أمّي وآه!..
البحر ينز مخاوفه، خنازيره ترعب الكائنات والأحياء. الريح تئن.. تصفع السفن المتكئة على الشاطئ.. الرمال تتقافز عصافير ملونة، تطير بعيداً وتحطّ على رؤوس أشجار الموج، والنوارس تحوّم وعيونها على الأسماك الشاردة في عمق المحيط، وأنا..
أنا أقبع في صومعتي، أتدثّر بلحاف الدفء عارياً كما وُلدت قبل حلول الصقيع البليد الداكن، وندف الغيوم الباكية على جنيّات الحدائق المخضلة بلعاب شقائق النعمان تلامس نعومة شعرها المسترسل المفرود يستر عريها، والسيقان وحدها تعبّر عن جمال أخّاذ تنغرس في الأرض، تطهرها، تغوص وتتخفّى مختبئة بين الحشائش الملونة بأحمر شفاه عذاراها كاشفة عن بياض ثلجي ناصع.
أمّي! ما كنت أظن يوماً أنّي سأعيش ذلك الزمن المخبوء في صندوق الأحلام المضطربة أم أنّي أتوهم اليقظة. عيناي مفتوحتان.. الرؤية غبشيّة.. أشباح طيور تحوّم محلقة في السماء.. صقور وعقبان جوارح، وغربان وبغاث.. ضباع وحيوانات قمامة تجوب السفوح والسهول تنزرع في الثرى، وتغوّط.. تسمم التربة والهواء برائحة تزكم الأنوف، وتغثّي نجاستُها النفوس..
الأرض لم تعد الأرض التي تعرفين، والناس كفراش مبثوث حيارى فقدوا الاتجاه.. تعطّلت البوصلة وضاع النّجم القطبي، تاه في لجة صقيع عاتٍ في مدلهم ليل شتائي، خيوله ترمح في فضاءات بلا حدود دون راعٍ..
وأنا – أمّاه – مازلت حيّاً مشدوهاً في المنظر أمامي أتلمس أعضائي، والناس تجوب الشوارع، تطن كالذباب، تدور حول نفسها، وبلا جدوى تبحث عن قطرة ماء، عن كسرة خبز يابسة، عن ضوء في الأفق المسدود، تنتظر نجماً ينوس ضوْءُه من بعيد مخترقاً أسداف أمواج ظلمة حالكة.
ألطم خدّيّ.. أقرص أنفي.. أهزّه.. أتأكد أنّي مازلت أتنفس ورئتاي تعبّان الهواء.. تمتلئان به فينبض قلبي، ويتسرب دفق الدم في شراييني حاراً.. فأبتسم..