fbpx

الأسد من التحجيم إلى التحطيم.. لا يوجد تعويم

0 5٬213

تكتسب منطقة الشرق الاوسط أهمية جيوسياسية عبر التاريخ، فهي قلب العالم وتمرّ منها معظم الطرق التجارية البرية والبحرية وحديثاً الجوية، وفي القرن الأخير زادت الأهمية لتلك الطرق حيث صارت ممراً للطاقة المنتجة في المنطقة أو التي تمرّ منها، وكان لِزاماً على الغرب طرد الدولة العثمانية من المنطقة العربية وصياغتها وفق إستراتيجياتها، فكان وعد بلفور ومعاهدة سايكس بيكو، وانكفأ أتاتورك في حدود بلاده بعد اتفاقية لوزان.

وتَمّ إنشاء الدول في بلاد الشام والعراق وفق المصالح الغربية وهي لم تتغيّر ولضمان عدم تغييرها أنشِئت دولة إسرائيل كرأس حربة غربي للحفاظ على تلك المصالح، وكانت الرعاية الغربية مطلقة للدولة العبرية، ولم يحدث أيّ تَبدّل في هذا المشهد سوى تَصدّر الولايات المتحدة لقيادة المنظومة الغربية بعد الحرب الكونية الثانية وانكفاء بريطانيا وفرنسا للخلف قليلاً..

وبما أنّ اختيارات الشعوب مُعطّلة في اختيار زعمائها وطبيعة نظام الحكم وشكل الدولة، فإنّ العامل الخارجي يبدو مؤثراً جداً في وصول هذا الزعيم للسلطة أو في اقتلاعه منها، وليس بالضرورة أن يكون مباشراً كما حدث مع صدام حسين ومعمر القذافي، بل يمكن أن يكون بوضع العقبات والعراقيل أو تجهيز انقلابات أو أيّ مما يؤدي لاحقاً إلى طرد من لا يتوافق مع نظرة الغرب للمنطقة.

أسّس الأسد الأب نظاماً شمولياً للحكم، وانحاز للكتلة السوفييتية، لكنه لم يكون خطراً على المصالح الغربية بل خدمها جداً بمواقفه من القضية الفلسطينية وإثارة الفرقة بين العرب وتحالفه مع ثورة الخميني، وكانت أدواره الوظيفية في لبنان وحرب الخليج الأولى والثانية يؤديها على أكمل وجه، وكان يُصنّف من الأعدقاء.

لذلك الغرب عموماً لأنه يريده في السلطة، كان يُغمض عينيه على جرائمه بحقّ شعبه والشعوب المجاورة، ولم يلتفت كثيراً لدعمه منظمات ارهابية ورعايتها ولم يرَ مجازر تل الزعتر ومجزرة سجن تدمر ومجزرة حماة، ولم يُسلّط عليها الأضواء إعلاميا ولم يقوم بأيّ إجراءات قانونية أو سياسية بل حتى أخلاقية رغم كل ما تحمله منظومته ونموذجه من القيم النبيلة، وعاش رفعت الأسد لربع قرن متنقلاً بين الدول الأوربية يحمل أمواله المنهوبة من الشعب السوري، مع علم الجميع انه اليد اليمنى لحافظ الاسد في كل مجازره، ويتمّ اتهامه مباشرةً بتنفيذ مجزرتي حماة وسجن تدمر، ولم يلاحَق في أوربا إلا العام الماضي وعلى خلفية تهربه من دفع ضرائب وذلك إشارة لقطع كلّ العلاقات المستقبلية مع عائلة الأسد بماضيها وحاضرها ومستقبلها.

ومات الأسد الأب على فراشه واورث الحكم لابنه، وهذه طريقة الغرب في الحفاظ على حكام دول المنطقة الذين يريدون استمرارهم مع عدم نسيان فرض بعض العقوبات الاقتصادية ومطالبات المنظمات الحقوقية وانتقادها لذلك النظام.

بارك الغرب عبر مادلين اولبرايت وراثة الأسد للحكم، وبالتأكيد أعطته الوصايا العشر الرئيسية إذا ما اراد حجز حظوة له (مثل أبيه) عند الغرب.

بعد ضربات ايلول 2001 (وهذه الحالة لم تُصادف والده) تغيّرت كثير من السياسات والإستراتيجيات الأمريكية في العالم وفي الشرق الاوسط خاصةً، حيث تمّ غزو أفغانستان والعراق خلال أقلّ من عامين.

يقال إنّ الدور بعد العراق كان على سوريا، والمح كولن باول بذلك أثناء لقائه الاسد في عام 2003 وذلك تنفيذاً لمبدأ الفوضى الخلاقة في تحطيم الدول والمجتمعات واعادة تركيبها وفق المصالح الأمريكية.

