fbpx

إشكاليّة الشرعية والمشروعيّة في مؤسّسات المعارضة السوريّة

0 393

تتنوّع الإشكاليات التي ترسّخت في الثورة السورية، وتسبّب كثيرٌ منها في إعاقة إتمام الفعل الثوري، والوصول به إلى مرحلة إسقاط النظام، والبدء بمرحلة بناء وإصلاح طويلة الأمد. وهي إشكاليّاتٌ عديدةٌ لكلٍّ منها محورٌ يمكن الاستفاضة فيه كثيراً. أي أنّنا نتحدث هنا عن جملةٍ واسعةٍ من الإخفاقات، التي مانزال نمارسها، ومانزال نعتقد أنّ هذه الممارسات قادرةٌ على تغيير المشهد السوري، وقادرةٌ على إنجاز تقدّمٍ في المسار الثوري، والذي بات محاصراً إلى درجة أنّنا ننتظر تسوياتٍ تتمّ بين القوى المتدخلة في الشأن السوري لتحديد مستقبلنا.

بدايةً، كان من الطبيعي أن نشهد إخفاقاتٍ في عملنا الثوري والسياسي، وما يتفرّع عنه، وذلك بُعيد انطلاق الثورة السورية، فنحن قد كنّا في مرحلة تصحيرٍ سياسيٍ ومدنيّ، فرضها نظام الأسد، أو حتى يمكننا القول إنّها بدأت منذ الوحدة السورية/المصرية، من خلال إقالة المجتمع السوري عن دوره السياسي والاجتماعي، وتفرّد السلطات المتعاقبة بغالبية الشأن العام، وصولاً إلى حظر أيّة مشاركةٍ خارج أُطر نظام الأسد. وبالتالي فقدنا قدراتنا وأدواتنا وآليّات تفكيرنا السياسية، خلال نصف قرن، وباتت مقارباتنا بدائيةً متردِّدةً هشّة، وهنا الحديث عن الفعل السياسي، وليس الثوري.

صحيحٌ أنّه كان لدينا حراكٌ واسع، على المستوى السياسي التأسيسي، وأنّ نخباً كانت قادرة على التوجّه بهذا الحراك، نحو بناء أجسامٍ تمثيليّة، لكن في ظلّ بيئةٍ غير سَوِيةٍ سياسياً، ونقصد بذلك:

– بيئةٌ تحت ضربات نظامٍ تسلطي.

– وتحت تدخّلاتٍ دولية.

– ونزاعاتٌ بين تياراتٍ سياسية، يعتقد كلٌّ منها، أنّه قادرٌ بمفرده على إدارة الشأن الثوري، ومن ثمّ الشأن السوري كاملاً، مُتطلِّعاً لفرض توجّهه الفكري والهُويتي على المشهد السوري.

– يُضاف إلى ذلك، ولوج شخصياتٍ إلى الشأن العام، لا تمتلك أدوات العمل فيه، سواءً أدواتٍ فكرية، أو خبراتٍ تؤهّلهم لهذا الفعل، أو استقلالية، أو إيماناً حقيقياً بالفعل الثوري ومبادئه، أو تصوراً عمّا يمكن أن يقدّموه، أو حتى نزاهةً في العمل المؤسّسي.

خلاصة ذلك، أنّه خلال الفترة 2011-2015، تمّ تأسيس كثير من الأجسام السياسية، وكان مقبولاً حينها، منهج التجريب والخطأ واستكشاف الذات والأدوات والمحيط. لكن الإشكاليّة حين تحوّل هذا المنهج، إلى منهجٍ دائم، غير منتج، وتم إقصاء كثيرٍ من الشخصيّات السياسية القادرة على الإنتاج، لصالح شخصياتٍ فُرِضَت من خلال منازعاتٍ وعمليات تسلّطٍ حزبية وفئوية، أو من خلال فرضٍ خارجيٍّ على هذه المؤسّسات.

وها نحن بعد قرابة عقدٍ من الثورة، ما نزال نعاني من إشكاليّة التمثيل السياسي، وإشكاليّة البناء المؤسّسي، وإشكاليّة القيادة السياسية، وإشكاليّة غياب برنامج عمل (معلوم للرأي العام على الأقل). إذاً، نحن أمام إشكاليّاتٍ مستعصية، تتمثّل اختصاراً في إشكاليّة الشرعية والمشروعية لهذه المؤسّسات. 

يمكن أن نبدأ من الإشكالية الأسهل فهماً، وهي إشكاليّة المشروعية، فعندما نناقش مشروعية نظامٍ سياسيٍّ أو مؤسّسات، فإنّنا نعني بذلك، أنّ هذا النظام أو المؤسّسات، يعمل وفق الآليّات المحدّدة في الدستور والقوانين الضابطة له. فكثيرٌ من الأنظمة العربية، قد يكون مشروعاً هو أو مؤسّساته، حيث أنه يشتغل وفق آليّاتٍ دستوريةٍ وقانونية، هو من قام بصياغتها، وفق ما يناسبه. فقد تُشرّع حكومةٌ ما، عملية الاستيلاء على المال الخاص، وفق قانونٍ واضح، وبالتالي تكون عمليات الاستيلاء مشروعة. 

المشكلة هنا في مؤسّسات المعارضة، أنّه لا يوجد دستورٌ أو إعلانٌ دستوريٌّ ثوريٌّ مؤقّت، يمنح عملها المشروعيّة، ولا يوجد قوانينُ مفروضةٌ على العمل الثوري من قبل مؤسّساتٍ تشريعيةٍ ثورية، بل إنّ عملها يأتي وفق قوانين هي قد سنّتها لتُناسب مصالح الجهات القائمة عليها، ومن ثم تمّ الاحتجاج بأنّ عمل تلك المؤسّسات، عملٌ ذو مشروعيةٍ قانونية، وأنّ المؤسّسات لم تخالف نظامها الداخلي.

هذه عمليّة تضليلٍ للرأي العام السوري، يقودها المتسلّطون على تلك المؤسّسات، بهدف تبرير سلوكياتهم، سواءً أكانت فشلاً في إدارة المؤسسات، أو فساداً، أو تخريباً. وخصوصاً أنه ليس لدينا جهاتٌ قضائيةٌ تبتّ في قضايا المشروعيّة القانونية من جهة، عدا عن أننا، كرأيٍ عام، لا تتوفر لدينا شفافيةٌ حقيقيةٌ حول أداء هذه المؤسّسات وتمويلها وآلياتها.

هي إشكالية، لأنّنا لا نملك أدوات المراقبة والمحاسبة فعلياً، فكلّ ما نملكه بعض الوسائل الإعلامية التي تحاول بين حينٍ وآخر تسليط الضوء على الإشكالية، مع تعرّض بعضها لمضايقاتٍ من أنواع مختلفة.

إذاً، نحن بحاجة هنا، إلى قانونٍ أسمى، يضبط عمل هذه المؤسّسات، وبالتالي نحن بحاجة إلى إعلانٍ دستوري، تتفرّع عنه قوانين ولوائح تنظيمية، ونحن بحاجةٍ إلى مؤسّسةٍ تشريعيةٍ تضع ذلك، ونحن بحاجةٍ إلى مؤسّسةٍ قضائية، تختصّ بالنظر في انحراف عمل هذه المؤسّسات.

أمّا الإشكالية الثانية، وهي الأكثر تعقيداً بكثير، فهي إشكاليّة الشرعية، وحيث أنّه لا يوجد لدينا تمثيلٌ هرميٌّ يُشكِّل نظاماً بديلاً عن نظام الأسد، فنحن نتحدّث هنا عن هذه المؤسّسات، كبديلٍ مؤقّت، يُفترض به إدارة الشأن السوري، فهي مجازاً ومؤقّتاً، تحوز بعض خصائص النظام السياسي، وليست نظاماً سياسياً. وبالتالي يمكننا الحديث عن شرعية هذه المؤسّسات المؤقتة، من هذا المدخل.

وخصوصاً، أنّ هذه المؤسسات، ليست مؤسّسات قطاعٍ خاص، وليست تابعةً لنظامٍ تسلّطي، أو أنّها مُنشأةٌ من قبل مجلس الأمن، بل هي من المفترض أن تكون نتيجةً لحراكٍ شعبيٍّ واسع، شارك فيه الملايين من السوريين، وأتت تأطيراً لهم، ومحاولةً لتحقيق أهدافهم. وخصوصاً أنّها تتحدث باسمهم دائماً وأبداً، وأنّها مُعتَمَدةٌ كجهةٍ تمثيليةٍ لدى القوى الخارجية.

بالتالي، وبالعودة إلى مفهوم الشرعية، تمّ الاتفاق بين عديد من المفكرين، بأنّ النظام يكون شرعياً، في ثلاث حالات:

الحالة الأولى، وهي الحالة الشرعيّة التقليدية أو الكلاسيكية، حيث يكون النظام مُمثِّلاً ومُستنِداً للتراث والتقاليد والهوية، وحامياً لها. أو يحوز شرعيةً وراثيةً تاريخيةً ممتدّة. وهو أمر لا يتّصل بمؤسّسات المعارضة السورية التي من المفترض أن تُمثّل ثورةً دافعةً نحو إعادة بناء الدولة والهويّة.

فيما ذهب آخرون إلى اعتبار النظام شرعيّاً، حين يحوز زعيم النظام، على كاريزما شخصية، تلاقي قبولاً شعبياً واسعاً، تؤهّل القائد الفرد التسلّط على النظام. وهو أيضاً أمرٌ لا يتصل بالثورة السورية، فهذا متصلٌّ بثورة يقودها شخصٌ فرد.

وبالتالي، نذهب باتجاه مفهوم الشرعية الأكثر حداثة، والذي يقوم على فكرة العقلانية أو الشرعية البنيوية، بمعنى التأكيد على أنّ النظام ومن خلال مؤسّساته، يحوز على:

1- العنصر الدستوري، أي أنّه نشأ وفق آليّاتٍ دستورية، ويعمل وفق أُسسٍ دستورية.

2- عنصر التمثيل، أي أنّ المحكومين مقتنعون بأنّ النظام أو من هم في السلطة يمثّلونهم بشكلٍ فعلي.

3- عنصر الإنجاز، ويعني أنّ الشرعية تتكرّس من خلال الإنجازات التي يقوم بها النظام أو السلطة.

4- عنصر الفعالية، وهو عنصر متمِّمٌ للإنجاز.

في حال حاولنا أن نطبق هذه الأسس على مؤسّسات المعارضة السورية، على اعتبار أنّها تحوز بعض صفات النظام السياسي، فإنّنا أمام الإشكاليات التالية:

– الإشكاليّة الأولى، وهي إشكاليّة المشروعية، وسبق لنا التطرّق لها، أو الإشكالية الدستورية.

– الإشكاليّة الثانية، وهي إشكاليّة التمثيل، فسواءً من خلال استطلاع رأيٍّ قمنا به بشكل سريعٍ ومحدود، أو استطلاعاتٍ قامت بها جهات أخرى متاحةٌ للرأي العام، نلحظ أنّ الغالبية العظمى من السوريين (في نسبة وصلت في استطلاع رأي صحيفة زمان الوصل إلى حدود 94% على سبيل المثال)، يرفضون تمثيل الائتلاف لهم، وهنا يسقط واحد من أساسات الدمقرطة التي تطالب بها الثورة السوية، حيث لا يمكن لحزبٍ أو مؤسّسةٍ أن تطالب بتطبيق الديموقراطية خارجها، في حين لا تحوز أولى مقوّماتها، وهي التمثيل الشعبي.

ربّما يرى بعضهم، أنّ هذه الاستطلاعات مُغرِضة، لأهدافٍ تخريبية، ويمكن لنا أن نقبل ذلك مؤقتاً. لكن في المقابل، ليس هناك آليّةٌ ديموقراطيةٌ لاختيار أعضاء هذه المؤسّسات، باعتبارها مؤسّساتٍ تمثيليةً للشعب السوري، بل إنّ أعضاءها هم ممثّلون لتياراتٍ وفئاتٍ سوريةٍ تتنازع التسلّط على الثورة السورية فيما بينها، أو هم ممثّلون فرضتهم الدول الإقليمية لقيادة الشأن السوري وفقاً لمصالح وأجندات تلك الدول.

– أما الإشكالية الثالثة، المتمثّلة في عنصر الإنجاز، فإن كثيراً من هذه المؤسّسات يخرج علينا بين فينةٍ وأخرى، ببيانٍ أو تصريح إعلامي، يتمّ فيه سرد منجزات المؤسسة، في عملية تضليلٍ أخرى للرأي العام. حيث تعاني هذه المنجزات من الاختلالات التالية:

o المؤسّسة ذاتها هي من يعتبر سلوكها أو تصرفاتها، منجزاً، وليس مؤسّساتٍ رقابيةً أعلى.

o يتمّ صياغة أهداف المؤسّسات تلك، وفق الحد الأدنى، بما يسمح بتحقيقه. وبالتالي، يمكن اعتباره إنجازاً، طالما ألا سلطة رقابيةً على تلك المؤسّسات.

o ثمّ، من المفترض أن يلمس الرأي العام هذه المنجزات، على المديين القريب والمتوسط، وفي حال لاحظنا أداء المؤسّسات المختصّة بخدمة الثورة السورية وتمثيل الشعب السوري والساعية لإيجاد حلٍّ عادلٍّ للقضية السورية، نلحظ أنّه في كل عام يتراجع الشأن السوري بشكلٍ أكثر حدة. وفي عقدٍ كامل، خسرت سورية مئات الآلاف من الأرواح، وتخرّبت مدنها، وتهجّر الملايين عنها، فيما النظام وحده المستمر، مع احتلالاتٍ تكرّست، وميليشياتٍ باتت جزءاً من النسيج الاجتماعي السوري المُعاد تركيبه، ونزعاتٍ انفصاليةً عُصبويةً ميليشياوية. فكيف لنا كرأي عام أن نؤمن بإنجازاتٍ تحاول تلك المؤسّسات ترويجها لنا، وتفرض علينا الاعتقاد بها.

– وهذا ما ينقلنا إلى الإشكاليّة الرابعة، وهنا سنفترض أنّ القائمين على تلك المؤسّسات، أشخاصٌ مخلصون في عملهم. إذاً، إنّهم لا يمتلكون فعاليّة البرنامج المؤسّسي أو الشخصي، وبالتالي لديهم إشكاليّة في منهج عملهم، وفي تأهيلهم كقادة، دون رقيبٍ أو سلطةٍ عليا تحاسبهم.

هذه الإشكاليات، التي يمكن لأيٍّ منا أن يستطرد فيها لساعات، في نقدٍ حقيقي لعمل مؤسّسات الثورة، هي جزءٌ من الصورة، في حين أنّ الصورة أكثر سوءاً من ذلك، وخصوصاً في حال افترضنا وجود عمليات فسادٍ ممنهج، أو اشتغالٍ تهديمي، أو تبعيّةٍ خارجية. ولا يحق لنا الذهاب بهذه الفرضيّات دون قرائن من جهة، وجهاتٍ قضائيةٍ سورية تبتّ في تلك القرائن.

وبالعودة إلى سوء/فشل الإدارة في مؤسّسات الثورة/المعارضة السورية، والذي تقوم عليه فرضية دراستنا هذه، وعلى افتراض أنّنا ما نزال نؤمن بهدفنا في بناء دولةٍ ديمقراطية، فإنّ أسس الديموقراطية تتطلّب منا، ما يلي:

– إعادة بناء هذه المؤسّسات، أو استحداث مؤسّساتٍ بديلة، على أُسسٍ تمثيليةٍ وفق انتخاباتٍ نزيهةٍ تشمل غالبية السوريين، إن لم نقل جميع السوريين.

– وجود سلطاتٍ ثلاث، تضبط العمل الثوري، تشريعيةٍ وتنفيذيةٍ وقضائية.

– ثمّ محاسبة كلّ الشخصيات التي أدارت وتدير الشأن الثوري.

– وضمان حرية الإعلام، وشفافية المعلومات، وإتاحتها للرأي العام.

– ووضع إعلانٍ دستوريٍّ مؤقّت، يُعتبر نبراس العمل الثوري، تتوافق عليه القوى السورية عبر سلطةٍ تشريعيةٍ ثوريةٍ تمثيليةٍ تقوم وفق انتخاباتٍ حرّةٍ ونزيهة.

أخيراً، يمكن لنا أن نلحظ في مسارنا أنّ البدائل المتاحة أمامنا باتت قليلةً للغاية، وأنّنا أمام مساراتٍ شاقّة، تتمثّل فيما يلي:

– الاستمرار في شخصنة تلك المؤسسات وتحويلها إلى مؤسّساتٍ نفعيةٍ للقائمين عليها، أفراداً ودولاً، وتهديميةٍ للثورة السورية.

– أو العزوف النهائي من قبلنا نحن المجتمع المدني، عن الاشتغال في الشأن السوري العام.

– أو إعادة بناء مؤسّساتنا التي تُعبِّر عنا، فلا يمكن تصوّر نجاح ثورةٍ أو دولةٍ أو مجتمع، دون وجود سلطاتٍ تقوم بهذه المُهمّة.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني