fbpx

يا واكِل ناسَك

0 191

تُعتبر عبارة “يا واكل ناسك” من العبارات الشهيرة التي يستخدمها أهل صعيد مصر وهي عبارة شهيرة يتم ترديدها في المسلسلات المصريّة التي تتعاطى مع مشكلات البيئة الصعيديّة وتُعبِّر عن حجم البغض والغضب والهجاء بحقّ شخصٍ ما، وتعني أن يحرمه الله من أهله وأن يجعله وحيداً يعيش حالة السخط والضياع، وتأتي في معنى آخر وهو تفريط أولياء الدم بدماء أبنائهم أو إخوانهم أو أهلهم مقابل المال.

ويمكن إسقاط هذا التعبير على ممارسات بعض السوريين عموماً، وبعضهم الآخر المحسوب على الثورة، فهناك من يريد دفعنا للتبرؤ من الثورة بسبب أفعاله الدنيئة والخسيسة التي يرتكبها باسم الثورة والحرية وهي براء منه، فهي أفعال شخصية لا علاقة لها لا بقيم الثورة ولا بالحريّة ولا الكرامة، فالسرقة والقتل والاغتصاب والتعدّي على الحريّات وسلب الحقوق ليس لها أيّ مبررٍ في عُرف الثورة ولا في أخلاق الثوار.

وهناك من يريد دفعنا للتبرؤ من الثوار وأهلنا وعشائرنا بسبب ممارسة العصبيّات الجاهليّة التي ما أنزل الله بها من سلطان، سواء كانت عصبيّات مناطقيّة أو عصبيّات حزبيّة أو عصبيّات عشائريّة أو عصبيّات فصائليّة.

وهناك من يريد دفعنا للتبرؤ من كل قيمةٍ وطنيّةٍ جامعةٍ بسبب مشاريعه “اللاوطنيّة” وارتباطاته الخارجيّة واستقوائه بالأجنبي على أبناء بلده، والانخراط في مشاريع التقسيم والتفريط بوحدة الشعب والتراب الوطني وإثارة النعرات الطائفيّة والعِرقيّة والمناطقيّة عند وقوع أي طارئ يمسّ طائفته أو عرقه أو قوميّته أو منطقته.

وهناك من يريد دفعنا للتبرؤ من ديننا وأخلاقنا وتقاليدنا، بسبب ممارساته التي ليست من الإسلام في شيء، وبسبب بعض من يستغّل هذه الممارسات لإسقاط الدين والقيم والأخلاق من حياتنا ومن مجتمعنا وفرض قطيعة بينه وبين قيمه وعقيدته التاريخيّة.

وهناك من يريد دفعنا للتبرؤ من قيم العدالة وسيادة القانون بسبب جهله وجبروته وظلمه والفوضى التي ينشرها أينما حلّ أو ارتحل.

وهناك من يدفعنا للتبرؤ من مروءتنا وإعلان جحودنا لمن وقف معنا، أو أسدى لنا معروفاً، ويدفعنا لذلك لا لشيءٍ إلّا لإرضاء مآربه الشخصيّة، أو لتصفيّة حساباته الشخصيّة أو الحزبيّة أو السياسيّة أو الفصائليّة أو العقائديّة أو العرقيّة.

أبشع هذه الصور من أخلاق أصحابها لا تظهر إلّا في معرض المتاجرة بمصائب الأبرياء في مناطقنا المحرّرة، والكوارث العامة، والحوادث الإنسانيّة التي تقتضي الوقوف أمامها باحترام وإعمال قيم العدل والإنصاف، واحترام الذات والتسامي فوق الأحقاد الشخصيّة والحزبيّة والفصائليّة والعرقيّة والمناطقيّة، والمزاودات التي ظهرت وتظهر عند أي جريمة اغتيال أو قتل أو حتى أثناء كارثة طبيعيّة، وكان آخرها ما حدث في جنديرس.

الحروب القذرة هي تلك التي تتخلّى أطرافها عن أبسط القواعد الأخلاقيّة والدينيّة والقانونيّة والإنسانيّة التي تحكم النزاعات والحروب، ومن أهم هذه القواعد والقيم هو ما كرّسه الإسلام فيما يُعرف فقه ” السِيَر” الذي تحوّل بعد قرون الى ما يُعرف حاليّاً بـ “القانون الدوليّ الإنساني”.

فمن سفك دماً حراماً أو انتهك عِرضاً حراماً أو نهب مالاً حراماً باسم الثورة أو باسم الحريّة فهو “واكِل ناسه”، ومن تعصّب عن جهالة وبجهالة لحزبٍ أو منطقة أو عشيرة أو فصيل أو عِرقٍ أو طائفةٍ دون وجه حقّ فهو “واكِل ناسه”، وكل من حكم فاستبدّ، أو قضى فجار، أو خاصم ففجر فهو “واكل ناسه “، وكل من اغتاب ونمّ وخوّن بلا دليل، أو رمى بريئاٍ ببهتانٍ فهو “واكل ناسه”، وكل دعيّ باسم الثورة أو باسم الحريّة يمارس الإقصاء أو المنافسة غير الشريفة أو الانتهازيّة والأنانية فهو “واكل ناسه”.

يحضرني في هذا المُقام كلمات للشاعر المصري “سيّد حجاب” يقول فيها:

على إيه نويت يا حزين يا واكل ناسك

شرفك محدش داس عليه ولا داسك

والغل ّمن ساسك سرح ملا راسك

حاسِب.. ارتجع.. انفض سموم وسواسك

أما آن لنا بعد اثنتي عشرة سنة من القتل والتدمير والتهجير أن نعود لقيم ديننا الساميّة، ولقيم ثورتنا الحقيقيّة، وأن نراجع أنفسنا، وأن نعيد إحياء تلك القيم النبيلة في النفوس، التي لا يمكن لنا الانتصار على أعدائنا إلّا بها؟.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني