من ملامح دولة الثورة
من أهمّ التحديات التي تواجهها سوريا المستقبل هي بناء مؤسسات الدولة الجديدة، فبعد ستين عاماً من الحكم الشمولي العائلي، لم يتمّ بناء أيّ مؤسسة حقيقية، وتم اختزال كل ذلك بمؤسسات السلطة أو الطغمة الحاكمة والتي تَحوّلت لاحقاً إلى حكم الأسرة وتم اختزالها برئيس تلك الأسرة، وكان كل ما هو موجود من مؤسسات هو صوري ويتم تعيين الموظفين بحساب الولاء للسلطة وليس الكفاءة والوطنية.
إذا تمّ بناء مؤسسات حقيقية فهذا ضمان لاستقرار مجتمعي وسياسي، وخاصةً أنّ الغاية من الثورة على نظام الأسد هو بناء نموذج لتحوّل ديمقراطي ولن يتم ذلك إلا عبر تمكين المؤسسات وفصل السلطات والتوافق على عقد اجتماعي جديد وإقرار دستور يتوافق عليه معظم السوريين.
وتعتبر المرحلة الانتقالية بعد إسقاط الأسد هامة جداً بل الأهمّ والذي سيؤسّس للمستقبل.
هذه المرحلة هي أصعب من مرحلة إسقاط الأسد لأنها الاختبار الحقيقي للبناء وليس الهدم، فالأول هو الأصعب، ولاشكّ أنّ الخيار العسكري هو الذي نجح في سوريا بهزيمة النظام نتيجة انسداد أيّ أفق سياسي بوجوده فهو رفض كل عروض التفاوض أو الضغوط التي مورِست عليه، وسقط نظام الأسد وهو يعتبر أنّ معارضيه هم من الإرهابيين التكفيريين وفي أحسن التوصيفات عملاء لدول خارجية.
لذلك عملية التغيير في سوريا الجديدة ستكون شاملة ووفق رؤية الثورة السورية.
لم تتوفر لدى الأسد وطغمته إرادة التغيير ولم يمتلكوا إرادة الحرب، لذلك كان السقوط مريعاً وكان مفاجئاً في سرعته وليس في حتميته.
بغياب لاعبين دوليين وإقليميين عن مستقبل المشهد السوري وأهمهما روسيا وإيران واندحار النظام وعدم امتلاكه لأيّ بنية عسكرية أو سياسية حيث لم يعد شريكاً عملياً على الأرض، وبذلك يمكن اعتبار أنّ القرار الدولي 2254 فقد الكثير من مضامينه وباتت عملية الانتقال السياسي محكومة برعاية أممية بما يتماشى مع روح القرارات الدولية ذات الصلة بالشأن السوري، والأهم من كل ذلك قيادة السوريين لهذه المرحلة، وقد كانت المؤشرات الأولى تنمّ عن نضج ووعي ومسؤولية فاقت كل التوقعات.
لا توجد أيّ مخاطر على وحدة سوريا، فقد كانت بروباغاندا نظام الأسد والمحور الداعم له تروج لتلك المخاطر ويقع في حبائلها عن حُسن نيّة أو عدم دراية بعض المعارضين، وغاية دعاية نظام الأسد من ذلك تقديم نظامه وشخصه كمركز شرعي ضامن لعدم انفصال الأطراف..
سوريا وحدة جغرافية اقتصادية واحدة لا تقبل القسمة لأنّ أيّ جزء منها لا يستطيع العيش بدون الآخر لارتباط المصالح الاقتصادية والوشائج المجتمعية.
كما أنّ لا مصلحة إقليمية أو دولية بتقسيم سوريا لأنّ خطر الفوضى والميليشيات واللاجئين والمخدرات والإرهاب سيتطاير إلى الجوار ومنه بالطبع الجوار الأوربي وإسرائيل.
سعى حزب الـ PKK السوري لطرح الفيدرالية وأصدر عقداً اجتماعياً لمنطقة شرق الفرات والتي تُمهّد للانفصال لكنها لاقت رفضاً صارماً من كل مكونات الشعب السوري، وموازين القوى على الأرض لم تعد تسمح للحزب الانفصالي بذلك.
وتحوي سوريا موزاييك عرقي وديني وطائفي متعدد، وأظنّ أنّ إجماعاً وطنياً على اعتباره أحد مكونات القوة وليس الضعف هو ما يتمّ السعي للوصول اليه.
فبعد ستين عاماً من حكم عائلة الأسد لسوريا وتمزيق نسيجها الاجتماعي والحكم بمضمون طائفي وشعارات قومية ومنهج صوري علماني..
يبدو أنّ السوريين كانوا أقوى منه فكان خطاب المعارضة المسلحة الزاحفة إلى العاصمة تصالحياً وليس انتقامياً وتم ترجمة الخطاب على الأرض عملياً فلم تحدث أيّ هفوة تَدُلّ على حقد على حاضنة النظام أو أيّ مكون آخر كان موالياً له، حتى انضمام ثورة السويداء السلمية للثورة السورية أعطاها بُعداً وطنياً يقصم ظهر سردية النظام بأنه حامي للأقليات وخصومه من لون طائفي واحد، مع أنّ خطاب الثورة والقوى الممثلة لها لم يكن أبداً طائفياً منذ اليوم الأول لانطلاقتها ولغاية إسقاط الأسد.
لم تُحارِب حاضنة النظام العلوية معه وامتنعوا عن القتال (وهذا أحد أسباب الانتصار السريع) وهو مُؤشّر جيد للمستقبل.
بالتأكيد سيتمّ السعي من خلال مرحلة انتقالية لبناء دولة مدنية ديمقراطية، دولة مواطنة يتساوى فيها الجميع في الحقوق والواجبات وتكون الأحزاب الجديدة أحزاب برامجية وليست أيدولوجية، تؤمِن بالتداول السلمي للسلطة وتكون الأغلبية سياسية وليست دينية أو إثنية أو طائفية، ويكون الصراع السياسي تحت سقف المؤسسات والنظام السياسي الديمقراطي المنبثق عنها وليس على المؤسسات وطبيعة نظام الحكم.
مع التأكيد على أن تكون هوية الدولة تُناسب الأغلبية الساحقة للسوريين وهي هوية عربية وإسلامية ببعدها الحضاري والتاريخي.