أطاريح في الوهم
-1-
من ذا الذي بمقدوره أن يقرر ما ينتمي إلى الوهم أو ما لا ينتمي؟
دعوني أبدأ الطريق، أول ما أبدأ، بأن أحدّد الوعي/الوهم تحديداً لا يرقى إليه الشك: إنه نمط من الوعي، إنه إذاً وعي ما، غير أن تحديداً كهذا فارغ من أي مضمون.
إنه لا يقول شيئاً عن مضمون هذا الوعي. كما أنه لا يشير، من قريب أو بعيد، إلى وظيفة هذا الوعي.
الوهم – وعياً – يعني أنه جملة من الأفكار والصور والقصص والاعتقاد والإيمان.
-2-
ولكن ما الذي دفعني لأن أقرر أن هناك نمطاً من الوعي يدعى الوهم؟
لا شك أنّي أنطلق من أن هناك وعياً لا ينتمي إلى الوهم، وإلا لما أفردت مكاناً للوهم في حقل الوعي.
ها أنا أمام مشكلة: كيف أميز بين الوهم ونقيضه. ولكن ما هو الوعي الذي يشكل نقيض الوهم؟ المفهوم المناقض لمفهوم الوهم هو مفهوم الحقيقة. ولكن ماذا لو قال صاحب وهم من زاوية رؤيتي أن وهمه حقيقة. هنا بالذات تبرز معضلة فض الوهم. فالوهم عند صاحبه حقيقة.
وهل من حقي أن أقدّ معياراً يسمح لي بالتمييز بين الوهم والحقيقة، لاسيما وأن الحقيقة هي الأخرى نمط من الوعي؟
دون معيار كهذا لا أستطيع أن أقرر ما الذي ينتمي إلى الوهم، لا أستطيع أن أميز بين الوهم ونقيضه. فكيف لي أن أقنع صاحب الوهم بأنه واهم؟
ولكني تذكرت أنني لا أطمح، أصلاً، لإقناع أحدٍ بأنه واهم، مع أني أحب أن يتحرر البشر من الأوهام القاتلة. إنما مقصودي أن أبين سلطة الوهم، بمعزل عن نتائج ممارسة السلطة هذه.
-3-
ليس الوهم نقيضاً للعقل كما يحلو للبعض أن يصف أنه لا عقلي، لأن كل ما ينتج عن العقل – عقلي، كما قلنا في كتابنا “كوميديا الوجود الإنساني”، إنه صورة من صور العقل وفيض من فيوضاته المستترة، والتي – بناءً على التاريخ – قد لا تنقطع.
فضلاً عن ذلك، فإن الوهم وعي موجود ويظهر في أنماط السلوك، وكل سلوك هو تعيّن للعقل.
فما هذا – إذن – المفهوم النقيض للحقيقة، وهو عقلي والذي يدعى الوهم. مع أن الحقيقة في تعيّنها لا تنفصل عن العقلي والواقعي.
-4-
دعوني أخطو خطوة أخرى نحو تحديد الوهم. كانت الخطوة الأولى قولنا إنه وعي. والوعي كما أعرّفه أفكار عن الدنيا، من أفكار العلم إلى أفكار الفلسفة مروراً بالأفكار الدينية والأسطورية.
الوعي بوصفه وعياً بالدنيا – أفكار عن الدنيا، الدنيا كلها بتفاصيلها وتاريخها ومستقبلها، الدنيا هي الحياة البشرية، الإنسان وتعيّناته، الدنيا هي الطبيعة والكون.
الوعي أفكار عن الدنيا. وهناك نمط من الأفكار أطلق عليه التصورات. أو قل الوعي – التصور، الوعي – التصور فاعلية تركيبية يقوم بها العقل لإنتاج أفكار عن الدنيا.
ولعمري أن مشكلة التصور – التصور المشتق من صوّر بشكل عقلي قائمة في التنوع. لو لم تكن هناك تصورات عدة حول موضوع واحد، حول شيء واحد، حول كائن واحد لما كانت لدينا هناك مشكلة.
إني هنا لا أتحدث عن التصور من حيث هو استعادة صورة في غياب الصورة، بل وعن تركيب الصورة.
في الحالة الأولى، فإنّي أقوم بالتذكر. التذكر عملية فيزيولوجية للشيء الغائب الذي كان حاضراً أمام الحواس.
ما الفرق بين تذكر صورة إنسان وتركيب صورة في الذهن عن هذا الإنسان نفسه. إنني في الحالة الأولى أتذكر شيئاً موجوداً، أتذكر ملامحه وبعض أقواله، وقد أنسى جملة من تفاصيله.
ولكن حين يسألني أحدٌ كيف كان تصورك عن هذا الشخص فقد أصفه بالبليد أو الذكي أو الخبيث أو الطيب أو المنفر.. إلخ. إنني أركب انطباعاتي وأقدمها تصوراً عن الشخص.
إذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك على هذا المستوى، فما بالك حين نتحدث عن تصورك لنشأة الكون؟
الوهم وعي تصوري. إنه ثمرة فاعلية العقل التاريخي. كل وعي تصوري هو وعي مركب، وعي يؤلف بين عناصر متعددة. وليس كل وعي تصوري هو وهم، بل كل وهم هو وعي تصوري، لأن كل تصور هو جواب عن سؤال.
-5-
لأن التصور هو جواب عن سؤال، فطبيعة السؤال من جهة وطبيعة الجواب من جهة ثانية تحدد طبيعة التصور ما إذا كان وهماً أو حقيقة.
-6-
السؤال متنوع بتنوع أسماء الاستفهام. ففي العربية عشرة أسماء للاستفهام هي: من، من ذا، ما، ماذا، متى، أين، أيان، أنى، كيف، أيّ، وسأضيف اسماً آخر هو لمن ولم يلتفت إليه سيبويه.
ليست أسماء السؤال هي التي تمنح السؤال طبيعته، لا، ولا صورة السؤال النحوية، وإنما واقعية السؤال أو لا واقعيته.
فهناك تشابه بين السؤالين الآتيين: من صنع القلم؟ من صنع العالم؟
“من صنع القلم” ناتج عن معرفة أكيدة بأن هذا القلم أو ذاك وكل قلم هو مصنوع بالضرورة. فليس في الطبيعة حقل لنمو الأقلام أو زراعتها. ومعرفة أن القلم مصنوع معرفة لا يرقى إليها الشك أبداً. كل ما لا أعرفه، تلك الجهة – المعمل – الذي صنع القلم. قد يتأتى جواب صحيح أو خاطئ، لكن الصحة والخطأ هنا لا يؤثران على صحة أن القلم أداة مصنوعة.
سؤال من صنع القلم سؤال عامي ساذج. سؤال المعرفة العادية. وليست له إلا قيمة جد ضئيلة في الحياة وتكاد لا تذكر.
ولكن السؤال “من صنع العالم” سؤال مختلف جداً عن سؤال “من صنع القلم”.
سؤال من صنع العالم جوابه عند سائله متضمن أن هناك صانعاً للعالم. أو أن العالم موجود أصلاً بلا صانع. كل إجابة عن هذا السؤال تستند إلى موقف من العالم.
فإذا كان الإنسان المجيب عن هذا السؤال ذا وعي علمي فلسفي دنيوي سينظر إلى سؤال كهذا بوصفه سؤالاً خاطئاً، وإذا كان مؤمناً بدين يقول بوجود إله خالق يكون الجواب إنه “الله”.
-7-
لا سؤال دون إقرار بعدم المعرفة. لكن السؤال لا ينشأ إلّا في رحم معرفة ما. فلكل علم أسئلته التي لا تنفد. ولكل ثقافة أسئلتها التي لا تنتهي. إنه السؤال نفسه حين يطرح في حقلين مختلفين يفضي إلى أجوبة مختلفة.
ما سبب “الجنون” سؤال قديم جديد. في ثقافة تؤمن بالجن ودخول الجن إلى النفس يأتي الجواب أن جنياً قد تلبّسه. لو سأل عالم نفس أو طبيب، فإنه سيرد “الجنون” إلى نوع من المرض الذي يصيب الإنسان لأسباب عضوية أو نفسية.
-8-
ها أنا على وشك الوصول إلى المعيار المميز بين الوهم والحقيقة عن طريق الجواب عن السؤال وعن طريق تحديد السؤال وطبيعته. فليس الجواب وحده الخاطئ، بل والسؤال أيضاً.
السؤال الخاطئ هو السؤال الذي يطرح أمراً خارج العالم المعيش لكي يعرف عن أمر غير موضوع معرفة أصلاً.
فالسؤال إما أن تكون الإجابة عنه مستحيلة أو شبه مستحيلة أو ممكنة أو حاضرة، أو أن يكون غير أهل للجواب. والأجوبة إما صحيحة أو خاطئة أو لا مضمون لها.
-9-
لنعد إلى أسماء الاستفهام. ونستخدم اسم السؤال “ما”. إن السؤال الذي يبدأ بـ”ما” هو سؤال عن الماهية عموماً وعن الأشياء غير العاقلة. واستخدام “ما” متعدد الأوجه.
ما الحياة، ما الإنسان، ما رأيك، ما عدد، ما الذي جرى.. ما هذا، ما ذاك.
التفكير العامي، غالباً، لا يسأل سؤال الماهية. إنه سؤال الفلاسفة والجدليين والأيديولوجيين. إن هؤلاء هم صنّاع الوهم الأساسيين. فالإجابات عن الما – بوصفها إجابات عن الماهية – هي مصدر الأوهام، وليس كل جواب عن الماهية وهماً.
-10-
صنّاع الوهم هؤلاء يقررون أن الماهية “هي”، وبخاصة إذا كان السؤال حول الحياة والوجود والمصير. فالعامة لا يصنعون الوهم، بل يستقبلونه.
كل أشكال الوهم هي تصورات لماهيات متنوعة. وكل التصورات الماهوية هي ثمرة السؤال “ما”.
لكن سؤال “ما” هنا متعلق بما ليس واقعاً أمام الحواس. وإنما متعلق بما يتجاوز الحس.
وهذا هو الفرق بين سؤال ما الجديد وسؤال ما مصير الكائن. ما الجديد وما مصير الكائن. ما المتعة الحسية وما المتعة.
-11-
إن جميع الأسئلة الأخرى المرتبطة بالتصورات الماهوية هي من نوعها والإجابات مؤسسة عليها بوصفها تمتلك قوة البداهة أو المسلمات.
-12-
يمكن للسؤال الصحيح أن ينتج جواباً وهمياً. فلو سألنا ما المرض؟ سؤال كهذا سؤال يتطلب جواباً، لأن هناك – فعلاً – مرضى. المرضى هم المصابون بالمرض. المرض خلل في وظائف الجسد السويّ بمعزل عن هذا الخلل مؤقتاً كان أو مزمناً.
ولكن قد يأتي الجواب عن ماهية المرض بوصفه دخول روح شرير إلى الجسد، وهو جواب يعتقد به كثير من الشعوب.
-13-
الوهم – إذن – تصورات ماهوية تأتي ثمرة أسئلة صحيحة أو غير صحيحة. وتنتج هذه التصورات الماهوية ما لا حصر له من إجابات عن أسئلة مرتبطة بها.
-14-
الوهم تصورات ماهوية، تعيد إنتاج نفسها عبر أشكال متعددة من التصورات غير الواقعية، تأسيساً على ماهيات متصورة، حتى ولو كانت ثمرة أسئلة صحيحة.
-15-
كل التصورات الوهمية ذات أثر في السلوك يصل حد السيطرة الكاملة للوهم على الذات.
-16-
أسئلة الوهم هي نتيجة مباشرة للماهية الوهمية – المتصورة. هذا يعني أن سلسلة أسئلة الوهم تزيد من ثراء أشكال الوهم، لأن سؤال الوهم لا ينجب إلا جواباً وهمياً، كما أن الجواب الوهمي عن أسئلة واقعية حين يغدو مقدمة للتفكير يعيد إنتاج ذاته بأسئلة وهمية وهكذا دواليك.
-17-
ليس مسار العقل مسار تحرر من الأوهام فقط، بل ومسار إنتاج الوهم وتأكيده أيضاً.
إننا إزاء عملية يبدو حتى الآن أنّ لا نهاية لها.
-18-
تتعايش في العقل الواحد الأوهام والحقائق وكل عقل مهما وصل إلى درجة الواقعية واستبقى في زواياه أوهاماً هو عقل يتوهم من عقل أفلاطون إلى عقل ماركس. ولكن أوهام الفلاسفة والمفكرين ضعيفة أمام التاريخ. وحدها أوهام العامة ذات قوة استثنائية أمام التاريخ.
-19-
كل التاريخ البشري يمتطي عقله أوهاماً كي يتحقق. فالوهم أحد أهم أدوات معقولية التاريخ، بل لكي يمشي التاريخ قدما إلى الأمام يجب أن يسير وراء الوهم كبشاً يقوده إلى ما يحب. وبالتالي ليس هناك تناقض بين الوهم ومعقولية التاريخ.
وحده التاريخ يتحرر من الوهم حين يدرك استحالة تحقق الوهم واقعياً.حين يتحرر التاريخ من الوهم يفسح المجال أمام بعض المفكرين لإنتاج نمط جديد من الوهم.
مفردات الوهم تعاش كحقائق مطلقة. والوهم أصلا لا يعيش إلا بفضل النظر إليه كحقائق مطلقة لا يرقى إليها الشك.
قوة الوهم كامنة في ارتدائه ثوب المطلق، وهو أسوأ أنواع الوعي، لأنه معنّد، وبالتالي الوهم لا يعرف النسبية، فالوهم إما مطلق أو لا.
الوهم وعيٌ بالمطلق واعتراف بالمطلق دون أيّ شك مهما كانت صور المطلق ساذجة. ولهذا لا يمكن النظر إلى الوهم إلا بوصفه نوعاً من الحقيقة اللاحقيقة.
-21-
الحقيقة اللاحقيقة هي الوهم الذي يتمتع بقوة الحقيقة المطلقة. ذلك أن صاحب الوهم، وهو لا يعرف أنه واهم، يحمله الوهم على التصديق بكل ما ينتج عن الوهم من أقوال.
-22-
الوهم بوصفه الحقيقة اللاحقيقة ليس واقعاً موضوعياً، إنه قول، أحكام، وعي في جملة أحكام، ليست أحكام واقع، بل إجابات عن أسئلة الواقع، عن ماضيه وحاضره ومستقبله.
-23-
الوهم لا يمر بمرحلة الفرضية، ولن يمر، لأن الفرضية قابلة للتأكيد أو النفي، للبرهان أو الدحض.
الفرضية فكرة تأتي ثمرة تفكير من أجل تفسير واقعة، أو فهم ظاهرة تأسيساً على الأسباب والشروط التي لا تنفصل عن الظاهرة. إنها معرفة مؤقتة، تفسير مؤقت، فهم مؤقت.
فكلما كان الوهم مطلقاً والأحكام الصادرة عنه مطلقة، فهو إذا لا يمر بسلسلة القواعد المتعلقة بالمعرفة الموضوعية. فضلاً عن ذلك، فإنه لا يخضع أيضاً للمراجعة.
-24-
يتعرض الوهم للتخلي عنه من قبل صاحبه إن هو وصل حد التفكير بالوهم بوصفه وهماً. وعندها يتخلص من سلطة الوهم أو من سلطة وهم بعينه.
وهذا يعني أن التحرر من الوهم مرحلة من التفكير، لأن الوهم نمط من التفكير يشكل مرحلة قد تدوم، وقد تنتهي.
