fbpx

الأرنب

0 18

دُعيتُ إلى محاضرة علميّة. في الاستقبال ثلاث شابات، تقدّمت ذات الشّعر الأشقر المنسدل على الكتفين.. الغرّة تدغدغ سيفين، وتغازل عينين دعجاوين فوق أنف يستدقّ طرفه، ويعتلي فلقتي حبّة كرز. أهلاً أستاذ وأجلستني في الصف الأول.

وجهها ليس غريباً، كأنّي أعرفها، شغّلت فكري ليجول في زوايا الذاكرة وزواريبها مَن تكون؟ حتّى قدّمها مدير المحاضرة قائلاً: أتمنّى لكم محاضرة ممتعة مع الدّكتورة (هـ.. ب..) تحدثُنا عن “التّكنولوجيا وأثرها في تطوّر العلوم”. صعدت بقامتها الممشوقة، حيّت الحضور، وأردفت موجّهة كلماتها إليّ “سعيدة بحضورك أستاذي”. هزّتني كلماتها.. أمسكت رأس الخيط، عيناي تتابع حركاتها، وأذناي تلتقط مفرداتها، ومحرك غوغل يتابع بحثه…

التقطها، تلك الطّفلة الجارة، نسمة ربيع صباحية، تسكن مع والديها لصق سكننا، المستبشرة بالحياة، لا تني عن الحركة، ولا تهدأ عن البحث والسّؤال عمّا يجول في خاطرها، كانت والدتها تستشيرني في بعض القصص التي تناسب عمرها، ولشراهتها للقراءة وحب الاطلاع والبحث سميّتُها “الأرنب”.

تخرّجتُ في الجامعة.. انتهت إقامتي جاراً لأهلها. وشاء القدر أن ألتقيها ثانية عندما دخلت الفصل في بداية العام.. كانت تجلس في الصّف الأوّل على يسار المعلم.. بدأنا التّعارف، ولمّا جاء دورها ذكرت الاسم وابتسمت.. كنت جارنا وأنا في الابتدائي، قلت: الأرنب.. ضحكت، وماتزال أمّي تناديني به.. أسرتنا لن تنساكم أستاذي…

شعلة من الذّكاء تسير على قدمين، تقفز من معلومة إلى معلومة.. لا تني تسأل عن صغائر المعلومات.. تدوّنها في دفتر خاص. ورغم ضيق اليد، كانت من أوائل طلاب المحافظة في امتحانات المرحلة الإعداديّة.

سافرتُ للتّدريس في دولة خليجية، ولم أعد أراها، تغيّرت ملامحها، لم تعد تلك الفتاة الصّغيرة بثيابها المدرسيّة وجديلتها المربوطة بعناية. كبرت الآن.. أصبحت دكتورة، وباحثة، وربّة أسرة.

عرضتْ المعلومات بأسلوب شيّق.. بسّطتها بحيث يستوعبها الجميع، وأنهت بالثّناء على الحضور وحسن الإصغاء.. صفقوا لها بحرارة. نزلت عن المنصة وتقدّمت نحوي.. شعرت بحرارة تجتاحني ولولا الحياء لهممت بضمّها.. أمسكت يدي.. انحنت.. سحبتُها بسرعة…، أتسمح أن أقبّل رأسك.. لا أنسى أفضالك جاراً ومعلماً.. فتحتَ لي مغاليق الدروب لأسير فيها بخطىً واثقة.. خفق في صدري.. حبست دمعة.. عضضت شفتي.. أفتخرُ بك.. سعيد جداً أن ألتقي بالطّالبة المتفوّقة التي أصبحت باحثة يسجّل اسمها بين علماء الوطن.

كانت والدتها تقف جانبي.. التفتُ إليها.. ابتسمتْ وقالت: كبرت الأرنب ، أليس كذلك؟ لن ننسى اهتمامك بها، وتشجيعك لها، إنّ ما وصلت إليه ثمرة طيّبة لشجرتك…

دعوت لها بالنجاح في مسعاها.. نعم أصبحت دكتورة لكن صورة الأرنب ما زالت تعشش في الذاكرة.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني