مواقف ومصالح أطراف الاجتماع الرباعي في موسكو
على وقع حصول الاجتماع الرباعي بين نوّاب وزراء خارجية تركيا وروسيا وإيران ونظام الأسد، سكب الأسد في موسكو الكثير من الماء البارد على رأس الدب الروسي عندما أعلن من عاصمته وعبر وسيلة إعلامية روسية، أنّه لا يرى جدوى من السير بطريق المصالحة مع تركيا قبل حصوله على ضمانات كافية بإعلان تركيا عن عزمها الانسحاب من الأراضي السورية وتعهد أنقرة بوقف دعمها للمعارضة السورية.
هذان الشرطان يعتبر نظام الاسد أنهما يَسبقان أيّ اجتماع على أي مستوى سياسي.
وكان استقبال موسكو للأسد هذه المرة ليس ككل المرات السابقة، التي يَتمّ بها دعوته سراً ولا يتمّ الإعلان عنها إلّا بعد انتهائها، وتَمّ استقباله في موسكو بالبروتوكولات الرسمية لرؤساء الدول من بِساط أحمر وحرس شرف وبعد ذلك وضع إكليل من الزهور على ضريح الجندي المجهول، وسبق البروتوكولات الروسية، استقبال تم للأسد في سلطنة عمان وتلاه بعد موسكو استقبال مماثل في أبو ظبي.
وكأنَّ من يُجري تلك الاستقبالات يريد تصدير الصورة على أن أمراً واقعاً قد تَمّ ولا مناص من الاعتراف به.
بالعودة لتصريحات الأسد في موسكو، فمن المعروف أنّ فكرة تأسيس مسار المصالحة بين أنقرة ودمشق هي فكرة روسية أصلاً، حاولت موسكو وأنقرة المضي بها قُدماً دون إشراك طهران بها، وحصل اجتماع أو خرق مُهم في جدار علاقات تركيا مع نظام الأسد عندما تَمّ عقد الاجتماع الثلاثي في 28 كانون أول الماضي بين وزراء الدفاع الثلاثة بصحبة رؤساء أجهزة الاستخبارات، وسرق الأضواء حينها ليس لقاء وزيري دفاع تركيا ونظام الأسد (وبينهما ما صنع الحداد) بل غياب الطرف الإيراني عن ذلك المشهد الاحتفالي.
وبدأ كُلّ طرف يُعلن عن أسباب تأجيل اجتماع نواب الوزراء، منهم قال لأسباب فنية، ومنهم من قال لإنهاء الملفّات الواجب بحثها، ولكن بدا واضحاً أنّ صفعة تم توجيهها للرئيس الروسي ولابد من إجراء مشاورات واتصالات بعيدة عن الأضواء.
تَمّ الإعلان لاحقاً أنّ موسكو ستحتضن ذلك الاجتماع في الأسبوع الأول من شهر نيسان، وانتشر في وسائل الإعلام أنّ اتصالاً هاتفياً بين الرئيسين الروسي والتركي قد تَطرّق لموعد الاجتماع، أعقبه تصريح لوزير الخارجية الإيراني من موسكو أثناء لقائه لنظيره الروسي بأنّ إيران مُستعدة للتوسّط بين تركيا والنظام لتذليل العقبات التي تعترض عقد الإجتماع.
ويعلم الجميع حرص روسيا وإيران على إضفاء المزيد من القوّة على موقف رئيس النظام وأنّهم ينوون التوسط لإقناعه بمسألة ما أو العدول عن موقف كان قد اتخذه، مع إدراك الجميع أنّ الحقيقة غير ذلك ولا يُمثّل الأسد أكثر من تابع صغير لكلا الدولتين يُنفّذ ما يُطلب منه.
مواقف الأطراف الأربعة من المسار الرباعي
1- لا شك أن الموقف الروسي هو المُحرّك والراعي لهذا المسار بِرمّته، إذ يُمكن اعتبار هذا المسار الرباعي، الوريث أو البديل لمسار أستانا الثلاثي، ومن المُرجّح أن يصبح خماسياً إذا ما انضمت إليه المعارضة السورية الرسمية فيما بعد.
ويريد الرئيس الروسي بعد أن فقد الكثير من أوراق قُوّته في الملف السوري بِفعل غوصه فير المستنقع الأوكراني، كونه لم يَعد سَيّد اللعبة في سورية، وهو الخصم والحكم بآن واحد وأصبح يطلب من الأفرقاء الثلاثة دون أن يَتمكّن من أن يملي عليهم، وبالمقابل ليس عنده ما يعطيه لهم في سورية، لم يَعد الروس في سورية أكثر من قوة جوية مُتواضعة ولم تَعد وسيط القوّة الذي يكون صديقاً وحكماً للأطراف المتصارعة أو المتنافسة في الساحة السورية بل وربما في الإقليم كُلّه.
وما يَشغله الآن بناء مسار تسوية قوي في سورية يُنافس أو يحارب المسار الأممي الذي يَتبنّاه أعداؤه، ويَسعى لأن تكون سورية نافذة للخلاص وإن لم تكن كذلك ففسحة للتنفس والمقايضة بها في ملف الحرب في أوكرانيا، أو على الأقل تسجيل نقاط على خصومه الغربيين في سورية طالما أنّه يخسر في أوكرانيا وتصدير ذلك داخلياً وخارجياً بأنّه مازال قُوّة عُظمى لها شأنها.
ويرغب الرئيس الروسي بالطبع في فتح جبهة أخرى خارج أوكرانيا بحركة هروب للأمام تُضعف التركيز الغربي في التصدي له بجبهة واحدة، وبالطبع إشعال الجبهة السورية إن أعقبه مضايقة أو خروج للقوات الأمريكية من سورية سيكون حَقّق له ما يصبو إليه، ولكن لا أظنّه واقعياً يترجّى أكثر من الحفاظ على مكاسبه بالاعتراف بكل الاتفاقيات التي أبرمها مع نظام الأسد وأهمّها الحفاظ على قاعدتي طرطوس وحميميم.
2- أما عن الموقف الإيراني، فمن المُرجّح أنّ ضغطاً إيرانياً مُورس على الأسد أثناء زيارته الأخيرة لموسكو أدّت به لإطلاق تلك التصريحات وهي رسالة إيرانية للروس والأتراك بأن لامجال أبداً من تَهميش الدور الإيراني بالملفّ السوري عبر رعاية روسية رئيسية لِملفّ التقارب التركي مع الأسد وأنّها قادرة على إفشال أيّ مَسعى من هذا القبيل.
وتُدرك طهران أنّ محاولات روسيةَ تركيةَ سابقة بإبعاد طهران عن ملف المصالحة بين أنقرة ودمشق كانت رغبة مشتركة ببن انقرة وموسكو وقد باءت جميعها بالفشل.
ولا شَكّ أنّ إيران مُرتاحة الآن إقليمياً بعد اختراقها للجدار السعودي في بكين، لذلك قد لا تكون متحمسة كثيراً لأي اختراق في مسار المصالحة التركية مع الأسد.
وتخشى طهران من القوّة الناعمة التركية والتي تملك باعاً طويلاً بالاقتصاد وإعادة الإعمار…وإنّ أي اقتحام تركي للملف السوري بتلك القوة الاقتصادية (السنيّة) سيكون مرحباً به شعبياً وعربياً وربما دولياً، حيث لامجال للمقارنة بين قدرات تركية وإيران في هذا المجال، وقد بذلت إيران طوال العقود الأربعة المنصرمة جهوداً لجعل الخطوط الأفقية من طهران إلى دمشق مروراً ببغداد وحتى بيروت عنواناً للمنطقة، وتخشى الآن من خطوط تركية (سنية) عمودية باتجاه الخليج وتَعبر سورية والعراق تقطع خطوطها الأفقية، ويبدو أنّ الإيراني يدرك نجاحه المؤقت بحروب المخدرات والميليشيات والمسيرات وتدمير الدول وإخفاقها المعتاد ببناء أي نموذج اقتصادي ناجح يضمن ديمومة لتلك النجاحات المؤقتة.
وقد تكون المملكة العربية السعودية وبعض دول الخليج تَستعدّ لمنازلة إيران في مناطق نفوذها بالقوة الناعمة، التي ستؤدي بعد فترة لتقليص أو طرد النفوذ الايراني الذي لم يَجرّ على شعوب المنطقة إلّا الخراب والدمار.
3- أما عن الموقف التركي من هذا المسار الجديد، فبالتأكيد أنّ الدواعي الانتخابية لعبت دوراً رئيسياً بموافقة أنقرة على الفكرة ذاتها، وهي التي كانت ترفض طوال أكثر من عقد من الزمن لتلك الفكرة مع كُلّ الضغوط الروسية القوية وقتها، حيث كان مرفوضاً تركياً أي انفتاح مهما صَغُر شأنه على نظام تَنعته أنقرة بأشنع الأوصاف.
وتراجعت بالتأكيد أهمية الملف السوري في السباق الانتخابي التركي إلى مرتبة أدنى بسبب تَصدّر قضايا أكثر أهمية للناخب التركي كمعالجة آثار الزلزال، كما أنّ التمنّع الممزوج بالرفض من جانب النظام لهذا المسار يُخلي مسؤولية الحزب الحاكم والرئيس عن أي تقصير من قبلهما تجاه ذلك الملف، خاصةً أنّ نظرية (صفر مشاكل) وصلت للعلاقات مع مصر باختراق سريع بعد تَعثّرها لأكثر من عامين، مع عدم ثقة القادة الأتراك بتنفيذ أي تعهد أو وعد يقدمه النظام لحلحلة مشكلة اللجوء السوري في تركيا، وعدم قُدرته على تنفيذ أي مطلب تركي بخصوص التضييق على قسد، لذلك أظن أنّ جزءاً كبيراً من الرغبة التركية بالمضي قُدماً في هذا المسار يَهدف إلى إرضاء موسكو وإغضاب واشنطن.
4- أما عن موقف نظام الأسد الكبتاغوني، الذي تناول جُرعة مما يصنعه فبدا منتشياً ومزهواً بعد كارثة الزلزال الأخير بانفتاح عربي عليه، فإنّه ليس مُتحمساً للمسار الجديد ويُفضّل عليه تطبيعاً مع العرب خاصةً أنّه يُمني النفس بإصلاح ذات البين مع المملكة العربية السعودية.
وبالتأكيد لا يُحبّذ نظام الأسد فوز الحزب الحاكم والرئيس الحالي بالانتخابات القادمة لِسجلّ عداء عُمرهُ أكثر من عقد، ويُدرك أن الحماس التركي بعد الانتخابات سَيفتر تجاهه إن لم يتلاشى إذا ما حَقّق الحزب والرئيس فوزاً متوقعاً، وللأسد أصدقاء كُثر في المعارضة التركية أهمهم على الإطلاق أكبر أحزاب المعارضة والمرشح الرئاسي كمال كلجدار أوغلو، حيث سَيُحقّق صفقة أكثر نجاحاً فيما لو وصل كلجدار أوغلو للرئاسة، ولذلك حرصاً على تقوية حظوظ صديقه لن يعطي تلك الورقة لخصمه الرئيس أردوغان.
واعتاد الأسد على اللعب على هوامش التناقضات التركية – الإيرانية – الروسية في الملف السوري، لذلك مِنَ المُتوقع أن يسير مرغماً في هذا المسار دون إحداث أي اختراق بانتظار نتائج الانتخابات، وعدم إغضاب الرئيس الروسي الذي يفضل نجاح الرئيس التركي الحالي، مع عدم إغضاب الجانب الإيراني حيث سَيُفرغ (أي تقدم حقيقي قد يحصل من ذلك المسار) من محتواه الحقيقي لبقاء إيران قُوة رئيسية مُهمّة بعد تَقلّص الدور الروسي وخوفاً من دور تركي يحلّ محلّه بأن يملأ الفراغ الناجم عن تراجع أو انكفاء الروس مستقبلاً.
5- الموقف الغائب الحاضر هو الموقف الامريكي بالتأكيد، إذ يعلم الأمريكان جيداً أنّ كُلّ ذلك المسار الرباعي هو وليد قمة أستانة في طهران الصيف الماضي، الذي أعلن فيه الرؤساء الثلاثة ببيان رسمي أنّ القوات الأمريكية في سورية قوات احتلال وهي السبب الرئيسي باستمرار المأساة السورية وعدم التوصل لتسوية سياسية وما عليها إلا الرحيل.
تَخشى الولايات المتحدة من تَحوّل الاقوال إلى أفعال ومواجهتها للدول الأربع الراغبة بإخراجها من شرق الفرات ولكل طرف أسبابه ومصالحه، ولاشك أن تنسيق الجهود بين تركيا ونظام الأسد بِدعم ورعاية روسية – إيرانية سَيُضيّق الخناق على قوات قسد إن لم يكن أكثر، لذلك أرى أنّ الولايات المتحدة تعارض بشكل أكبر انفتاحاً تركياً على النظام أكثر من انفتاح عربي عليه.
وبسبب كل تلك المواقف والمصالح فإنه ليس متوقعاً أن يُثمر اجتماع نواب وزراء الخارجية الأربع عن أكثر من تحديد موعد قريب لاجتماع وزراء الخارجية أنفسهم، وسوف يَتمّ تأجيل أي شيء آخر لما بعد الانتخابات التركية، وسيكون الانتظار أيضاً على وقع الحرب الروسية على أوكرانيا وتطورات الملف الايراني إن كان بالشأن النووي أو جدية انفتاحه التكتيكي على السعودية والخليج وعدم عودة حليمة لعادتها القديمة.