-25-
يحصل أن ينظر الإنسان إلى الحقيقة الواقعية، أقصد ما هو معيش ومتعيّن، على أنه وهم انطلاقاً من الخيبة، حتى ليمكن القول إن الوهم، أكثر الأوهام، هي وليدة الخيبة والضعف.
والوهم، بوصفه مظهراً من مظاهر الضعف الإنساني، يمنح الضعف وسيلة للتعبير عن نفسه بقوة من خارجه.
-26-
الوهم المعبّر عن الضعف يبقى حاضراً في ثقافة راكدة تحافظ على شروط إنتاج الوهم وبقائه، لأن الوهم يولد من رحم الثقافة، ولأن الوهم يضعف يواجه دائماً المعرفة الواقعية بوصفها قوة.
-27-
لكن قوة الوهم عاصفة؛ أي أن قوة الضعف قوة تتجاوز حدود، المعقول، فهي من طبيعة الوهم ذاته، لأنها قوة عمياء.
فحين تصبح سلطة الوهم سلطة تتحكم بالقطيع، فإن القطيع الخالي من قدرة التساؤل والتفكير يتحول إلى قوة ساحقة وعمياء بامتياز.
-28-
لا يستطيع أي عقل عملي أن ينتصر على عقل وهمي، ولكن العقل الوهمي يحقق ما يريده العقل العملي في التاريخ.
-29-
دون أي تقويم للوهم، فإنه – من حيث هو سلطة – يتحكم بوعي الماضي والحاضر والمستقبل، سواء على المستوى الفردي أو على المستوى الجمعي. وإن كانت آثار سلطة الوهم الفردي قد تضع اللبنة الأرأس لسلطة الوهم الجمعي.
-30-
الوهم بوصفه وعياً يعود بأصله إلى أصل الوعي. والوعي، بالتعريف، جملة أحكام حول الدنيا بسبب الدنيا وصادرة من الدنيا، أحكام تصل حد القول بشأن الكون كما قلنا.
-31-
عندما نتحدث عن أصل الوهم وفصله، فنحن لا نتحدث عن تاريخ الوعي – الوهم. بل عن أسس تشكل هذا الوعي وإعادة إنتاجه دائماً، فأصل الوهم القديم لا يختلف عن أصل الوهم الراهن.
-32-
يقوم العقل الإنساني بإنتاج الوهم، رغبة منه في تشكيل معقولية خيالية عن أحداث العالم الغامض جداً، وهذا يعني أن الوهم في الأساس وعي أنطولوجي بامتياز.
-33-
عندما نقول العقل الإنساني، فإننا نقصد فرداً ما، جماعة صغيرة راحت تفكر عوضاً عن الناس أجمعين وتتأمل في أجوبة عن أسئلة بمعزل عن سذاجتها أو عمقها، لتقدم تصورات كلية عن أسئلة الوجود.
-34-
الوهم، كما قلنا في البداية، هو ثمرة وعي نخبة أصبح عاماً. الكاهن – الحكيم، النبي، الفيلسوف المفكر..
يحتل هؤلاء في تاريخ الوعي الأرأس، لأنه وعي منظم جداً، ومتسق صورياً، ومناسب جدّاً للانتشار، بسبب بساطته وتوافقه مع مستوى العقل العام.
وذلك أن العامة هي الحقل الوحيد لانتشار الوهم، حيث التصديق هو السمة الأبرز في الوعي العامي وخلوه من نعمة التساؤل.
-35-
الوهم، أنطولوجياً، يبحث عن العلة، إذ لا يستطيع العقل أن يفكر خارج العلية والسببية، لكن الوهم، خارقاً السببية، يتوقف عن التفكير وفق السببية، لأنه بهذا يحل معضلة اللانهائية في السببية، ولهذا تراه يتوقف عند سبب أول أو لا سبب له.
إن تخيل الوجود نتيجة لسبب من خارج الوجود هو السبب الأساس لفكرة الخالق، إذ لا يستطيع الحكيم والمفكر والكاهن أن يتصوروا وجوداً بلا سبب أو تصور واقعة بلا علة، إنهم يتصورون وجودا هو سبب ذاته. وفكرة الخالق – الصانع الموجود أنتجت بالتالي توسطات الوصول إلى هذه التصورات، والصفات المميزة للخالق وتوسطاته.
-36-
الوهم يصدر، هنا، عن سلطة عادات العقل، عن العقل الذي لم يتساءل لماذا يكون الوجود سبب ذاته كما الخالق!
طبعاً: السبب أنه العقل بعاداته الكريهة لا يتصور شيئاً موجوداً إلا ثمرة التفكير بالإيمان.
ولهذا، فإن العقل حوّل الترابطات، ذات الطابع السببي، الموجودة في الواقع، إلى مبدأ هو مبدأ السببية؛ أي مبدأ من مبادئ التفكير العقلي. فوحد بين مبدأ الواقع و مبدأ العقل، ولأنه، تأسيساً على عادة العقل، لم يستطع العقل تصور الوجود إلا تأسيساً على سبب يفكر، يفيض، ويقول كن فيكون، يخلق، يَكرَم.
-37-
وقس على ذلك عادة التفكير، وفق الغائية التي تحولت بدورها إلى مبدأ من مبادئ العقل وبالتالي من مبادئ الوجود، حيث لا شيء موجود إلا ثمرة غاية، والغاية لا تكون إلا في كائن يفكر قياساً على الكائن الذي على هذه الأرض. ولكنه يفوقه بأمر مهم، وهو المعجزة.
-38-
والمعجزة هي ما يعجز الإنسان عن القيام به. فالإنسان لا يستطيع أن يخلق أو يحيي أو يزلزل.. كل هذه الأفعال لا بد أن تكون صادرة عن قوة غائية مطلقة القوة.
-39-
منطقياً ما لا حدود لإرادته وقوته لا حدود لما يريد، والغاية موجودة حتى لو لم نعرف الغاية بحد ذاتها وبدقة أو باحتمال.
الوهم، هنا، قائم في تصور ما صار ينظر إليه على أنه واقع، موجود، لاشك فيه.
-40-
كل مالا حدود لقوته ومالا حدود لإرادته سلطة غير محدودة أولاً، ووحيد في سلطته اللامحدودة ثانياً.
هذا الوحيد يطلب من الكائن المحدود والعاجز: الرجاء والخوف.
-41-
الرجاء والخوف مصدران أساسيان لطقوس التواصل مع الآلهة من أجل التحرر من الخوف ذاته. بعث الاطمئنان في النفس.
الرجاء والخوف يحملان الكائن على خلق الرموز كلها معززة بالرغبة في الفهم.
الرغبة في الفهم، الرجاء والخوف، دوافع أصلها غريزي. الغريزة المفكرة مصدر الوهم كله. هل باستطاعتنا الاعتقاد بأن الوهم غريزي؟
الرغبة نزوع متواصل لدى الكائن نحو الخارج لامتلاكه بكل أشكال الامتلاك. ولهذا فالرغبة لا تتوقف، ولا تعرف الوقوف عند حد. وتتوالد إلى ما لانهاية، ما بقي الكائن الإنساني على هذه الأرض.
ودون أيّ إحساس بالخطأ ودون أيّ تردد أقول: الرغبة في الفهم غريزة، الغريزة تولد مع الكائن بوصفها أمراً بيولوجياً. وإذ نقلْ غريزة نقلْ بيولوجيا.
الوهم نمط من الفهم. إذاً، الوهم غريزة ثمرة الغريزة. الرغبة في فهم التحولات، التغيير، الثبات، الظاهر، أيّ عقل باستطاعته أن يقف من الموت موقفاً لامبالياً.
الرغبة في الفهم، في العالم كما يجب أن يكون، في الكشف عن الأصل والفصل أسس لكل أشكال الوهم: من الوهم العامي، إلى الوهم الخرافي، إلى الأسطوري، إلى الأيديولوجي وانتهاءً بالوهم الفلسفي.