الأقليات – الانتقال السياسي – الفيدرالية واللامركزية.. تحديات تواجه بناء سوريا الجديدة
من حصاد الشهر الأول لما بعد سقوط الأسد يمكن أن نلاحظ مجموعة من العوامل الداخلية والمواقف الدولية والإقليمية من المسار الجديد ومنها:
1- مشكلة الأقليات
معروف أنّ بلاد الشام هي مهد الحضارات وأرض الرسالات وهي قلب العالم القديم الزاخر بالتاريخ، ومن البديهي أن يَضمّ جماعات بشرية سكنت المنطقة منذ آلاف السنين منها ما اندثر ومنها ما هو باق لحد الآن، وتلك المكونات حافظت على ثقافتها وعرقها وديانتها وتعايشت مع الآخر الذي احتفظ هو أيضاً بخصوصيته الثقافية والدينية والعرقية، ولم يُفكّر أحد بإلغاء الآخر و خاصة المسلمون الذي حكموا المنطقة منذ فتح بلاد الشام، فالبعض من السكان حافظ على دينه وعرقه وبقي لحدّ الآن كذلك، ومنهم من اعتنق الدين الجديد وحافظ على لغته وثقافته وعرقه، ومنهم من استعرب وأخذ اللغة والدين والثقافة وأصبح عربياً مسلماً، وعاش أهل بلاد الشام على هذه الحال، ولم يُخبرنا التاريخ عن محاولات لإبادة الآخر رغم تعرض المنطقة للغزوات الصليبية وغزو المغول والتتار وأربعمائة سنة من الحكم الإسلامي العثماني.
ويخبرنا التاريخ الحديث أنّ اتفاقية سايكس بيكو تمّ بها تقاسم تَرِكة الدولة العثمانية بين المنتصرين، حيث تمّ إنشاء الدول العربية على أساس المصالح الجيوسياسية لبريطانية وفرنسا وليس على أساس ديني أو عرقي، باستثناء أنّ بريطانيا اعطت وعد بلفور لإنشاء كيان يهودي في فلسطين يكون رأس حربة للغرب في المنطقة، ولتخليص أوربا من اليهود الذين كانوا مكروهين في معظم أنحاء القارة العجوز.
وبالأساس كان تدخّل الغرب بالدولة العثمانية المريضة في أواخر عهدها بحجّة حماية الأقليات وأخذ امتيازات لهم تهدف لإضعاف السلطنة وخلق حالات عدم استقرار مجتمعي داخلها، وكل ذلك كان يتمّ في إطار الصراع الإمبراطوري على المصالح.
كان الفرنسيون والذين يدّعون العلمانية في بلادهم يسعون لتفكيك وتركيب حصتهم من سايكس بيكو على أساس طائفي لتسهيل السيطرة عليها، فقد تمكنوا من إنشاء دولة لبنان الكبير للموارنة الكاثوليك بعد أن ضموا إلى متصرفية جبل لبنان بعد الأقضية المتنوعة طائفيا، وأنشؤوا في سوريا دويلات طائفية دولتان للسنة في حلب ودمشق ودولة للعلويين ودولة للدروز.. أسقط كل تلك الدويلات السوربون بقرارهم العيش المشترك مع بعضهم في ظلّ دولة واحدة ومجتمع واحد.
وبالتالي فإنّ كل الدعوات الغربية لحماية الأقليات في سوريا لا تنطلق من حرص عليها بل لخلق ذريعة للتدخل في شؤون الدولة السورية، ويرى البعض أنّ الإلحاح الغربي على تلك المسألة (بمناسبة أو بدونها) هو مُوجّه لجمهور بلدانهم وذلك لتبرير اعترافهم السياسي بالحكم الجديد وتبرير رفع العقوبات المفروضة عليه، بمعنى أن الاعتراف ورفع العقوبات تَم بشروط تضمن معانٍ وقيم إنسانية عليا..
إضافةً إلى خلق نوع من الاضطراب المجتمعي المسيطر عليه لوضع القيادة الجديدة تحت الضغط وإيهام الأقليات بالتحرك ضدّ الدولة على اعتبارا أنّ سنداً أو غطاءً دولياً مؤمّن لهم.
أعتقد أنّ المكونات السورية التي تخلصت من ديكتاتورية مقيتة بلبوس طائفي لن تنجرّ إلى تلك المزالق.
2- الانتقال السياسي
عندما كانت بوصلة الحل السياسي السوري تتبنى القرار الدولي 2254 والذي يتبنى تشكيل هيئة حكم انتقالي بالقراءة الغربية وحكومة وطنية موسعة بالقراءة الروسية استناداً إلى ميزان القوى القائم، حينها كان القرار الدولي وصانعوه يلحظون فريقين سياسيين متصارعين هما النظام وما يُمثّل من كل الطائفة الداعمة له مع داعمين له من طوائف أخرى وكان العنوان السياسي لهذا الخليط هو النظام المعترف به دولياً، وعلى الضفة الأخرى كانت الثورة السورية بحاملها السني الكبير وأطياف من المجتمع السوري التي انضمت باكراً أو لاحقاً للثورة السورية وكان العنوان السياسي لها هو قوى المعارضة السورية.
بسقوط نظام الأسد والذي أصرّ على الحسم العسكري لصالحه ولم يقبل أبداً بأيّ خطوة من خطوات الانتقال السياسي، وبوصول قوى الثورة إلى السلطة وتبخّر النظام انتهت عملياً كل مضامين القرارات الدولية وأصبح السوريون يملكون إدارة عملية سياسية سورية جديدة لا وجود فيها لطرف رئيسي كان موجوداً سابقاً.
ما أراه أنّ الإلحاح في إطلاق تسميات الانتقال السياسي كلمة حق يُراد بها باطل وهي كالدعوة لحماية الأقليات ويُراد بها الاستمرار في تشكيل ضغوط خارجية للتدخل بشؤون الدولة.
في المرحلة القادمة يجب عدم تجاهل حقيقة قائمة وهي أنه لكي تكون الدولة مستقرة والمجتمع متماسك يجب أن يكون رئيس الدولة من الأغلبية العربية السنية وإن لم يُذكر ذلك بنص دستوري بل أن يكون العرف يتضمن ذلك، لأنّ من تَلقّى البراميل المتفجرة وتم ضربه بالأسلحة الكيماوية وتم قتله في السجون على الهوية وتمّ إجباره على النزوح واللجوء لن يقبل أن يقع في الحفرة مرة أخرى إلا بعد التعافي المجتمعي الكامل وترميم الشروخ واندمال الجروح وبناء مجتمع مدني قوي عابر للهويات الأهلية.
الانتقال السياسي الذي يتم المطالبة به هو في الحقيقة غطاء لتفتيت المجتمع وإضعاف تجربة بناء الدولة الجديدة، فلا يوجد الآن أيّ أجسام سياسية وازنة تُمثّل الشارع وتتكلم باسمه وعملية تشكيل تلك الأجسام تحتاج إلى وقت لتبلورها، ونرى الآن رجال دين هم من يتكلمون باسم مكوناتهم وعندما يتكلم أيّ رجل دين بمشاركة فهو يقصدها محاصصة طائفية وإن لم يقلها وبالتالي انزلاق النموذج السوري نحو العرقنة واللبننة وهما أسوأ نماذج حكم قَدّمها الفرنسيون والأمريكان للدولتين الجارتين عندنا كانتا هما المقررتان لمستقبلهما السياسي.
لذلك التشاركية السياسية بدون محاصصة واعتراف كامل بنخب وكفاءات الجماعات الأهلية وانخراطها في بناء الدولة الجديدة هو المُعوّل عليه في المرحلة الانتقالية ويكون بالتوازي مع ذلك يتمّ إنضاج تشكيل الأحزاب والتيارات السياسية الوطنية البرامجية (دون سلق) لكي تكون جاهزة لتداول السلطة مستقبلاً وفق الدستور الجديد وبانتخابات نزيهة يديرها السوريون بأنفسهم.
3- الفيدرالية واللامركزية
الفيدرالية والمركزية أو اللامركزية فتلك طرق تختارها الشعوب لإدارة شؤونها، وهي ليست أيدولوجيا واجبة التطبيق وهي ليست من منتجات الحداثة الواجب تبنّيها.
أعتقد لا مكان للفيدرالية في سوريا بكل أشكالها لأنها تفترص وجود دويلات أو مقاطعات مستقلة وتوفّرت رغبة في أن تجتمع إرادياً في دولة واحدة لتحقيق مصالح تلك الولايات مجتمعةً ويشرطون الاحتفاظ بخصوصيات معينة لكل مقاطعة وإدارة شؤون خاصة بها، وفق ما يلائم سكانها ويشتركون بالدولة الإتحادية مع بقية الولايات بالمصالح العليا، وباعتبار سوريا بلداً واحداً فلا يمكن تجزئته لولايات بحجة الفدرلة ثم تجميعه بدولة اتحادية، ولكن يمكن للفدرلة أن تنجح فيما لو افترضنا توافق الشعبان السوري واللبناني على تشكيل دولة واحدة اتحادية عندها تكون الدولة الإتحادية الجديدة مؤلفة من فيدرالية لبنان وفيدرالية سوريا.
أما طريقة الإدارة بإعطاء سلطة أوسع للأطراف وتخفيف سيطرة المركز وتسمى باللامركزية ولها أصناف شتّى، فيوجد لامركزية سياسية وهي لا تُناسب مجتمعنا السوري حيث قد يؤدي سوء تطبيقها إلى تعبيد طرق للانفصال عن المركز وقد يكون للعوامل الخارجية الدور الأكبر في ذلك وليس لمطالب داخلية، أما اللامركزية الإدارية فهي قد تكون مفيدة في مجتمعات منسجمة و ليس مجتمع خرج لِتوّه من أتون حرب مدمرة ألقت بأوزارها وتبعاتها بالطبع على المجتمع السوري، وممكن بعد لَمّ الشمل وبناء مؤسسات الدولة أن تكون هناك فائدة لاعتماد نظام إداري لامركزي للدولة المستقرة لمن يرغب من المحافظات في ذلك.
توجد في سوريا الآن فيدراليات روحية تتعلق بتسيير شؤون الطوائف الدينية كالأحوال الشخصية وقانوني الإرث والزواج يمكن الاستمرار بها وتطوير عملها إذا كانت هناك رغبة في ذلك مع وجود القوانين العامة المدنية على مستوى الدولة والتي تُنظّم شؤون الناس.
أعتقد أنّ ما يناسب سوريا في الخمس سنوات القادمة (على الأقل) وجود حكم مركزي قوي في العاصمة يعمل على تحقيق الأمن والاستقرار والنهوض بالاقتصاد وتحقيق المصالح الوطنية كلها ورعاية مصالحة تاريخية بين فئات الشعب السوري والعمل الجاد على تكوين هوية وطنية عامة والوصول لوطنية سورية أو شعور وطني سوري مُوحِّد لكل تلك الفسيفساء والتي تصدّعت بسبب ديكتاتورية عائلة الأسد واستثمار منجزات الثورة الاجتماعية لتحقيق تلك الأماني لبلدنا الواحد الحر المستقل.