fbpx

إعادة اللاجئين السوريين والتنشيط الاقتصادي

0 61

تمهيد:

إعادة اللاجئين والنازحين ليست واجباً وطنيّاً وإنسانيّاً على الحكومة السورية فقط للعناية بمواطنيها، بل هي عاملٌ محفزٌ للتنشيط الاقتصادي؛ لأنهم كنزٌ اقتصادي ومعرفي عالٍ، ومصادر مالية هامة مصاحبة لعودتهم، وسوف تسرع في النهوض الاقتصادي السوري.

لقد تعب السوريون من الحروب والمنازعات على البلد ككل، وبين أبناء البلد الواحد، وأصبحوا يحنون إلى الأمن والاستقرار وإلى المستقبل، وخاصةً أولئك الذين أُجبِروا على ترك بيوتهم ووطنهم. ولذا، فإن أهم الأمور التي سوف تكسب هذه الحكومة شرعيتها الأخلاقية والسياسية هو نجاحها في إعادة اللاجئين والنازحين السوريين إلى بيوتهم بعزةٍ وكرامة. وهذا ما سوف ينزع فتيل المصائب التي تشتعل وراء كل شجرة.

وفي ظل الضبابية السائدة في مواقف الحكومة من جهة، والانهيار الاقتصادي المستمر من جهة أخرى، فإن عودة اللاجئين تتطلب إعلان برنامج طوارئ حكومي فوري. طبعاً، نحن نتكلم عن جزئيةٍ فقط من جهد إعادة الإعمار التي تصل تقديراتها إلى مئات المليارات من الدولارات، بينما هذه لا تصل تكلفتها إلى 3 مليارات دولار على الأكثر.

أولاً: مأساة اللجوء التاريخية

لجأ أو نزح أكثر من نصف الشعب، أي حوالي 14 إلى 16 مليون سوري، من بيوتهم في الفترة ما بين عامي 2011 و2018، وهم أكثر من نصف الشعب السوري. وهم من العرب السنة السوريين بالدرجة الأولى. وهذا يعني أن معظم القوى العاملة والمنتجة في سورية قد خرجت من شبكة الاقتصاد السوري، واندمجت في دول الاغتراب أو في مخيمات النزوح تحت مظلة اقتصاد الإعانة الإنسانية العالمية.

ثانياً: آمال العودة المرتبكة

كنتُ شخصيّاً أتوقع أن تبادر الحكومة فوراً بعد سقوط الأسد إلى وضع برنامج طوارئ سريع لإعادة الناس إلى بيوتهم. وبالتأكيد، فإن الجانب الوطني والإنساني لهؤلاء الضحايا هو الهدف الأسمى، ولكن بمصاحبة ذلك، عندما تكون العودة ممنهجةً وإعدادها مؤثراً، فإننا سنرى الاقتصاد يدخل في بركان إعمار ونشاط اقتصادي.

تقول الإحصاءات إن عدد اللاجئين العائدين يقدر بحوالي 400 ألف لاجئ في أربعة أشهر منذ سقوط الأسد، وهو عدد قليل مقارنةً بالكتلة الضخمة التي لا تزيد نسبتها عن 5% على الأكثر. أما العائدون من النازحين داخل سورية إلى بلدانهم وقراهم التي نزحوا منها، فيقدر عددهم بنحو 800 ألف نازح، وبنسبة لا تزيد عن 15% من كتلة النازحين. ومع أن الرقم أكبر من عدد اللاجئين العائدين، إلا أنه يُرسل رسالةً محبطةً أن كلا المجموعتين (اللاجئين والنازحين) لا يزالون في منطقة التردد بالعودة، وغير مقتنعين أن عودتهم ستكون أسوأ من البقاء في خيمةٍ مهترئة.

وتقول الآراء المستطلعة إن نحو 30% من النازحين قد رجعوا فعليّاً إلى مخيمات النزوح على تعاستها، وترتفع النسبة إلى أكثر من 50% من اللاجئين العائدين الذين تركوا سورية ثانيةً وعادوا إلى بلاد اللجوء بسبب انهيار الاقتصاد والدولة. وهذا أمرٌ يشير إلى مصيبةٍ أن نهوض سورية وإعادة الإعمار سيتأخر أكثر من المتوقع.

