إلّا أنـا
“إلى روح لم تحتمل.. فقضت”
وقف معفّراً بالتراب أمام كومة الركام، دار حولها مرات ملهوفاً يستقصي الأخبار، لم يخبره أحد عن أسرته شيئاً. أيقن أنهم مازالوا تحت أنقاض لا ترحم. عاود البحث ولم يتلقَّ خبراً، وبين أصوات المنقذين وعويل ونحيب ممّن يبحثون عن شعاع أمل لناجين؛ تقدّم صحفي منه يستطلع ويجمع المعلومات، سأله عن أسرته؛ فأجابه متلعثماً:
-بخير.. لكن…
– مبارك لك، ولكن…؟
– سأخبرك
– تفضل
– أمس كنا نتحلّق حول منقل الفحم، عرفنا الدفء بضع ساعات بعد أيام من البرد قضيناها نلتحف البطانيات، ونفرك الأيدي ببعضها لنبعث بها حرارة تجعل قليلاً من الدم يسري في أصابعنا المثلجة. سعدنا جميعاً.. وغمر الأولادَ فرحٌ كبير حلّ عُرى صمتهم فعلت أصواتُهم. لعبوا، وغنّوا وهم يدورون حول أمهم وهي تُعدّ لهم لقيمات اللبنة والزعتر. كانوا عصافير تزقزق. ضحكاتهم تملأ البيت، وتجلب السعادة من مكامنها لقلب مهموم بشظف العيش. عانق النعاس أجفانَهم فتثاقلت.. اندسوا في فرشاتهم.. قبّلت جباههم.. غطّيتهم بيديّ، وتمنيت لهم نوماً هانئاً، وما زالوا نياماً مع أمهم، تُربِّتُ عليهم صفائحُ الأنقاض، وتهدهدهم.. إنهم يغطون…، أصوات أنفاسهم تتردد في أذني؛ لكني لا أستطيع الوصول إليهم – تنهّد، وصعدت من جوفه حارة – “ليتني بينهم”.
عبارة نطقها أهاجت أحاسيس الصحفي، جاءت كسكاكين تخز الضمير.. توقظه…، وتلسع مياسمها الفؤاد مخترقة شغاف القلب. عبارة اختصرت معاناة رجل يكابد حرقة فقد الأهل. واهتزّت أوتار صوته وهو يكرر السؤال، هل أنت متأكد أنّـ…؟.
– نعم، إنهم تحت هذه الأنقاض، لا أمل…، لقد ارتاحوا.. ودّعوا شقاوة الحياة، وتركوا لي همومها… واختنقت الحروف بين شفتيه الراجفتين: يا أخي! “كلّهم بخير.. إلّا أنا”.
ذُهل الصحفي متعجباً من كلمات تمثّلت حكمة في هذه المعمعة، ظاهرها يخادع الواقع، كلمات نبضت أسىً فحرّكت المشاعر وولّدت الألم تياراً جارفاً يتدفق وجعاً يكتم الأنفاس، وأتى الاستثناء متسائلاً، وواخزاً يفجر حزناً مضاعفاً يكشف ويعبّر عن حجم المأساة التي خلّفتها الكارثة. وتمعّن في قسماته، لا عجب، إنه رجل عصرَ الألمُ قلبه فاسودّت الدنيا في عينيه، إنه واحد من آلاف غدرت بهم الطبيعة، وسرقت فرحهم، واغتالت أحباءَهم، وله العذر عندما تمنّى لو كان بينهم عالقاً تحت تلّ الركام.
نظر الرجل¹ في عيني الصحفي، وارتعشت شفتاه: ما أعظم ظلم الطبيعة! وما أقساه!؛ لكن ثق أن ظلم البشر وجورهم أشدّ…، أرجو أن تعذر ضعفي.. تلألأت دمعتان في محجري عينيه.. نكّس رأسه.. أدار وجهه جانباً.. اتّجه نحو الركام وهو يدعو بصوت متهدج…
وقف الصحفي حائراً متسائلاً: تُرى متى يُدفعُ الظلمُ بعيداً…، ويتفتّقُ فجرٌ…، ويعمُّ السلام…؟!