
الإسعاف الاجتماعي للسوريين بعد النصر
المصيبة
المجتمع السوري يعيش أزمة معيشية تكاد تكون مجاعة لبعض الأسر الفقيرة سابقاً. لقد أمضيت شخصياً كل شهر شباط 2025 في سورية ورأيت بأم عيني درجة الشقاء والبؤس عند كل السوريين، وخاصة ما كان يسمى “بالطبقة المتوسطة والفقيرة”. وهم يشكّلون ما يقارب نحو 75% من مجموع السكان السوريين المتواجدين داخل سورية. وهذا الواقع السيء قد وصفته الأمم المتحدة بأن غالبية السوريين بحاجة الى الإعانة الغذائية تجنباً للمجاعة أيام النظام البائد. وازداد الأمر سواداً مرحلياً بعد سقوطه.
والمصيبة اليوم، أن تكلفة الاحتياجات الاجتماعية للسوريين كبيرة جداً، وإن الموارد المالية للحكومة الحالية شبه معدومة، حتى بعد مرور نحو أربعة شهور على سقوط الأسد.
نعم. لقد تشكّلت حكومة انتقالية في سورية، وبدأ بصيص الأمل يكبر في قلوب البؤساء. ونحن نعرف إن من يجلس على كرسي الحكم عادة لا يرى أمامه من القوم إلا خيالاً لا يسمعه (إلا من رحم ربي). وهنا بهذه الخاطرة نقول فعلاً ما نراه حقاً لنا ولأهلنا على من تولى أمرنا، مهما كانت صفة واسم الحاكم: أسعفوا الناس فقد هلكوا. وإن لم تستطيعوا فافسحوا الطريق لرحمة الله عسى أن تسعفهم.
الإسعاف والعقوبات
الإسعاف من اسمه حالة طارئة ومؤقتة. والعقوبات الدولية لم تكن عائقاً فعلياً أمام الإغاثة. ويجب ان نعترف ونشكر كثير من الدول الغربية لأنها ساعدت السوريين “المعترين”إسعافياً وإغاثة على مدى 14 عاماً، حتى داخل منطقة نظام الأسد. ولولا هذه المساعدات المستمرة حتى اليوم (رغم العقوبات السياسية المستمرة أيضا) لكنّا رأينا ملايين السوريين يسقطون صرعى الجوع. اليوم المبررات السابقة للعقوبات انتفت. ولكن يبدو إن هناك مبررات جديدة ظهرت. والله يستر. وعلى أية حال، فإن العقوبات لا تمنع المساعدات الاغاثية التي زادت الحاجة اليها الآن. ولكن تلك العقوبات ستحبط عزيمة الدول من إعطاء المزيد تجنّباً لغضب الدول المؤثرة.
وخلاصة قولنا هنا إن العقوبات لن تقيّد وضع وتنفيذ برنامج للإسعاف الوطني، وإنما تخفض زخمه الخارجي فقط. بينما المهمة الأولى تقع على عاتق الحكومة السورية وليس المنظمات الدولية أو….
أولاً: الشرائح السكانية المؤهلة للإسعاف
الإسعاف الاجتماعي المقصود هو لفظاً إسعاف، مؤقت وبسيط ريثما يتحسن الوضع الاقتصادي ويتمّ إنشاء مؤسسات اجتماعية دائمة للعناية بالمحتاج الدائم وفق أسس اقتصادية، وإنسانية، واضحة، ومراقبة.
وسوف نضع المؤهلين لهذا الإسعاف الاجتماعي ضمن شريحتين واسعتين:
1- الشريحة الأولى: هم الفقراء عامة قبل انطلاق الثورة عام 2011. وهذه الشريحة السكانية الأكبر حجماً والتي هي عام 2025 معرضة للمجاعة التامة وليس مجرد الجوع. ويعيش أفراد هذه الشريحة في الأحياء العشوائية في المدن ونسبة كبيرة من سكان الريف وخاصة في مناطق العمليات العسكرية. ويقدر الأفراد في هذه الشريحة بنحو 5 مليون نسمة أو ما يعادل نحو 40% من السكان المقيمين داخل سورية عند سقوط الأسد. وهذه تقديرات مهذبة جداً. وقد ساهم الدمار الأسدي العسكري ثم حرب النظام الاقتصادية على السكان في دفع هذه الشريحة ليس إلى الفقر المدقع، بل إلى المجاعة. ولولا المساعدات الأممية، وتحويلات المغتربين لكان معظم أفراد هذ الشريحة في عداد الأموات.
2- أما الشريحة الثانية هم أسر الشهداء و… التي تحتاج هذا الإسعاف الاجتماعي فهي تضمّ أسر الشهداء، ومصابي الحرب، والأرامل، والأيتام. ويقدر عددهم بنحو 2 مليون نسمة. إن أسر هذه الشريحة تعاني معاناة إضافية معيشية وإنسانية فوق ما يعانيه بقية السوريين.
ثانياً: برنامج الإسعاف المقترح:
إذن كيف سيكون شكل نظام الإسعاف الاجتماعي المقترح؟. هذا لا يمكن أن يكون إلا برنامجاً حكومياً تمويلاً وإدارة، ولكن ليس حكومياً بالكامل، بل بمشاركة المؤسسات والقنوات القائمة في القطاع الاجتماعي والخاص. ومن الأرقام الواردة أعلاه يوجد لدينا نحو 7 مليون نسمة. وإذا افترضنا أن الحكومة سوف تدفع ما يعادل 20 دولار شهرياً للشخص. وهذا يضع التكلفة الشهرية بحدود 140 مليون دولار شهرياً. ومن المتوقع مساهمة الأطراف بحدود 40 مليون شهرياً، والحكومة نحو 100 مليون دولار شهرياً. إلا أنه من الممكن وضع آليات للمساهمة المحلية والجمعيات بالإضافة إلى أي مساعدة دولية نقدية أو عينية. وهذا يعني إن الحكومة ملزمة أخلاقياً وسياسياً بتخصيص سيولة مالية في البداية لا تقل عن 25% من الاحتياجات ريثما تدور عجلة البرنامج وضمان انخراط المجتمعات المحلية والمساعدات الأممية.
من الصعب اليوم تقدير الأعداد المستحقة فعلاً للإسعاف. ولكن يمكن استخدام البيانات المتاحة من أنشطة المساعدات الحكومية ومن بيانات المساعدات الأممية وحتى بيانات الجمعيات الخيرية المحلية. وربما يبدأ البرنامج إسعافات بسيطة ثم تزداد تدريجياً مع ازدياد الثقة بالبيانات
ولهذا فإنه من الضروري الإسراع بوضع برنامج اسعاف مبسط يتكون من:
1- الإغاثة العينية
الاغاثة العينية يمكن تأتي من تمويل الحكومة السورية، ولكن تاريخياً كانت تأتي من إعانات الدول والمنظمات الدولية بالمواد الغذائية والطبية والطاقة، ومن مساهمات المجتمعات المحلية. ودور الحكومة حاسم في ضمان وصوله، وهذا الدعم العيني هو الأسرع والأسلم لضمان وقف المجاعة المتفاقمة.
2- صندوق الإسعاف الاجتماعي (نقدية)
ربما يكون إنشاء صندوق الإسعاف هو الدعامة الأساسية لبرنامج الإسعاف هذا. اجتماعي مالي بمثابة إعانة اجتماعية للأسر من المناطق المتضررة للفئات أعلاه والفئات الأخرى الفقيرة مثل المطلقات والأرامل.
توفير نظام رعاية مالية لجرحى الثورة وأسر الشهداء تكريماً لتضحياتهم وتحسين أحوالهم المعيشية والإنسانية.
ثالثاً: البرنامج الاقتصادي السريع لمعالجة الفقر والبطالة وتوزيع الثروة
وهذا البرنامج ليس إسعافياً بالدرجة الأولى وإنما هو نشاط حكومي مؤقت وسريع من خلال الأدوات الاقتصادية لمواجهة مشكلتي الفقر والبطالة من ضمن المسؤولية الاجتماعية للحكومة أمام الشعب.
1- تفعيل مؤسسات مكافحة البطالة:
مشكلة البطالة في سورية اليوم مأساوية ونسبتها لا تقل عن 70% من قوة العمل. ولن ندخل في أسبابها و…. وإنما يجب تفعيل مؤسسات فرص العمل للعاطلين مثل هيئة مكافحة البطالة التي كانت وستكون من أهم مؤسسات خلق فرص العمل الدائمة في القطاع الخاص من خلال أنشطة التمويل السريع للمشاريع الفردية. وكذلك تفعيل مؤسسات التدريب المهني العاجل لتلبية احتياجات إعادة الإعمار. ويمكن تفعيل أي مؤسسات أخرى بعيداً عن مكاتب التشغيل المعنية بالتوظيف الحكومي.
2- سياسة العدالة الاجتماعية في الفقر والدخل
تعبير العدالة الاجتماعية تعبير سياسي اجتماعي اقتصادي يعني التزام الدولة بتوفير الحياة الكريمة لأبنائها من الفئات الضعيفة. وهو يستلزم زمنا أطول من الإجراءات الاسعافية المذكورة أعلاه لأنه قد يستغرق من عقد من السنوات إلى عقدين حيث تتخذ الدولة إجراءات وسياسات اقتصادية بقصد تخفيف الفقر وتحسين توزيع الدخل بين المواطنين. وهذه السياسات مطلوبة عندما تتبنى الدول نظام اقتصاد السوق الحر، كما أعلنت الحكومة الانتقالية الجديدة منذ سقوط نظام الأسد.
ومكونات العدالة الاجتماعية عديدة، وهي المبنية على مبدأ استغلال العائد الاقتصادي للسوق الحر في تصويب أخطاء الاقتصاد الحر اجتماعياً وفق آلية اقتصاد السوق. وسوف يقتصر حديثنا هنا على المبادئ العامة لبندين رئيسيين هما: 1- تقليل الفقر، و2- عدالة توزيع الدخل بين المواطنين، كالآتي.
2-1- تخفيض مستوى الفقر:
وهذا البند هو أكثر إلحاحاً في المجتمعات التي شهدت حروباً مثل الثورة السورية. وتشمل إجراءات مكافحة الفقر 1- توزيع إعانات عينية بشكل متواصل للأسر الفقيرة حتى ما بعد برنامج الإسعاف، 2- تخصيص برامج محددة للمساعدة النقدية للنساء وخاصة الأرامل والمطلقات في تغطية جزء من تكاليف المعيشة، 3- المساعدة في توفير السكن الرخيص للأسر الفقيرة، 4- تقوية برامج الرعاية الصحية والتعليم الموجهة إلى الفئات الضعيفة.
وعلى المستوى الوطني فإن العدالة اقتصادياً غير المباشرة تقوم على وضع نظام ضريبي يوازن بين الضرائب على الأغنياء ووجود حوافز ضريبية عند الفقراء مصحوبة بإجراءات إدارية منحازة للفقراء.
والمجتمع السوري اليوم فقيرٌ جداً، وينتشر الفقر بنسبة تتراوح بين 75% الى 90% من السكان هم تحت خط الفقر بدرجات متفاوتة. وخاصة بين كلّ الأسر ذوي الدخل المتوسط والدخل المحدود بعد سنوات من الحرب والاجرام الأسدي، ثم التضخم العالي جداً الذي التهم حقوق الناس، رافقه انهيار سعر صرف الليرة السورية تجاه عملات العالم. وتنتشر مظاهر الفقر الجارحة للضمير الإنساني بين النساء والأطفال وكبار السن، ومعظم مناطق الريف. والتسوّل الواسع بدمشق هو دليل ظاهر على عمق الأزمة الحالية.
2-2- تحسين توزيع الدخل والثروة
إن سوء توزيع الدخل هو أهم مفاسد النظام السوري البائد مؤسسياً وبشرياً رغم إن الضجيج الإعلامي للنظام كان يروّج عكس ذلك. ولهذا نرى تبايناً فجاً في مستويات المعيشة بين المواطنين والمناطق وحتى الأحياء في ذات المدينة. ومعظم سياسات تحسين توزيع الدخل الناجحة في العالم تقوم على نظام ضريبي اقتصادي اجتماعي متوازن. وعندما يكون في سورية مجلس نواب منتخب ديمقراطياً فإن الخطوة الأولى هي عملية نسف للنظام الضريبي الحالي الفاسد واستبداله بنظام عصري.
2-3- تفعيل دور الزكاة:
ضرورة تفعيل نظام الزكاة الإسلامية لأنها أداة واجبة شرعاً، وممتازة اقتصادياً واجتماعياً لمن يستوعب مضامينها. والزكاة بمفهومها العام كانت أول خطوة لتعديل الخلل الاقتصادي في المجتمع.
وأخيراً
لهذا فإن خطة بناء الوطن تبدأ بمعالجة مصيبة الفقر بعيداً عن منظمات الإغاثة الإنسانية. ولن تحقق هدفها مالم يتم وضع واعتماد منهاج للعدالة الاجتماعية. وهذا المنهاج ضروري لإنصاف المواطن السوري من مصيبة النزوح واللجوء ومن ظلم الفساد والقمع. وبالطبع ما أوردناه هنا لا يتجاوز العناوين الرئيسية للإسعاف الاجتماعي المقصود لإن كل عنوان بذاته يحتاج إلى جهدٍ خاصٍ ومعمّق، حتى يعطي مردوده على الناس وعلى الوطن.