ثالثاً: الهبة الشعبية الرائعة للإعمار

بعد مرور عدة أشهر من الانتظار غير المجدي، بدأنا نشهد آلاف المبادرات الشعبية الأهلية المجتمعية في كل بلدةٍ وقريةٍ سورية لترميم وإصلاح ما يمكن إصلاحه بالموارد المحلية البسيطة للمرافق العامة، مثل المدارس والمشافي وشبكات المياه والنقل. وهذه الأعمال المحلية جليلةٌ ورائعة، ولكنها غير كافية لضعف الموارد ولحداثة تجربة المبادرات الأهلية بعد عقود من التصحير الحكومي لقدرات الناس. وقد يستغرق الأمر سنواتٍ طويلةً حتى يمكن التخلص من آثار الدمار نهائيّاً.

ومهما يكن، فإن هذه الأعمال رائعةٌ وتعتبر مثالاً عن حيوية الشعب السوري، وهذا شيءٌ رائعٌ وعظيمٌ، ويُنْبِئُ عن شعورٍ عميقٍ بالمسؤولية والحرية بعيداً عن الدولة، مما سيحد من قدرة الحاكم لاحقاً على الاستبداد إذا فكر فيه، مثل الذين سبقوه. فهذه يجب أن يُسَلَّط عليها الإعلام الأضواء لإظهار الجوانب الخيرة والعزيزة لدى الإنسان العربي المسلم في سورية.

رابعاً: الخطة السريعة لإعادة اللاجئين

بالتعاون بين الحكومة والمنظمات والمجتمع الدولي والأفراد العائدين أنفسهم، تحتاج الحكومة اليوم إلى أن تعطي أولوية قصوى لإعادة اللاجئين والنازحين، وليس تأجيلها؛ فهم سندها البشري، وهم الكنز الاقتصادي بما لديهم من خبرة قديمة ومكتسبة، وما حصلوه ونموه من أموال واستثمارات في بلاد الاغتراب.

بقناعتي، إن العودة السريعة لهؤلاء هي بحد ذاتها سوف تعزز الأمن والاستقرار، وتعجل بإعادة الإعمار والنهوض الاقتصادي. ومن أهم الخطوات ما يلي:

1- إعلان برنامج الطوارئ للعودة

يُعتبر هذا الإعلان الحكومي لبرنامج العودة بمثابة إطلاق صفارة السباق لكل الأجهزة بالتعاون لتسهيل مهمة عودة اللاجئين. وأعتقد أنه من الضروري أن يتضمن بدايةً خطوات إدارية وقانونية تتعلق بالشخص العائد ذاته، مثل:

أ إلغاء كافة الأوامر والعقوبات المفروضة عليه من النظام السابق بسبب انتقاده للنظام.

ب الإعفاء من كافة الضرائب والرسوم الجمركية على عودته، وفي حالة جلب بصحبته عائلته ومقتنيات منزله مهما كَبُرَت.

ج- الإيعاز لمراكز الحدود بتسهيل دخول مركبته وإعفائها من الرسوم، وتسجيل كل المواد غير الشخصية فقط للمعلومات.

هذه الخطوات الإدارية، حتى لو كان لها تأثيرات مالية على موارد الحكومة، فهي مقبولة كتكلفة اجتماعية تتحملها الدولة لتسهيل العودة الطوعية لأبنائها.

وبرنامج الطوارئ هذا يقوم على منهجية التحفيز والتعاون الإنساني الوطني أكثر مما يقوم على الدفعات المالية الحكومية. وبالطبع، هذا البرنامج ليس بديلاً عن الخطة العامة للنهوض الاقتصادي، ولكن بناءً على نظريتي بتجزئة المصيبة، فإنه يمكن البدء بحلها أسرع من خطط دهاليز المؤسسات الدولية.

وهذا الجزء من الإعمار الداخل ضمن برنامج الطوارئ هذا، يركز على إعادة بناء مساكن اللاجئين والنازحين المدمرة، وتجهيز ما يلزمها من البنية التحتية. وهذا الجزء (من مهمة إعادة الإعمار) المستعجل المحصور بإعادة البناء، يفترض أن يستغرق عاماً واحداً وليس أكثر من عامين؛ لأن إعادة اللاجئين تعتبر مقدسة للدولة إنسانيّاً واستراتيجيّاً واقتصاديّاً. وهو ينتهج فلسفة إعادة بناء المساكن إلى وضعها السابق حصراً، بدون تغييرات عمرانية وسكانية جديدة.

2- صندوق مشترك لإعمار المساكن الأصلية

رحل نظام الأسد وخلف وراءه بلداً مدمراً وخزينة دولة خاوية. ولهذا نستطيع أن نعذر الحكومة للتأخر في إعادة اللاجئين بسبب شحة الموارد المالية. وربما اقتراحنا لهذا الصندوق سيفتح باباً أمام الحكومة للبدء باستعادة مواطنيها.

هذا الصندوق ليس مصرفاً تمويليّاً بالمعنى المعروف، وإنما علاقة تشاركية بين العائد والدولة؛ إذ إن العائد سوف يساهم من موارده أو من أسرته بنسبة قد تصل إلى 40% من تكلفة البناء (أي بما فيه أي مساعدة مالية من المنظمات المحلية والدولية أو أي جهة كانت)، بينما الدولة سوف تتكفل بتمويل ما يصل إلى 60%.

ويجب على البلديات والمحليات إعداد تقرير هندسي فني عن حالة الدمار في السكن، وتقديرات أولية لإعادة بنائه ليكون صالحاً للسكن، أو البدائل المتاحة. وهذا التقرير الهندسي سيكون وثيقة معتمدة لكل التعاملات القادمة. ويجب أن يركز التقرير على هدف إعادة بناء المسكن إلى وضعه السابق تحديداً فقط، بمعرفة وإشراف صاحب المسكن.

أما متطلبات البنية التحتية من شبكة كهرباء ومياه وصرف صحي، فهي تقع خارج حدود المنزل، وهي مسؤولية الدولة بالكامل.

وفي هذا الصندوق (أو العلاقة التشاركية تلك)، تقوم الدولة بتقديم مساعدة مالية موثقة (حتى لو كان الدفع مؤجلاً)، أي ضمانة بالتعهد بمساعدة العائد على إعادة إعمار مسكنه على شكل سندات دين على الدولة، أصدرت لصالح العائد، والفائدة على الدولة واجبة السداد خلال فترات من 6 أشهر إلى 3 سنوات.

ومن المنطق أن يفتح هذا الصندوق فرعاً في كل مطار وفي كل معبر حدودي لدخول العائدين، بالإضافة إلى فروع مؤسسية في كل البلدات والمدن ومراكز المحافظات السورية كلها. ولا يُعتقد أنه سيتم تمويل كل تكاليف البناء، وإنما يُمنح بدايةً هبة مالية محددة، ثم قرضاً بدون فائدة، بما لا يزيد عن 60% من التكاليف، بضمان سندات وشيكات شخصية من العائد تسهيلاً للأمر.

وقد يكون مناسباً لتسريع العودة هو منح مساعدة نقدية عند وصول العائد إلى الحدود السورية لتغطي نسبة من تكاليف سفر العودة. كما يمكن الاستفادة من البدائل المؤقتة للسكن، مثل توزيع خيام مناسبة أو بيوت متنقلة صغيرة لاستخدام الأسرة في موقع سكنهم المدمر إلى حين إصلاح ذلك المسكن.

3- إصلاح البنية الأساسية فقط

لتمكين إعادة مساكن العائدين، يتطلب إصلاح البنية التحتية المدمرة أو المتهالكة الأساسية فقط، من الكهرباء والمياه والصرف الصحي والطرقات. وهذه طبعاً مسؤولية الدولة، ويمكن للدولة توفير التمويل من مواردها الذاتية، ومن المصرف المركزي، ومن المنح والمساعدات من الدول العربية والأجنبية.

وكما ذكرت، فإن هذه ستُعنى بالبنية التحتية الأساسية في مناطق إعادة البناء للسكن الأهلي في البداية، وقد تغطي لاحقاً كل المناطق.

4- دور المصارف السورية

لدى سورية شبكة معقولة من المصارف الحكومية والمصارف الخاصة من حيث العدد، ولكنها لا تغطي كل الأراضي السورية بإنصاف. ومع هذا، فإن عليها ولها دور كبير في تمويل إعادة بناء المساكن الخاصة أكثر مما هو متوقع.

ولن نعطي نصائح هنا، ولكن حان الوقت أن تمارس هذه المصارف دوراً اقتصادياً واجتماعياً، وليس الاكتفاء بدور الوسيط المالي المصرفي. ولتشجيعها على ذلك، فإن من واجب الدولة تقديم دعم سياسي ومالي لعملياتها.

وأهم خطوة هي أن تعلن هذه المصارف عن تضامنها مع برنامج طوارئ لعودة اللاجئين، وتبدأ بتسهيل إجراءات تمويل إعادة البناء بشروط ميسرة، وبممارسات مصرفية مهنية سليمة، بفوائد منخفضة تعطي تكلفة المال، بضمانات مستندية وشيكات شخصية. ولا يجوز أن تمنح قروضاً تزيد عن 40% من تكلفة إعادة البناء للمنزل المدمر أو إصلاحه.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني