مهداة إلى ماجد صبري الحميدان
سلفتني نجوى قلماً فكانت هذه الحكاية
في سجن امتلأ بالصمت والعتمة والبشر، حدث هذا عندما كنت أعيش أيام الفراعنة، ونزيل في إحدى زنزاناتها، وأنا العاني المعاني، ذو الأنف المعقوف، كبير المعتمرين، شيخ المأسورين، ولدت قبل أن تعرف البشرية العد.
لست خالداً بل طويل عمر تنقّلت من سجن إلى سجن ومن سخرة إلى سخرة حاملاً فكرة الحرية للإنسان.
لا أنتظر أحداً، ولا أحد ينتظرني، ذاكرتي حكايا مرسومة ومنقوشة على الصخور والجدران وأوراق البردي وجلود الحيوانات والقرطاس، وحتى ما نحن عليه مملوءاً ألماً… حزناً.. دموعاً سرية.. وحيزاً صغيراً من الفرح والغناء الحزين.
كنا عبدة (إيزيس) إلهة الحب والجمال، نؤمن أنها ربتنا الكبرى وكبيرة الآلهة، مما أغضب عبدة (رع) إلهة الشمس، والذين كانت بيدهم مقاليد الحكم والمعابد. ومن يؤمن بغير رع إما معدوماً أو مأسوراً أو منفياً، وأكثر العقوبات ظلماً كانت ممن يقول غير ذلك، يحرم من نور رع (ومن يعتقد أن ربط العيون حتى لا يعرف المعتقل إلى أين ذاهباً، أو أن يتعرف على معتقلين فهو مخطئ، الحقيقة ومنذ تلك الأيام هي ألا يستفيد من نعمة رع).
وقبل أن يتم نقلي إلى السجن الجماعي كنت مأسوراً بسجن انفرادي العتمة، يحتل المكان الصمت، يعبث بالعقول، اجترُ الذكريات، استدعي الذين أعرفهم، أتحدث معهم أختلق حكايا وحوارات وبطولات لا أحد يقدر عليها إلا الحالمين أمثالي.
في أوقات الفراغ الممل اكتشف جغرافية (المترين بمتر) لمساً، عرفتُ تفاصيل الزنزانة رملةً رملة. أتعب من الذكريات والحوارات ورفع رايات الانتصارات والاطمئنان على جغرافيا المكان أقع جالساً، أزحف للخلف حتى الوصول إلى الجدار متكئاً عليه، ماداً ساقي، منهياً أعمالي اليومية، منتظراً يوماً جديداً أنا أحدد ساعة بدئه، أتجول مستكشفاً داخل (المترين بمتر) أتحسس الأرض والجدران وأحياناً السقف.
وباقترابي من الجدار اليميني سمعت صوتاً صادراً من خلف الجدار، أنصتّ جيداً، حبست أنفاسي، يعود الصوت مرة أخرى أصرخ صمتاً، لدي رفقة وبدون تفكير، وبفعل لا إرادي أطرق الجدار بكامل كفي، أنتظر الردود أصبحت الثواني ساعات وما من مجيب.
أعدت الكرّة ثانية، ثالثة، مسقطاً خوفي من الصمت، أنتظر وأنتظر ثوانٍ، دقائق، ساعاتٍ، الجدار يلبى الإشارة، أقطع الحركة، أحبس الأنفاس، تُصرّ الإجابة على التسلل عبر الجدار منتظرةً ردي، هذه المرة مسموعة واضحة لا مجال للشكّ.
هناك من يقبع خلف الجدران، تقفز الأسئلة من رأسي متجولة في المكان من يكون؟ ما سبب اعتقاله؟ منذ كم من الوقت هو بجواري ولا أعرف؟.
جمعت كفي اليمنى لتبدو السبابة بشكل زاوية نافرة، وبدأت بالعزف على الجدار ألحن ما أريد قوله:
– مرحباً
– أهلاً
ما بين ذهولي وفرحتي أعجز عن المتابعة بالسؤال، أعود متكئاً على الجدار، ماداً ساقي، مفكراً بالخطوة القادمة، أتكلم طرقاً.
– ماهي تهمتك
– رفضت أن أكون خادماً في معبد رع، هل أنتِ فتاة
– نعم
– هل أنت إيزيسية؟
– لا، ولكني أعشق حريتي وأكره العبودية
– ما اسمك؟
– نجوى
بدون طرق أردد آه آه يا نجوتي ونجواي
– ما ملامحك؟
– طويلة سمراء بعيون عسلية تميل للاخضرار وشعر طويل أسود فاحم أجعد.
أصبحنا نعزف طرقاً بالساعات..
حدثتها عني وعن حياتي الطويلة، وتنقلي مجبراً من جغرافيا إلى جغرافيا ومن دولة إلى دولة، وعن أحلامي، رغباتي، طموحاتي.
حدثتني عن طفولتها، ألعابها عن جريها في المساحات الخضراء.
عن السباحة في النيل، ساعات وساعات، نعزف بلا ملل أو كلل وفي ساعة صفا همست نغماً بأني أحبها حباً كبيراً، ولا حياة لي بدون سماع عزفها، هي ردت عزفاً أنها تحبني، أتحسس الجدار، أين يا ترى تضع يدها رأسها أحس بدفئه.
ساعات أحدثها عن حبي، وتحدثني عن حبها، يسقط السجن، تسقط الوحدة، الغربة، هي عالمي، حياتي، لم أعد أعرف الأيام أو الشهور ونحن نعيش متحدين.
سبحنا في النيل، ركضنا في السهول، تعانقنا، تخاصمنا، تصالحنا، كان السجن قيداً تحطم على صخرة الحب، ليصبح وهماً وشمساً.
أسمع حركة السجانين، وشعلة النار تضيء العتمة عادةً عند إحضار الطعام.
لا يتكلمون، ولكن هذه المرة لم يحضر الطعام.
خاطبوني: قم سيتمّ نقلك إلى السجن الكبير الجماعي، هكذا صرخ بي أحد السجانين.
في العادة أيضا” يفرح السجين عندما يتم نقله من الانفرادي إلى الجماعي، أتثاقل بالقيام، دقات قلبي تزداد خفقاً.
عند باب الزنزانة أتلفت باتجاه اليمين لا أجد باباً، أتلفت يساراً لا باب، سألت ألا توجد في هذا الركن زنزانة أخرى يمسكني أحد السجانين من شعري يستعجلني للخروج قائلاً بقرف: هذا المكان لا توجد به إلا زنزانتك أيها الأحمق، لماذا تسأل أصرخ بهم أين نجواي أين نجاتي متأكد انه يوجد زنزانه أخرى بجانبي. كاذبون، ابتسموا فيما بينهم وكأنهم يقولون جُنّ السجين، وما زلت بعد هذا العمر الطويل أبحث عن نجوى.