fbpx

قراءة في رواية “مصائر” (كونشرتو الهولوكوست والنكبة)

0 297
  • الكاتب: ربعي المدهون.
  • الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
  • ط2، ورقية، 2015.

مصائر رواية ربعي المدهون، فازت بالمرتبة الأولى للرواية العربية، البوكر عن عام 2016، وهي تستحق.

الرواية تتحدث عن شبكة من الشخصيات والعلاقات، تجمعهم فلسطين المكان، وفلسطين الحياة المشتركة عبر عشرات السنين، منذ ما قبل نكبة احتلال فلسطين 1948، وإنشاء الكيان الصهيوني (إسرائيل) فيها.
تبدأ الرواية من عودة وليد دهمان وزوجته جولي من بريطانيا إلى فلسطين (دولة إسرائيل)، من أجل تنفيذ وصية إيفانا أم جولي بوضع جزء من رماد جسدها المحروق، في بيت أهلها في عكا الذين هربوا وتركوه في عام 1948، عام النكبة، أو في القدس.

فإيفانا الفلسطينية الأرمنية، التي أحبت ضابطاً إنجليزياً أيام احتلالهم لفلسطين، وتزوجت منه دون موافقة الأهل، ورفض جماعي من بيئتها الاجتماعية، وغادرت معه إلى معسكر الإنكليز، ثم غادرت فلسطين لبريطانيا، بعد خروج المحتل منها، أما والديها فقد هربا إلى لبنان واستقرا فيها، وأصرا على قطيعتهم مع ابنتهم الوحيدة حتى مماتهم.

إيفانا جمعت ابنتها وزوجها وليد الفلسطيني اللاجئ إلى غزة التي تقاذفته ظروف الحياة ليصل إلى بريطانيا، ويتعرف على جولي ابنة إيفانا، يتحابا ويتزوجا، تجمعهم وتوصيهم بأن تحرق بعد موتها وينثر جزء من رماد جسدها في مدينتها لندن، والجزء الآخر يعودوا به لفلسطين لبيتهم في عكا إن أمكن، فهي وبعد ستة عقود مازالت تحن لفلسطين، لمدينتها، لبيتها، لأهلها، لطفولتها، لكل شيء، وتريد أن تعيد بعض هذا الجسد ولو كان رماداً، ليسكن وطناً ضاع منها إلى غير رجعة.

وليد دهمان من بلدة المجدل عسقلان في فلسطين 1948، البلدة التي هرب منها أهلها بعد أن صاروا ضحايا الخوف من مجازر الصهاينة، وكانت مجزرة دير ياسين نموذجها.

هم هربوا إلى غزة، والآخرين توزعوا في كل بلاد العرب المجاورة، وليد وجولي سيلتقيان بأصدقائهم من الفلسطينيين الذين لم يخرجوا وقتها واستمروا مواطنين (إسرائيليين) في وطنهم الذي صار دولة اليهود، سيلتقي بجنين دهمان التي تكتب رواية تحكي بها عن والدها محمود الملقب (باقي هناك)، الذي خرج مع أهله من بلده وتزوج بقريبته في غزة، لكنه لم يحتمل وعاد إلى بلده عكا، وترك زوجته وابنته هناك. وتزوج مجدداً وأنجب ابنه فلسطين وابنته جنين، واستمر يناضل كفلسطيني (إسرائيلي)، محاولاً أن يسترد بعض الحقوق بكونه صاحب الأرض الأصلي، كعربي يعامل كمواطن درجة ثانية؛ في دولة اليهود العنصرية.

سيشكل مع نخبة من الفلسطينيين امتداداً قسرياً للوجود العربي في قلب الكيان الصهيوني، كإميل حبيبي وسميح القاسم ومحمود درويش – قبل أن يغادر – وغيرهم كثير.

سنتابع حياة العرب المتبقين والعنصرية المفروضة عليهم، والصعوبات والعقبات التي توضع أمامهم، وستروي حياة اليهود المجمعين من بلاد الدنيا ليأخذوا فلسطين ويحولوها إلى وطن لهم.

سنتعرف على جارتهم اليهودية الألمانية التي نجت من المحرقة النازية وجاءت لفلسطين تعوض عن اضطهادهم باضطهاد الفلسطينيين وتشريدهم وقتلهم، ستسرد جنين مواظبة والدها على أعمال يرى من خلالها إمكانية استرداد حقوق ذهبت دون رجعة؛ الوطن فلسطين، والدولة، والمواطنة، والحقوق الإنسانية كاملة، المحرومون منها.

جنين تعيش مع زوجها باسم الفلسطيني اللاجئ الذي استقرت حياته في أمريكا، وكيف أحبا بعضهما عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وكيف عاد لفلسطين كمواطن أمريكي وليتزوجا، وليحصل على إقامة بصعوبة، ويحرم من حق العمل، وتتحول حياته شبه جحيم، جنين لا تغادر عكا إلا للقبر، وهو مضطر للعمل، واليهود لا يعطونه إذن العمل في (إسرائيل)، لذلك يغادر للقدس للعمل، لكونها أرض قد تكون من دولة فلسطين مستقبلاً، ويلتقيا كعاشقين وليس كزوجين بالتناوب تارة في القدس وأخرى في عكا.

وفي روايتها التي تكتبها، يعود باسم إلى أمريكا بعد أن يئس من إمكانية العمل والعيش، حيث دولة الصهاينة لا تريد للفلسطيني أن يعود وينغرس في وطنه مجدداً، حتى لو جاء بجنسية أمريكية.

وليد وجولي برفقة أصدقائهم جنين و جميل وسليمان وغيرهم كثر، سيعودون، تحاوروا وجدانياً مع الوطن المفقود، سيذهب وليد وجولي إلى مجدل عسقلان ويرون تحولها إلى أطلال، وسيطرة اليهود عليها، أخذوا الأرض وبعض الذاكرة، وبقيت حرقة الوجدان.

سيذهبون إلى عكا ويافا وغيرهما من مدن فلسطين، سيكتشف أن البعد عن الوطن يحوله لجمرة دائمة الاتقاد في النفس والوجدان، ويخلق الحرقة والحنين الذي يتحول لهاجس يسكننا كما كنا نسكن الوطن.

يزوروا القدس وأسواقها وأسوارها، وقبة الصخرة وبيت لحم وكنيسة القيامة، سيجدون أن التاريخ حاضر وأن مرور عشرات السنين على الاحتلال، وتكاثر المستوطنات، وطمس معالم التاريخ والتهويد؛ لن يستطيع أن يلغي حقيقة الوجود الواقعي: فلسطين، الأرض والشعب والتاريخ، ولا الوجود النفسي للانتماء والحنين للعودة، ولا وجود الفلسطيني نفسه، داخل فلسطين وخارجها.

سيتحدث عن العودة والعمل لذلك، كل بقدر إمكانياته، ستصطدم جولي بمغتصبي بيت أهلها اليهود، ويطردوها بعد أن يرفضوا الاحتفاظ برماد والدتها بالبيت، ويحطموا الإناء الذي يحويه، ناثرين رماد أمها في سماء عكا، وستجد وزوجها بعض أصدقائهما المقدسيين الذين يرحبون برماد الوالدة والتحفة الفنية الموضوعة فيه، ويضعونه في صدر بيتهم، في رسالة رمزية أن الوطن وناسه ما زالوا امتدادنا في البلاد كفلسطينيين، مهما تبعثرنا في العالم ومهما تقادم الزمن.

ستتجول الرواية في الذاكرة الفردية والجماعية لفلسطينيي اللجوء وتشردهم وتبعثرهم في أقطاب الأرض، وتكيفهم وقدرتهم على العيش مجدداً، وتحول أنظارهم إلى فلسطين كقبلة الصلاة، وهاجس العودة كقدر لابد منه.

تنتهي الرواية حيث وليد وجولي يغادران إلى بريطانيا مجدداً، مسكونان بهاجس العودة للسكن في قلب القلب لفلسطين، عكا، يفكرون بذلك يقررون أنهم سيناقشون ذلك ويقررون المناسب.

نهاية مفتوحة بين حنين لوطن، وإمكانية العودة الواقعية له.

الرواية تعيد تخليد القضية الفلسطينية بصفتها أرضاً وشعباً، حقوق يجب أن تستعاد، وبلسان حال كل فلسطيني، وباعتبارها قضيته الشخصية أينما كان، وأن الزمن لا يميت المشاعر والحقوق، بل يحولها قضية وهاجس وهوية أيضاً.

ولابد أن نذكر أن الحكاية الفلسطينية أصبحت نموذجاً لحكاية العربي المشرد واللاجئ، وفي محنة اغتيال الإنسان العربي، مع اغتيال حقه في الحرية والكرامة والعدالة والدولة الديمقراطية في سوريا والعراق وليبيا ومصر واليمن… إلخ.

لقد أصبحنا أمة مشردة، وأصبح الوطن الحر والمواطن الحر حلماً نعيشه، وعملاً ننجزه دوماً، وأن الفلسطيني حاضر في كل عربي كقدر لابد منه.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني