fbpx

ملامح حَلّ سياسي في سوريا تبدو قريبة

0 2٬462

يُدرك الجميع أنّ الولايات المتحدة هي اللاعب الأول في الملف السوري، ومنذ بداية الثورة السورية كانت مُتدخّلة بصيرورة الأحداث وسيكون لها الدور الأكبر في كتابة ملامح المشهد السوري الأخير.

ولأنّ الولايات المتحدة غالباً ما تدير أي أزمة دولية وفقاً لمصالحها وتستفيد منها ولا ترغب في حلها، فإنها أدارت الحرب السورية كما تريد، ووضعت خطوطاً حمراء على كل الأطراف، لم يستطيع أحد تجاوزها، فمثلاً لم تكن راغبة في أن ترى سوريا دولة مدنية ديمقراطية تكون أنموذجاً في هذا الإقليم الحيوي – الذي يَضمّ إسرائيل، ومنابع الطاقة والطرق الرئيسية لسلاسل التوريد العالمية بين الغرب والشرق، حيث أن الشرق الأوسط منطقة يتلاقى فيها البحر والأرض والجو – كما أنه لا تريد دولة إسلامية على نموذج جمهورية الرئيس محمد مرسي في مصر، ولم تسمح لأي طرف فيها أن يحسم الصراع عسكرياً.

وكانت الأطراف جميعها تؤدي أدوارها (مع هامش مناورة محدود للخروج على الخط الأمريكي المرسوم للصراع)، حتى روسيا نفسها عندما حاولت تحدي الإرادة الأمريكية، فشلت في إنجاز سلام روسي في سوريا بعد السماح لها بتعديل موازين القوى العسكرية على الأرض، وبعد إعطاء الفرصة الأخيرة للروس في الجنوب السوري وفشلهم بإنجاز سلام واستقرار مستدام (نسبياً) وإبعاد إيران عن الجنوب السوري.

عندما تبين للأمريكان أنّ الروس يريدون أخذ حصة أكبر وفرض أمر واقع عسكري على الأرض والبناء عليه سياسياً، تموضعوا عسكرياً في شرق الفرات واستمر تواجدهم (وسيستمر لسنوات) بحجة محاربة الإرهاب الذي أعلنوا الانتصار عليه سابقاً.

الوجود العسكري الأمريكي حرم الروس والإيرانيين من حسم الصراع عسكرياً، والقوانين التي صدرت من الدولة الأمريكية بما يَخصّ الملف السوري، تُضيّق على أي إدارة أمريكية قادمة الخروج عن روح تلك القوانين، مع السماح لها بمناورات سياسية تُقدّرها تلك الإدارة وترى أنها ضرورية.

مع انتهاء ربيع 2020 توقفت المعارك الكبرى وتجمّدت خطوط القتال وانتهى الحال بتكريس ثلاث مناطق على الأرض أسفر عنها صراع العقد الماضي.

منطقة سورية بنفوذ تركي، وأخرى بنفوذ أمريكي وثالثة تحتلها روسيا وإيران يحكمها نظرياً بشار الأسد.

استمرت هذه الحال لسنتين كاملتين حتى 24 شباط 2022 تاريخ الغزو الروسي لأوكرانيا،  كانت تلك الفترة توحي أنّ الجميع لم ينتصر ولكنه بنفس الوقت لم يُهزم، وكانت حرب باردة تدور بين الأطراف كلها، ويدرك الجميع أن كل طرف لم يكن راضياً بحصته ولكنه مُتمسّك بها على أنها أقصى ما أمكن تحقيقه، والجميع يترقب حدثاً جللاً غير متوقع يقلب كل المعطيات ويلي بظلاله على الأرض، كما أنّ ذلك الاحتلال أو التواجد على الأرض السورية كان غير مُكلف لتلك الدول (بشرياً ومادياً) حيث لم تقم تلك الدول بمهام وواجبات الدول المحتلة أو المنتدبة أو الراعية… إلخ، لتلك المناطق ولم تُكلّف نفسها عناء تلبية مطالب واحتياجات السكان في مناطق النفوذ تلك.

كانت مناطق الأمر الواقع الثلاث تتجذّر على الأرض، فالحرب على أشدّها بين الحواضن المجتمعية على وسائل التواصل الاجتماعي واتهامات التخوين أو الإرهاب أو العمالة للاحتلال أو السعي للانفصال (أو كل هذه التهم مجتمعة) والتطلع للتقسيم وغيرها تدور رحاها وبألفاظ نابية وأشكال مُخيفة.

فيما كانت كل منطقة تُدير اقتصادها وسوقها الجغرافي/الاقتصادي بمعزل عن المناطق الأخرى (إلاّ ما يأتي تهريباً بحكم تبادل المنافع) وكان لكل منطقة فضاؤها الحيوي الذي ترتكز عليه وغالباً يكون ما تسمح به القوة المهيمنة.

وفي ظِلّ يأس السوريين وغياب أي فرص حقيقية لحل سياسي شامل تدور سلسلة من التوقعات والسيناريوهات المفترضة للمستقبل، ومع غياب أي دور حقيقي للسوريين في رسم النهاية والاستسلام لفكرة أو مقولة أنّ الصراع السوري صراع دولي وتوجد جيوش أجنبية على الأرض وقرارات دولية ناظمة للحل (ولو نظرياً) ولحظة التقاء مصالح الدول الفاعلة لم تأتِ بعد (وممكن ألا تأتي قريباً)، وبسبب الخوف من تَطوّر حالة عدم الاشتباك واحترام مناطق النفوذ بين الدول، يمكن أن يتطور هذا الواقع من كونه مؤقتاً إلى شبه دائم نظرياً وإلى دائم عملياً.

كانت السيناريوهات المتوقعة، أن تستمر حالة التشظي الجغرافي والمجتمعي إلى فترة غير محدودة ويُصبح التقسيم أمراً واقعاً دون الإعلان عنه بسقوط نظرية المركز والأطراف، حيث أن كل منطقة بحد ذاتها تعتبر مركزاً ودمشق ومن يحكمها أحد تلك الأطراف وليست مركزاً.

وبالتالي تتم خياطة الجرح دون تنظيفه من القيح ويبقى الجسد السوري عليلاً غير قابل للشفاء، وفي الوقت نفسه تحقق مصالح الجراحين الذين قرروا خياطته، إلى أن تأتي ظروف مختلفة.

ولأنّ الفاعل الرئيسي في العالم (الولايات المتحدة) كما اتفقنا في البداية يدير تلك الأزمات فهو يُبرّدها أو يُسخّنها أو يَحلّها عندما يتوافق ذلك مع مصالحه.

وحيث أن إيقاع الهزيمة المطلقة في العدو الروسي هي ديدنه الأول، وبسبب تواجد الروس في سوريا فإن إخراجهم من سوريا هو هدف استراتيجي أمريكي بدأ العمل به، وإخراج الروس من سوريا لا يعني بالضرورة خروجاً مادياً على شكل انسحاب عسكري، بل يمكن أن يتحول إلى وجود دون أهداف استراتيجية أو وظائف هامة له، بمعنى كما بقيت أشلاء للتواجد السوفييتي بعد تفككه وورثته روسيا، ممكن أن يَغضّ الأمريكان الطرف عن ذلك.

كل المعادلات السياسية والعسكرية التي نشأت في ظِلّ التواجد الروسي السياسي في الملف السوري وما أفرزه الاحتلال العسكري الروسي من توازن قوى على الأرض مُعرّض (أو سيتعرض قريباً جداً) للانهيار التدريجي وقد لمسنا أثر الضعف الروسي في سوريا كثيراً (وبالطبع لن يكون آخرها تجاهل الأمم المتحدة للفيتو الروسي في مجلس الأمن على دخول المساعدات الأممية عبر معبر باب الهوى، حيث أدخلت الأمم المتحدة قافلة مساعدات مُؤخراً ضاربة عرض الحائط بذلك الفيتو وبقيت موسكو متفرجة على المشهد) وصولاً للاضمحلال، وبالتالي ستتغير موازين القوى على الأرض، وسينشأ فراغ يؤدي إلى اختلال توازن القوى بين المعارضة والنظام لمصلحة الأولى بسبب انهيار أهمّ حلفاء النظام.

وبما أنّ استراتيجية الولايات المتحدة قد تبلورت في العالم وسوريا جزء محوري منها، فلن يُسمح للميليشيات الإيرانية بالحصول على موطئ قدم على الضفة الشرقية للمتوسط نظراً للأهمية الكبرى التي تتمتع بها من كونها أحد أهم مصادر الغاز التي يُمكن بها للقارة الأوروبية فك الارتباط مع الغاز الروسي، وعدم الاعتماد عليه مُستقبلاً وتأمين مصادر بديله ومستدامة له، هذا بالإضافة إلى عدم تهديد تلك الميليشيات المرتبطة بالحرس الثوري لخطوط نقل الطاقة من الخليج العربي وآسيا الوسطى إلى شواطئ المتوسط.

وبرز مُؤخراً مشروع أميركي – أوربي – عربي – هندي عملاق، هو طريق البهارات الذي يربط الهند بأوروبا عبر مروره بدول عربية مستقرة ليست بعيدة عن محور الهلال الشيعي وهو مشروع منافس لطريق الحرير الصيني وتوجد إرادة من النظام الدولي الذي تقوده أمريكا على انجاحه لإفشال الطريق الصيني.

ولتأمين هذا الطريق الذي يَمرّ من المملكة الأردنية الهاشمية وقبلها من دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية لينتهي في ميناء حيفا ينبغي لإتمام ذلك عدم تركه تحت خطر ميليشيات فوضوية غير منضبطة تتبع لولاية الفقيه وستكون محرومة من أي عوائد اقتصادية منه، فإنه ينبغي إغلاق الممر البري في البو كمال الذي يربط تلك الميليشيات في الدول الأربعة (لبنان – سوريا – العراق – إيران) وتجريد حزب الله من سلاحه وتحويله إلى حزب سياسي لبناني وإجهاض أي حلم إيراني بِمدّ أنبوب غاز إلى المتوسط، وإجراء تغيير سياسي في سوريا والتخلص من نظام الأسد والدخول بعملية سياسية تستند للقرار 2254 ومعطيات الأرض، بمعنى تحويل الملف السوري إلى ملف داخلي بعد نزع العوامل الإقليمية والدولية منه التي تدعم الأسد وتحول دون حل أو حلحلة الملف السوري.

إنّ انضمام السويداء للثورة وتكذيب ادعاءات النظام بالسيطرة عليها، أدى تآكل المزيد من بقايا شرعية كان يدعيها الأسد، والقطيعة العربية معه بعد تجربة المُجرّب وظهور تصريحات من الملك الأردني في نيويورك بأنّ الأسد لا يمكن أن يكون شريكاً في حَلّ أي قضية لأنه لا يسيطر على الأرض والقرار السياسي، فان احتمالات الحل السياسي تزداد فرصها بعد خنق الأسد وقبوله بما كان يرفضه سابقاً هو ما يُمكننا توقعه بالأشهر القليلة القادمة.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني