fbpx

آفاق العمل السياسي في الشمال السوري

0 3٬278

 لم يكن يَتوقّع أحد أن تصل نسائم الربيع العربي إلى سوريا بعد جهود مُضنية استمرت لخمسين عاماً كانت غايتها إرساء ورعاية التصحر السياسي المفروض على المجتمع…وكان أي نشاط سياسي أو حتى التحدث بالسياسة من قبل الشباب يَلقى امتعاضاً وتعنيفاً من الكبار ويتم ترديد العبارات المعروفة والموروثة بأن السياسة نجاسة والحيطان لها آذان وخلينا نمشي جنب الحيط ونقول يا رب السترة.

كانت السياسة بِعرف نظام الأسد تنقسم إلى حالتين:

الحالة الأولى: هي التأييد المطلق والولاء الكامل والمديح الدائم للقائد، والحالة الثانية هي تمويت السياسة ضمن ماهو مُتاح من ممارستها عبر حزب البعث وتحويلها لحالة نفعية وصولية لتحقيق مكاسب شخصية والعمل في أحيان كثيرة كظل أو ذراع لأجهزة الأمن المتعددة والتي تتعاون مع الأفرع الأمنية بما تراه من أفعال معارضة أو تقوم بأداء مهام تَطلبه منها تلك الأجهزة، وكانت تلك المجموعات قد تحولت لميليشيا عسكرية في الثمانينيات تقاتل أبناء بلدها من المعارضين لنظام الأسد، وبعد اندلاع الثورة السورية سرعان ما انتظمت بلجان شعبية يُطلِق عليها السوريين لجان الشبيحة والتشبيح وانتظمت تحت قيادة الأفرع الأمنية ولازالت إلى يومنا هذا.

كان الجيل الذي فَجّر المواجهة في عام 2011 شاباً لم يعرف المواجهات الدموية التي يختزلها مخيال الآباء والعنف المفرط من قبل أجهزة النظام على أي تَحدِّ يواجهها.

قرر الشباب خوض المعركة لكن دون الإلمام بأبجديات العمل السياسي أو الثقافة السياسية أو الخبرة في تشكيل الجماعات السياسية، التي لم يتح لهم تَعلّمها أو التدرب عليها، كانوا مُنفصلين عن الماضي ويعيشون حاضرهم ويتطلعون لمستقبل غير الذي ينتظرهم فيما لو استكانوا لحالهم.

وقد ساهم في بلورة تفكيرهم الجمعي تفجّر ثورة المعلومات ووسائل الاتصال الحديثة حيث تربوا في ظل عصر الصحون اللاقطة التي كسرت احتكار الأنظمة الشمولية للإعلام والمعلومة.. أعقب ذلك اختراع الإنترنت ثم وسائل التواصل الاجتماعي التي أتاحت لهم اكتشاف العالم بل اكتشاف أنفسهم والتعرف على بعضهم بعضاً، فقد كان كل واحدٍ منهم يمتلك صحيفة وقناة تلفزيونية ومنبراً يستطيع بلمسة من جهازه المحمول أن يوصل صوته ورأيه لملايين المتابعين.

لذلك لم يكن قبل الثورة السورية أي نشاط سياسي حقيقي سوى الاختراقات التي أحدثتها النخبة السياسية في ربيع دمشق ولجان إحياء المجتمع المدني وإلى ما هنالك من تحركات ولكنها بقيت محدودة وسِيق مُفجّروها إلى غياهب السجون ولم تكن ذات بُعد شعبي، ولم يسمح لها بأن تتحول إلى منصات أو تيارات تؤسس لحياة سياسية حقيقية.

كانت استراتيجية النظام القضاء على الثورة المدنية السلمية بشتى الوسائل وعندما فشل في ذلك وتسلُح الثوار للدفاع عن أنفسهم وبدؤوا ينتظمون في سرايا و كتائب وتجمعات أكبر كان همّ النظام اغتيال البعد المدني للثورة بتوجيه العنف المفرط تجاه الحواضن المدنية واعتقال أو تصفية أو الإجبار على التهجير لخارج سورية لكل الكفاءات المدنية المؤمل منها أن تكون الحامل السياسي والإداري للمناطق التي تحررت من سلطة النظام.

وفي ظل صعود أهداف التصدي لهجمات النظام ومنعه من استعادة ما تمّ تحريره من أراضٍ وسكان بل والعزم على تحرير أراض جديدة غابت السياسة وحضرت العسكرة، وفي الحقيقة في ظل هكذا أوضاع من تغير الخرائط العسكرية على الأرض لا يمكن أن ينمو أي شكل من أشكال العمل السياسي، ولكن كان البعد الوطني بمفهومه الواسع وطريقة التعبير عنه هي المظاهرات الشعبية التي أصبحت عرفاً سورياً ثورياً يختزل كل الحراك المدني ضمنه، كان الناشطون (ومنهم عسكريون متطوعون في فصائل الثورة) يتنادون إلى إطلاق أسماء الجُمع للتعبير عن الموقف الشعبي والبوصلة الثورية تجاهه، ويمكننا القول إنّ تلك التجمعات الشعبية هي الشكل الأوضح إن لم يكن الوحيد للنشاط السياسي في المناطق المحررة.

في الحقيقة لم تكن الظروف التي أعقبت المعارك الكبرى والهدوء النسبي التي تتمتع به المناطق المحررة تسمح بنمو عمل سياسي حقيقي وذلك لاستمرار عسكرة المجتمع التي تُشاهدها أينما ذهبت، حيث لا تخلو عائلة من فرد أو أكثر في أحد فصائل الجيش الوطني وما يتم تقاضيه من أجر هو المصدر الرئيسي للعيش.

المناطق التي يُسيطر عليها الجيش الوطني تُعتبر الحاضنة الرئيسية للثورة وتوجد بها مؤسسات المعارضة الرسمية هي المنطقة الوحيدة في سورية التي يجب أن تتُشكّل فيها حياة سياسية حقيقية، لظروف عديدة:

  1. عدم وجود سلطة مركزية قوية ولا قوانين منبثقة عن تلك السلطة ولا أي وثيقة تفاهم تمنع العمل السياسي في هذه المرحلة، وبالتالي لا وجود لقوانين تَمنع تشكيل تيارات سياسية أو ولادة حياة سياسية.
  2. في مناطق الأمر الواقع الثلاث الأخرى توجد سلطات مركزية قوية ومستبدة تحكم بأيديولوجيا لا تقبل المنافسة أو المشاركة أو حتى النقاش (مناطق سيطرة نظام الأسد، مناطق سيطرة قسد، مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام).
  3. البيئة الحاضنة للثورة في الشمال هي بيئة خصبة لنشوء تيارات سياسية تلتزم بمبادئ الثورة، فهذه البيئة مُسيسة بالضرورة ولا تهتم بالسياسة كترف أو رفاهية، بل لأن حياتها ومستقبلها مرتبط بالتطورات السياسية ليس المحلية فقط بل أوسع من تلك الدائرة.

لا تحظى المعارضة الرسمية بأي شرعية شعبية، بل وتتهمها القواعد الشعبية بارتهان قراراتها للخارج، ليس الآن فقط بل من لحظة تشكيلها فهي عبارة عن توافقات وإرادات لدول متدخلة بالشأن السوري وبالتالي لم تنبثق تلك المعارضة من صميم الجمهور ولا تُمثل تطلعاته.

وتَشكّلت خلال الفترة الماضية مؤتمرات ومبادرات وتيارات بل حتى أحزاب كان أعضاؤها من الموجودين في الداخل وبلدان اللجوء، وهي تتشابه في الأسماء والشعارات والأهداف والمطالب، ولم تستطع اختراق القواعد الشعبية، بمعنى لم تستطع الارتكاز على حامل مجتمعي ثوري حقيقي تتبنى مطالبه ويرى هو فيها أنها خير من تُمثّله.

من تلك الأجسام التي تَشكّلت ولدت مية بالأساس ومنها يحتضر ومنها ينتظر فرصة ليثبت وجوده، وبالعموم لا أرى في هذا الحراك الذي ينتقده بعضهم إلا أمراً إيجابياً يَنمّ عن تحرك نخب تريد تجاوز كل العقبات والصعوبات لتخلق نوعاً من الحياة السياسية تُؤطّر فيها أهداف الجمهور بالحفاظ على مبادئ ثورته في ظل الإحباط الشعبي العام من أداء المعارضة الرسمية.

الصعوبات التي تواجه العمل السياسي في الشمالي السوري

إحباط الجمهور أو إحجامه عن الانخراط في عمل سياسي يمكن أن يكون نتيجة الظروف التالية:

  1. سوء الحالة الاقتصادية والصعوبات المعيشية التي تجعل معظم اهتمام الإنسان في الشمال يتركز على تأمين لقمة عيشه أولاً.
  2. الإحباط العام من أداء المعارضة السياسية الرسمية وعدم التفاتها لرأي الشارع وعدم حرصها أو قدرتها على نيل ثقته أو التواصل معه والأسلوب غير الديمقراطي الذي يتم فيه تبادل المواقع بحيث أنّ رموزاً من المعارضة صار لها أكثر من عقد في مواقعها وتتحدث عن الديمقراطية وتداول السلطة وضخ دماء شابة وجديدة في مفاصل القرار.
  3. استقطاب ما تبقى من كفاءات مدنية وانخراطها بالعمل ضمن منظمات المجتمع المدني، ومن مهام تلك المنظمات عدم المشاركة بأي نشاط سياسي مهما كان…وليس كما فعل البعض مُؤخراً بتسييس عمل هذه المنظمات.
  4. حرص سلطات الأمر الواقع على عدم اتاحة الفرصة لأبسط أشكال الديمقراطية وتدريب الجمهور على ممارستها والتعلم من الأخطاء التي يتم الوقوع بها عند الممارسة العملية، وذلك عبر عدم إجراء أي شكل من أشكال انتخابات الإدارة المحلية وذلك عبر تمكين كل قرية أو بلدة من اختيار من يحكمهم محليا بطريقة ديمقراطية، وبالتالي لم تُجر أي عملية انتخاب حقيقية في الشمال المحرر لغاية كتابة هذه السطور.
  5. شيوع نظرية المؤامرة عبر ضخ إعلامي مقصود أو غير مدرك لطبيعة المرحلة من تقديم صورة للجمهور أن نظام الأسد الذي ثُرتم عليه مدعوم من كل دول العالم وبالتالي لا أمل يُرتجى من أي محاولة لذلك، وياليت الأمر وقف عند هذا الحدّ، بل يتمّ نشر السيناريوهات ليس عن إمكانية عودة النظام لإعادة سيطرته على المناطق المحررة بل عن توقيت ذلك.

أسس الحياة السياسية في الشمال المحرر

  1. لا يجوز أن يَنضمّ الشباب الثوري إلى تَجمّع واحد يتم تشكيله، بحيث يُصبح هو حزب الثورة، بل أن يتوزعوا في كل الأجسام السياسية ليكونوا عيناً لمراقبة أي انحراف عن النهج الثوري، ومحاولة التصدي له.
  2. ليس من المفضل تشكيل أحزاب في المرحلة الحالية لأن للحزب قواعد انضباطية لا يجوز الخروج عنها وله برامج يسعى لتطبيقها وبالتالي سوف يأخذ جزءاً من الجمهور يؤمنون بأهدافه، ومن ثمّ يتشكل حزب ثان وثالث ورابع… إلخ والمفضل الآن برأيي، تشكيل التيارات الوطنية ذات الأهداف الجامعة ودون الخوض ببرامج تفصيلية أو الخوض في مواضيع من المبكر الخوض فيها (كالفيدرالية وما شابه) إنما الاهتمام بحمل أهداف الثورة والاهتمام بتحسين الأحوال المعيشية والخدمات المقدمة للجمهور، فلا يمكن القفز على مرحلة الدولة في وضعنا الراهن.
  3. يجب أن يتم التوافق مبدئياً على أنّ تشكيل التيارات السياسية أو الأحزاب يكون من منطلق وطني وغير عقائدي وغير مناطقي، بحيث تكون تلك الأجسام تحت شعار الثورة الخالد واحد واحد واحد.. الشعب السوري واحد.
  4. يجب على الأجسام السياسية الثورية حَضّ الجمهور على الانخراط بكل المؤسسات المدنية والعسكرية وأن يتم تقدير ذلك الفعل حيث من الضروري وجود العناصر الثورية بكل المؤسسات وخاصة العسكرية منها، حتى لا تتكرر أخطاء الآباء بإحجامهم عن إرسال أولادهم لمؤسسات الجيش والشرطة وتفضيل المهن العلمية عليها، وتلك المؤسسات التي يَتمّ بِناؤها الآن ستكون من ركائز الدولة السورية الجديدة.
  5. يجب أن يَغلب على أهداف وخطاب أي تجمع سياسي في الشمال، الوطنية والخطاب الوطني الجامع لكل السوريين والبعيد عن أي تعصب قومي أو مذهبي أو مناطقي ومَدّ جسور التواصل مع السوريين في المناطق الأخرى ومحاولة إصلاح النسيج السوري الاجتماعي بعد كل ما مرّ عليه.
  6. يجب على كل جسم سياسي سيتم تشكيله اعتماد الحل السياسي على أسس القرارات الدولية وتحت مظلة الأمم المتحدة بدون إطلاق شعارات لا أدوات تنفيذية لها ولا حوامل اجتماعية ترفعها، ولا أمل لها بالنجاح، ولكنها تُنفّر المجتمع الدولي من قضية السوريين.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني