطلقة بل قابلة للنقاش والحوار والنقد، فهي رؤية فردية تتعلق بصاحبها كما تتعلق بموضوعها، أعتقد بأنه حقق حروباً دامية كان وقودها البشر والحجر والشجر، ومن نتائجها السلبية ما يلي:
على المستوى الداخلي، ساهم بتمديد عمر الاستبداد، وتبرير حربه على الناس باسم محاربة الإرهاب، وجمع الحكام المستبدين معاضدين لهم ومناصرين نتج عنه قتل الربيع العربي، مثال: داعش والنصرة وقبلهما القاعدة في العراق وسورية ومصر وغيرها. هذه الحروب شوهت صورة الإسلام والمسلمين وحصدت الكراهية للإسلام والمسلمين، وربطت الكراهية بالإسلام، فالكل يصرخ الله أكبر القاتل والمقتول، الجاني والمجنى عليه، كما أن الإسلام المسلح(الإرهاب) ضرب الديمقراطية ضرباً في العمق، فاضطرت بعض الدول الأوروبية والأمريكية على إصدار قوانين تضييق على الحريات العامة من أجل الحد من آثار الإرهاب، كما تسبب الإرهاب أي الإسلام المسلح في قفزة اقتصادية حصد ثمار الاحتكاريين وتجار الحرب، حيث نشطت صناعات الآلات الذكية الخاصة بالأمن، وتحول قسم من الاقتصاد إلى اقتصاد موجه إلى مكافحة الإرهاب، أما إذا ناقشنا الإسلام السياسي بشكل عام وبمقارنة الإيجابيات مع السلبيات؛ نجد أن الإسلام السياسي المعارض ساهم في تشجع العمل الخيري والاجتماعي والدفاع عن الهوية ومقاومة الاستبداد وشحن روح المقاومة المعنوية العالية. فإذا قلنا إن أنظمة الإسلام السياسي لا تنجح؛ وكي لا نقع في فخ عدم النزاهة وقراءة العين الواحدة لنقارن الإيجابيات مع السلبيات، وعلى ضوء النتائج في الواقع نرى أن الإسلام السياسي لم يحقق نجاحاً حتى الآن بل حقق الفشل، وفشله مرتبط بفشل الأمة، وكلنا يعلم أن على صخرة الواقع تكسّر الإسلام السياسي كما تكسرت البدائل، سواء كانت ماركسية أو قومية أو ديمقراطية. فنحن نحصد الآن أيضاً الأخطاء التي ارتكبناها في التطبيق، فالواقع اليوم واقع مشحون بالكراهية والإحباط واليأس وما أحوجنا لإنضاج تجربتنا وتطور مستوى وعينا وعواطفنا والابتعاد عن المشاحنات الثنائية الكاذبة والمدمرة والتي ندفع غالياً ثمن رفضنا للآخر وعدم قبولنا له، وما أحوجنا أن نعزز خطاب المحبة والتسامح ورفض خطاب الكراهية والأنانية. وقد آن الأوان أن نقتنع: أن الحقيقة لا يتملكها أحد بمفرده، فالتعددية وقبول الآخر هي الأرض الخصبة للخلاص، فإذا استندنا لمبدأ هيّا لنفكر معاً نستطيع أن نتغلب على هذا الواقع المعقد، وأنا مقتنع مثلك أخي في الإنسانية: لا يوجد حل سحري، ولا توجد أيديولوجية بذاتها قادرة على تحليل الواقع ورسم معالمه ووضع آليات الحل. لنعمل معاً على صياغة حلم جديد بعيد عن الإيديولوجيات الجاهزة، لنتوحد جميعاً ونعمل بعقل منفتح في البحث عن حلول لحياة صعبة ومعقدة بعيداً عن الإحباط واليأس، وبالاعتماد على معرفة الواقع وتشخيص الموضوع بدقة، وإن كان موجعاً، ونرسم أحلامنا ونعمل معاً من أجل تحقيقها.