عمل الأسد وفق خطة رسمها له قاسم سليماني لإفشال الغزو الأمريكي للعراق فكان فتح الحدود ودعم تنظيم القاعدة، ومرّ الأسد من العاصفة الأمريكية التي تَورّطت بالعراق ولم تعد بحاجة لتجارب أخرى.

ارتكب الأسد حماقته الثانية مع الغرب في قتل الرئيس الحريري لكن ذلك لم يقطع التخادم وتم الاكتفاء بطرده من لبنان فقط عقوبة له على ذلك.

أعادت جهود الرئيس الفرنسي ساركوزي والقيادة الإسرائيلية الأسد إلى وصل بعض الخيوط المقطوعة مع الغرب، ولم ينزعج الغرب كثيراً لبرنامج نووي سوري تمّ إجهاضه باكراً.

بعد بداية الثورة السورية راقب الأسد ردود الفعل الغربية والأمريكية خاصةً على التدرّج في استعماله لكمية ونوعية العنف المُوجّه ضد الثائرين عليه، وأدرك ألا موانع من ذلك والضوء الأخضر متاح له بشرط عدم استعمال الأسلحة الكيماوية، ووجدت الولايات المتحدة الساحة السورية فرصةً مناسبةً لاستنزاف الخصوم (خاصة الجهاديين الشيعة والسنة) وإيقاع مقتلة فيما بينهما، مما يُضعف قُدراتهم عن التخطيط لشنّ هجمات في أوربا و الولايات المتحدة، وتمّ فتح كل الطرق لتنظيف المجتمعات الغربية وتسهيل وصول الجهاديين لسوريا ومدّهم بالسلاح عبر دولة خليجية معروفة، وعدم تمكين أحد من الفريقين من الظفر بالآخر.

وكان غضّ النظر عن ميليشيا النظام وفيلق القدس بِإلقاء كل الحمم على القوى العسكرية والحاضنة المدنية للثورة السورية لإنهاكها وعدم السماح لها بالتزوّد بسلاح مناسب للدفاع عن نفسها وذلك لتحقيق شعار عدم انتصار المعارضة وعدم هزيمة النظام.

تجاوز الأسد خطوط أوباما الحمراء وأحرجه امام شعبه والعالم وأضرّ بمصداقية الولايات المتحدة وجبروتها، وحصلت صفقة الكيماوي والقرار الدولي 2118 ولم تنقطع الحبال الأسدية مع الغرب.

إستفاد الأسد من الظرف الدولي والإقليمي وخَدَمه كثيراً في عامي 2014 و2015.

حيث غزى الرئيس الروسي شبه جزيرة القرم واحتلها وضمّها لبلاده، وكان الرد الغربي باهتاً وكان حلف الناتو غير جاهز للتصدي لغزوات أو مغامرات روسية أخرى، لم يُمانع الأمريكان من دغدغة الأحلام القيصرية لبوتين في التدخل في سوريا لكي يصبح قوة عظمى (باعتقاده) ويُحقّق ما خسره السوفييت من نفوذ في البحر الأبيض المتوسط، ورأى الأمريكان هذا احتواء له لإشغاله واستنزافه في سوريا، وإيهامه أنه يمكن للقيصر يوماً ما على المقايضة بين سوريا وأوكرانيا.

واستفاد الأسد من المفاوضات الأمريكية – الإيرانية للوصول لاتفاق نووي تم الوصول إليه والتوقيع عليه في تموز 2015، ولم تتناول تلك المفاوضات سوى الملف النووي، وكانت سوريا إحدى المُحفّزات الأمريكية للإيرانيين فقد اخذوا ضوءاً برتقالياً للدخول بكل وحشية لسوريا والاستعانة بالروس بعد فشلهم في حسم المعركة لكن دون السماح بانتصارهم.

بعد أن بدأت موازين القوى على الأرض بالتغيّر لمصلحة الأسد بعد 2015 كانت الخطة الأمريكية تفويض الروس بإنجاز حلّ في سوريا يُلبي معايير وضعوها هم، ولا أظنّ أنّ مانعاً من تعويم الأسد قد ظهر لحدّ الآن.

وبالطبع كان ملف قيصر جاهزاً في الأدراج ومستوفي لكل شروط إعلانه للملأ، وكان القرار بذلك سياسياً لأنّ احتمال التعويم والضمان الروسي للحل مازال قائماً.

بعد تسليم الجنوب السوري وتعهد الروس بإنجاز تسوية جزئية تكون قابلة للتعميم على سوريا كلها، وعندما اكتشف الأمريكان كذب الروس وخداعهم ومحاولتهم للسيطرة الكاملة على سوريا وفرض تسوية على مقاسهم، انقلب الموقف الأمريكي تماماً من الأسد وبالطبع من كل السياسات الروسية في سوريا، ومما ساعد في ذلك خروج الرئيس ترامب من الاتفاق النووي مع إيران في أيار 2018.

والخطوات العملية الأمريكية تجلّت بالإعلان حيثيات ومستندات قانون قيصر ونشر الصور المريعة وسنّ القوانين التي تمنع من اعادة تدوير النظام، وكان من أهمّ الإجراءات الأمريكية التموضع العسكري شرق الفرات رغم الإعلان رسميا في آذار 2019 عن انتهاء مهمة تدمير د ا ع ش، وحرمان خزينة الأسد من موارد شرق الفرات واهمها النفط، ويستحيل تعويم أيّ حكم بحرمانه من موارده الذاتية وفرض العقوبات عليه لمنع مساعدته من الخارج.

بدأ الأسد يفقد فرصة التعويم بعد فشل الاتفاق النووي وبروز مواجهة قريبة مع إيران لمنعها من امتلاك التقنية النووية، وتموضع الأسد رغماً عنه (أو برغبته) في محور إيران.

لم يُفضِ مسار أستانة إلى نتائج يُعوّل عليها بتعويم الأسد بعد ان فشل الروس والإيرانيون في منع تمركز قوات تركية في الأراضي السورية واستمرار المعارضة السورية المدعومة منها بالسيطرة على 12% من الجغرافيا السورية، ولم يؤدي المسار الأستاني إلى فرض حلّ على الأرض كأمر واقع يؤدي في نهايته لتعويم الاسد.

ثم تلقى الأسد ضربتان قاصمتان تُعيقان تعويمه، الأولى كانت بالقطيعة الكبرى بين الروس والأمريكان بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، حيث انشغل حليفه وراعيه الأكبر في حربه وهمومه وتضميد جراحه وأصبح الروس كفار قريش عند الأمريكان.

والضربة الثانية بعد حرب غزة، حيث بدأت الإستراتيجيات الغربية بالتبلور لاستئصال التمدد الإيراني من المنطقة وبناء شرق أوسط ويستفالي جديد يمرّ منه ممر البهارات الهندي وخطوط الطاقة لأوربا التي استغنت وإلى الأبد عن الطاقة الروسية.

كانت الرسائل والإشارات الغربية لا تنقطع عن أنّ الأسد ونظامه أصبح جزءاً من الماضي ولا يوجد حضور له في مستقبل سوريا، فكانت الاتهامات الدولية القضائية والحقوقية لا تنقطع عن تذكير الجميع بمجازر الأسد وتبنيها من وسائل الاعلام المرموقة (والتي هي إحدى مُكوّنات الدول العميقة والتي تصنع الرأي العام) كمجزرة التضامن على سبيل المثال، وتذكير المنظمات الحقوقية والأممية باستعمال الأسد للأسلحة الكيميائية ضدّ شعبه، واستمرار ملاحقة واعتقال ومحاكمة أعضاء سابقين خدموا في أجهزة النظام كمجرمي حرب وبالحقيقة هي محاكمة للنظام بِرمّته ولرئيس النظام.

وكان القضاء الفرنسي قد اتهم مؤخراً بشكل لا لبس فيه وبقرار مبرم في ضرورة القبض على الأسد كمجرم حرب وسوقه للعدالة الفرنسية، إضافةً لمذكرة سابقة من محكمة العدل الدولية، ولم يُقصّر الأمريكان في إقرار قانوني كبتاغون 1و2 يدينا رأس النظام (وتسميه بالاسم) بتصنيع وتهريب المخدرات إلى العالم أجمع..

لم يُقدّم العرب دولاراً واحداً للأسد رغم إحضاره إلى قمتي جدة والمنامة وفتح بعض السفارات، ولم يتنازلوا عن عنوان ثنائي للملف السوري وفق القرارات الدولية وهو نظام ومعارضة يُمثّلان السوريين وليس نظام الأسد وحده الذي يحتكر التمثيل القانوني وليس الشرعي بحكم الامر الواقع والعلاقات الدولية.

ويلوح في الافق إقرار قانون تجريم الولايات المتحدة للتطبيع مع الأسد حيث تمّ تأجيل إقراره لظروف تكتيكية، كما أنّ المسار الذي رعته موسكو بين انقرة ودمشق يبدو أنه وُلِدَ ميتاً.

على وقع رسم خريطة المنطقة بعد الحروب الجارية الآن أو التي ستجري قريباً، والتي سيتم إعادة رسم خريطة المنطقة من اليمن حتى تركيا وفقاً لنتائجها، وسيتمّ فيها تغيير معادلات القوة في المنطقة وتغيير انظمة ومعادلات داخلية دون المساس بحدود سايكس بيكو، وسيكون الأسد ضحية ما اقترفته يداه بحقّ السوريين أولاً، وضحية خسارة محور داعم للأسد ربط مصير بقائه به.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني