اصطفافات اللحظة الأخيرة
إن الهجوم البربري الجديد الذي يشنه بوتين على الشمال السوري من معرة النعمان وصولاً إلى سراقب وما تلاها والذي تهجر نتيجته قُرابة المليون إنسان إضافي، إنما ضرب عرض الحائط بكل التفاهمات والاتفاقات التي كانت مبرمة مع الجانب التركي الأمر الذي أدى إلى خلط الأوراق وأدى إلى بداية اصطفافات إقليمية ودولية جديدة بدأتها الولايات المتحدة الامريكية عندما أعلنت عن دعمها للحق التركي في الرد على اعتداء قوات النظام على قوات المراقبة التركية وبشكل خاص أن هذا الاستهداف ليس الأول وقد أدى إلى سقوط ستة جنود أتراك، ومن ثم استهداف نقطة المراقبة التركية الجديدة في مطار تفتناز العسكري وسقوط جنود أتراك أيضاً الأمر الذي قابله الجانب التركي بزج الحشود العسكرية الضخمة إلى مناطق ادلب والرد على مصادر النيران بمزيد من القصف المدفعي التركي.
اليوم أصبحت نقاط المراقبة التركية مدعومة بأكثر من ستة آلاف جندي تركي وبأكثر من /1500/ آلية عسكرية (بين ناقلة جند أو دبابة أو عربة قتالية).
ومع هذه الحشود العسكرية الضخمة بكل ما يلزم لخوض المعركة المشتركة الحديثة من وسائط دفاع جوي ووسائط الكشف الراداري ومنصات التشويش وغيرها حتى غدت القوة التركية في الشمال السوري قوة قتال ولم يعد يقتصر دورها على قوة مراقبة فقط.
وإذا ما تزامنت هذه الحشود العسكرية التركية مع تأكيد القيادة في تركيا على ردع النظام وتلقينه درساً جرَّاء ما ارتكبه من حماقة نعلم أن الوفد الروسي الذي طار إلى أنقرة للقاء المسؤولين الأتراك هناك قد تلقف رسالة القيادة التركية الحازمة وأخذها على محمل الجد وبشكل خاص ما صرح به الرئيس التركي أردوغان حول الأحداث الأخيرة وعزم تركيا على الرد، وبالتالي كان لابد من سعي روسي حثيث لتطويق الأزمة وإيجاد الحلول الوسطية، ومع تعثر المباحثات بين الطرفين الروسي والتركي تحدث الروس عن إمكانية لقاء الرئيسين (أردوغان – بوتين)، كيف لا والروس أدركوا بأن الاستمرار في الحماقة قد يؤدي إلى خسارة التنسيق مع تركيا لحساب واشنطن والأطلسي طالما أن الجانب الأميركي عَبّرَ عن دعمه لتركيا في هذا الموضوع، وطالما تحرك المبعوث الأميركي ((جيمس جفري)) إلى تركيا لتأكيد عزم واشنطن ألا تكون تركيا لوحدها في الميدان وهي الشريكة في الحلف الأطلسي، بالإضافة للحديث عن زيارة للأمين العام لحلف الشمال الأطلسي إلى تركيا.
هذا التحرك الغربي بكل تأكيد يأخذه بوتين على محمل الجد لا بل يشعره بخطر المفاضلة بين مكاسب على الأرض في ادلب وبين مصالح متشابكة ومعقدة واستراتيجية مع تركيا ليس أولها الملف السوري الذي أوقفت تركيا دورياتها المشتركة مع الروس في شرق الفرات بسببه والملف الليبي وليس آخرها طريق الغاز والعلاقات الاقتصادية وصفقة الصواريخ (S400) والحديث أيضاً عن صفقة جديدة لشراء تركيا طائرات سو 57 الروسية الصنع، والأهم من كل هذا أن يضمن بوتين عدم اصطفاف تركيا مع حلفها الغربي القديم في العقوبات الاقتصادية الأمريكية المفروضة على بلده، وفي قضايا الاستقطاب والاصطفافات، فإن لم يكسب تركيا كحليف قوي فأضعف الإيمان يضمن عدم وقوفها مع الغرب ضده.
إن ما تقوم به بقايا جيش النظام مدعومة بالمليشيات الطائفية من لبنان والعراق وإيران وأفغانستان وباكستان وغيرها ما كان ليكون لولا الضوء الأخضر الروسي ولولا الدعم الجوي الروسي الذي أخذ يُحيل القرى والبلدات إلى أكوام من الركام ليتسنى لهؤلاء المرتزقة التقدم على أنقاض الدمار والخراب.
وهل يتجرأ جيش النظام على الاعتداء على هيبة الجيش التركي ثاني أكبر جيش في الحلف الأطلسي لولا الضوء الأخضر من بوتين أو بالأحرى لولا الأوامر من بوتين؟؟؟
وكلنا يستذكر كيف نفَّذ حافظ الأسد كل ما طُلب منه من تركيا في طرد عبد الله أوجلان وفي إنهاء ملف تواجد حزب العمال الكردستاني في سوريا على خلفية التهديدات التركية له والتي ترافقت بزج تركيا لأكثر من 30 ألف مقاتل تركي على الحدود مع سوريا آنذاك، وكانت أن انتهت الأزمة بتنفيذ حافظ الأسد لكل الشروط التركية وكانت النتيجة أن تم توقيع اتفاق أضنة في العام 1998، مع العام أن سوريا كانت بأوج قواها في تلك الحقبة.
من هنا تجدر الإشارة إلى أن التجاذبات التركية الروسية في الآونة الأخيرة كانت واضحة في أكثر من موقع، منها على سبيل المثال زيارة الرئيس أردوغان إلى أوكرانيا وعدم اعترافه بضم روسيا لشبه جزيرة القرم الأمر الذي يغيظ الروس كثيراً، ومنها عدم التوافق الحاصل في الملف الليبي، والأهم الميدان السوري الذي وجد بوتين فيه ورقة ضغط على تركيا من خلال ما أقدم عليه من حملة مسعورة تطال البشر والشجر والحجر في ادلب وريفها الأمر الذي أدى إلى حملات نزوح جديدة شكلت عبءٍ إضافي على تركيا ومن خلال استهداف قوات النظام لنقاط المراقبة التركية بضوء أخضر روسي كرسالة ضغط أخرى.
لكن كل ما أقدم عليه بوتين من تصعيد مع تركيا وهي احدى الدول الثلاث الضامنة في الملف السوري أخذ يُراجعه تباعاً مع رسائل الرد التركي الشديدة اللهجة والتي رافقها دعماً أمريكياً أطلسياً لتركيا بحقها بالرد على العدوان الذي يطال جنودها في سوريا.
فاليوم يريد بوتين تطويق الأزمة ويسعى لاسترضاء تركيا حتى لو على حساب حليفه (النظام السوري) من خلال إيجاد صِيَغ جديدة للتفاهم والحؤول دون الانفجار الكبير والمواجهة بين تركيا وقوات النظام، فبوتين يدرك أن رسالة إسقاط الحوامة للنظام فوق بلدة النيرب في ادلب هي رسالة تحذيرية قرأها النظام والروس بأن وسائط الدفاع الجوي التركية التي أصبحت بحوزة القوات التركية في الشمال السوري جاهزة للاستخدام وجاهزة لإحداث التغير النوعي إن لم يكن هناك وضع حد من قبل روسيا لإجرام عصابات الأسد والمرتزقة الذين معه والذين لم يسلم من اجرامهم حتى أهل القبور والأموات ولا حتى الكلاب والحيوانات الألفية التي قاموا بحرقها وهي على قيد الحياة.
الكرة اليوم في الملعب الروسي، والاصطفافات التي تتحضر على مرتسم السياسة الجديدة قد تعزل بوتين ومعه نظام الأسد وإيران إن لم يكسب مهلة اللحظة الأخيرة ويعيد ترتيب أوراقه مناصفة على الطاولة التركية.
جزاكم الله خيرا