fbpx

قراءة في رواية “خطوط النار”

1 217
  • المؤلف: فواز حداد
  • الناشر: رياض الريس للكتب والنشر
  • ط1، ورقية، 2011م

فواز حداد، روائي سوري متميز، له العديد من الروايات، التي تواكب – زمنياً – الواقع السوري والمحيط العربي لسوريا – العراق في هذه الرواية – على كل المستويات، قرأنا له أغلب إنتاجه.

رواية خطوط النار، تكاد تكون إطلالة على الواقع العراقي في ظل الاحتلال الأمريكي، بعد عام 2003 امتداداً لرواية جنود الله، التي قرأتها وكتبت عنها، تتميز خطوط النار بأنها تتحدث بلسان حال المحتل الأمريكي، حيث التقى الكاتب وأحد الأمريكيين “كيلي” الذي تبين أنه طبيب نفسي كان يخدم مع الجيش الأمريكي في العراق، وانه اتفق مع الكاتب على أن يقصّ عليه تجربته في العراق، على أن يكتبها بلسان حاله هو، وعده الكاتب بالالتزام بذلك قدر الإمكان. المتحدث في الرواية هو الطبيب النفسي كيلي، ومن خلال صوتين متمايزين داخل الرواية، الأول سردي لما يحصل معه، والثاني هو الجانب النفسي، الوجداني، العقلي الحقيقي، الذي يضمره تجاه ما يحصل معه، لنقل إن الصوت الثاني هو حقيقة ما يفكر ويمارس، والصوت الأول هو ظاهر ما يتصرف مع الآخرين، سواء كان الأمريكان رؤساء ومرؤوسين، أو العراقيين ممن تعامل معهم.

كيلي الطبيب النفسي التابع للقوات الأمريكية المحتلة للعراق والمتمركز في منطقتها الأمنية المحصنة والمحمية، المسماة المنطقة الخضراء، بما يعني أن كل العراق خارج هذه المنطقة، منطقة حمراء، ويعني انها منطقة خطر، يستدعى الطبيب من قبل رئيسه الضابط المسؤول عنه، ويسلمه حالتين تحتاجان للمعالجة والمتابعة، الأولى جندي أمريكي اسمه “برينز”، مصاب بمشاكل نفسية مما حصل ويحصل معه كجندي أمريكي، يقاتل، ويقتل، يفكر بالانتحار، مطلوب علاجه. وحالة أخرى لفتاة عراقية اسمها “بثينة”، تريد أن تقوم بعملية انتحارية ضد الأمريكان، مطلوب أن تعالج وتكون نموذج عن النساء اللواتي يجب أن يصبحوا دعاة سلام وتقبل للأمريكان في العراق. المهمة صعبة ومعقدة، والقيادة الأمريكية تعول على نجاح الطبيب في ذلك. وهناك برفقة الفتاة رجل عراقي لقبه “أبو سعيد”، يقوم بدور الترجمة بين الفتاة والطبيب من العربية إلى الإنجليزية وبالعكس. نتابع حياة كل من الفتاة، والجندي الأمريكي، والمترجم، على خلفية واقع الاحتلال الأمريكي للعراق، العراق الذي أصبح ساحة حرب بين الجنود الأمريكيين والقوى المواجهة له على تنوعها، المقاومة العراقية، والقاعدة التي أصبح لعملياتها حضورا قويا، فهي تستهدف بالاستشهاديين، الأمريكان وغيرهم ممن تعتبرهم مخالفين لها، أو يعملون مع الأمريكان. الطبيب ينطلق من خلفية المصالح الأمريكية العليا، مستخدما أدواته العلمية، الوجود الأمريكي وشرعنة هذا الوجود وتبرير سلوكاته، بكونه قضى على الحكم العراقي المستبد، وأتى بالديمقراطية، تقليل أهمية وجود الضحايا، مبررا أنها ضرورات الحرب، تقبل الدور الأمريكي ليس كمصالح بل كرسالة إنسانية، تغطية كل الأخطاء بصفتها فردية أو بسبب الصراع، أو بسبب وجود المقاومين، المتهمين انهم من أنصار الحكم السابق، أو طائفيين، أو مرضى نفسيين يودون الذهاب إلى الجنة عبر قتل الآخرين. كل ذلك لم يستطع أن يغطي حقيقة احتلال العراق وقتل أعداد كبيرة من شعبه، واستغلاله، ونهب ثرواته، وإدارة شؤونه من خلال بعض المستفيدين من الاحتلال والمعتبرين شعبياً خونه، ولا ينكر وجود المقاومة وعملياتها النوعية، التي تواجه الأمريكان، صحيح أن القاعدة المتنامية تخلط بين الأمريكان والمختلفين معها من العراقيين، وتقتل عشوائياً، لكن ذلك لا يلغي سوء الحضور الأمريكي في العراق، بل يؤكد عليه، حيث أن الاحتلال الأمريكي سبب لكل الموبقات الموجودة في العراق، بما فيها القاعدة. القيادة الأمريكية تعمل لتشرعن وجودها، وتحسن صورتها، داخل العراق وفي أمريكا وأمام العالم. ضمن هذه المعادلة يتحرك الطبيب ويعالج الجندي العازم على الانتحار، والفتاة التي تود أن تقوم بعملية استشهادية تقتل من خلالها الأمريكان.

اعتمد الطبيب على جلسات علاج متناوبة مع الفتاة والجندي. بثينة فتاة عراقية من أحد أحياء بغداد، تدرس في الجامعة، عادت في أحد الايام إلى بيتها، لتجد الحي كله محاصراً من قبل القوات الأمريكية، لوجود المقاومين متحصنين في أحد البيوت، منعت من الدخول احتجزتها القوات الأمريكية، لم ينتهي الحصار ولم تستسلم القوة المقاومة، وحصلت مواجهات بين الأمريكان والمقاومين، واستعان الأمريكان بالطيران ودمر البيت المطلوب وجواره بيوت كثيرة، وبعد انتهاء المعارك، كان بيت بثينة قد دمر، وقتل به أبوها وأمها وإخوتها، ولم ينج من الموت سوى أخاها الصغير، والأمريكان لم يتركوها، وسرعان ما نقلها الجنود الذين يحتجزونها إلى بيت شبه حانة مع فتاتين أخريين، وتم التعامل معهم بطريقة لينة بداية، وتمت دعوتهن لممارسة الجنس، ورفضت الفتيات ذلك، عند ذلك اعتمد الجنود معهم العنف والتعذيب وتم اغتصابهن بشكل دوري ودائم لمدة ثلاثة أشهر، ومن ثم أخذهن الجنود إلى إحدى الأماكن في بغداد وتركوهن هناك، وهددوهن إن هن تحدثن عما حصل لهن فسوف يقتلوهن، ومن ثم قبض على الفتاة التي كانت تبحث عن وسيلة لتصل إلى بعقوبة حيث بيت عمها وأخيها الصغير، ولعلها تصل إلى المقاومين أو القاعدة، وتقوم بعملية استشهادية تنتقم من الأمريكان وفعلهم، حيث أصبحت حياتها سيئة بعد الاغتصاب. حاول الطبيب أن يخفف من عمق المشكلة عند الفتاة، تارة بالقول إن الاغتصاب فعل جنسي بالإجبار، خطؤه أنه بالقوة والغصب، ويجب ألا يعطى أكبر من حجمه، ويؤثر على الفتاة، وتفكر بالانتحار، الفتاة ترى أن الاغتصاب امتهان للكرامة وتعد على إنسانيتها، ويؤدي للإحساس بالعار الشخصي والاجتماعي، حيث تفكر الفتاة بالموت، ويفكر أهلها بقتلها غسلاً للعار، والحل الأسلم عملية استشهادية. يبحث الطبيب بأصل المشاعر التي تهيمن على الفتاة، يعود للدين الإسلامي ويرى هيمنته على نفسيتها ونفسية الآخرين ويعتبره ضار يدعو للموت بدل الحياة، بينما يراه الآخرين انتصار لكرامة الإنسان ويدعم التضحية بالنفس للدفاع عن الوجود، الدين كما الروابط الاجتماعية في هذه البلاد، هي الدروع الحامية لكل القيم والوطن والكرامة والحقوق، هناك عقليتين متناقضتين عند الطبيب والفتاة. وزاد من تعقيد المشكلة ان الجندي الأمريكي الخاضع للعلاج تبين أنه واحد من المجموعة التي اختطفت الفتاة واحتجزتها واغتصبتها، والأنكى أنه التقى بها بحضور المترجم العراقي، الذي سهل التواصل بينهم. الجندي يعاني من فعل الأمريكان في العراق، يرى قتلاً غير مبرر، ويرى أن كل ما يفعله الأمريكان على خطأ، وأغلبه يعاد تفسيره ليكون الأمريكان على حق، يعترف أنه ومجموعة من الجنود تحت إمرة ضابط محدد كانوا يختطفون الفتيات ويحتجزونهم في بيوت سرية، ويمارسن معهم الجنس اغتصابا، اعترف أن ذلك حصل دون علم قيادتهم، لكن القيادة حين علمت أعادت سرد الحكاية على أنها أمكنة ترفيه مسموح بها، والعراقي مستباح، المهم ألا ينتحر الجندي فيسيء للوجود الأمريكي في العراق، وألا يفضح ما حصل عندما يعود، غير ذلك كل شيء مباح له، الجندي عانى أنه كان شريكاً بهذه الجرائم كلها، صحيح أنه لم يغتصب لكنه كان شاهداً متفرجاً وعاجزاً عن منع ذلك، كانت معاناته أنه صمت عن خطأ يراه في كل وقت، وأن الحل أن يعاقب نفسه بالموت انتحاراً، حاول مرة ولم يفلح، وعندما تعرفت عليه الفتاة وتعرف عليها، قرر أن يساعدها، سواء بالهروب من اعتقالها، أو وصولها لأخيها، ولو أدى ذلك لموته، وإن قتل فذلك أفضل لعل ضميره يرتاح. الوسيط بينهم المترجم، ذلك العراقي المصنف خائناً لوطنه كونه يعمل مع الأمريكان، هو بالأصل مترجم كان يعمل في الدائرة الحاكمة في العراق قبل الاحتلال، كان له دور في المفاوضات بين الدولة العراقية والدول الأخرى قبل احتلال العراق ومنهم الأمريكان، يعرفه أحد الضباط الأمريكان منذ ذلك الوقت، وعند سقوط النظام العراقي واحتلال العراق، استعاد هذا الضابط ليكون مترجماً لهم موثوقاً به مع العراقيين الذين لا يتقنون الإنجليزية، له أسرة ويخاف على عائلته، يدرك خطورة عمله وكونه يعتبر خائناً، لكنه كان ضحية لقمة العيش، يعمل بالسر، يخرج مختفياً من بيته ومنطقته، ويدخل ويخرج متخفياً من وإلى المنطقة الخضراء حيث الأمريكان وأركان الحكم التابع لهم يتحصنون، يخاف أن يكشف من المقاومين أو القاعدة ليصبح دمه مهدور، كان له دور في تفاهم ما حصل بين الطبيب والجندي والفتاة التي تريد أن تكون استشهادية، يضلل الطبيب ولا يترجم الا بالشكل الذي يحمي به الفتاة، ويستغل معاناة الجندي لعله يقدم للفتاة ما يعوضها عن عذاباتها، أن تصل لأخيها و بيت عمها في بعقوبة. الطبيب يعيش في تخيلاته عن علاج يسير بالاتجاه المطلوب، جندي يقلع عن الانتحار، وفتاة تبعد عن رأسها فكرة الاستشهاد، لكن واقع الحال كان غير ذلك، الجندي يسهل الظروف للفتاة لتصل لأخيها وبيت عمها، وأن تحمي الجندي الذي فكر أهلها بقتله انتقاماً لها، الجندي الذي قام بهذا الدور إرضاء لضميره وتعويضاً عن أخطاء لا تغتفر، والمترجم الذي سهل للفتاة أن تصل لأخيها وأن تعود به لتعيش في بغداد في بيت المترجم مع عائلته، تتخلى عن فكرة العملية الاستشهادية، ترهن نفسها لتربية أخيها ولاحتضان عائلة المترجم، الذي قرر أخيراً أن يستقيل ويتفرع لعائلته، ولكن المقاومة تترصد له وتقتله.

تنتهي الرواية بمقتل المترجم وإغلاق ملفه وملف الفتاة عند الأمريكان، والجندي ما زال ينوس بين أن ينتحر أو لا، ليرتاح ضميره، وغيره كثير انتحر، أو عاد لأمريكا مريضاً نفسياً، والقيادة الأمريكية للقوات تعيد تفسير كل ما حصل لتحسين صورتها، وتبرر موقفها وتستمر خططها داخل العراق المحتل والمستغل من قبلها.

الطبيب يعيد تدوير الزوايا ويبرر كل ما حصل ويحصل، مسكوناً بمصلحة أمريكا وبما يعتقد أنه علم نفس محكوم بإرادة دولة تعتبر نفسها سيدة العالم ومصدر الحق والشرعية فيه إنها أمريكا.

في تحليل الرواية نقول: تنجح الرواية – كما كل روايات فواز حداد – فنياً من خلال التعبير بأعلى درجة من الدقة وتتبع التفاصيل وتعبير الشخصيات عن أدوارها بأعلى درجة من الحرفية، رسالة الرواية تصل ما وراء النص وما بعد إنجازه. كشف لحقيقة الاحتلال الأمريكي للعراق، كشف للبنية النفسية والاجتماعية والدينية في العراق، أولوية القيم بصفتها مرجعية للخير والحقوق والمشروعية، حقيقة الصراع في وجهه السافر بين محتل وشعب ضحية، ارتكاز الناس على إيمانهم وقيمهم ليستمروا متوازنين، ويواجهون المحتل، وإن كان هناك بعض الردود خاطئة، والعمليات الاستشهادية العشوائية، وان كان بعض الأطراف قد أضاعوا طريقهم وضل وعيهم، والقاعدة التي أضاعت طريقها واعتمدت القتل لناسها، لكن هذا من تبعيات الظلم والتخلف الذهني والتعامل مع الدين بطريقة خاطئة، لكن كل ذلك نتاج الفعل الظالم أصلاً، للحكم الاستبدادي العراقي قبل الاحتلال، ومن بعده للظلم والقتل والاستغلالية للشعب والبلاد، والحرمان الذي مارسه المحتلين الأمريكان.

ليست الأخطاء المدروسة والمقصودة التي تقوم بها أقوى دول الأرض أمريكا، والتي تستغل وتستعبد شعباً وبلاداً، مثل أخطاء في ردود فعل الشعب العراقي على الظلم والاحتلال.

1 تعليق
  1. ماجد مرشد says

    أجدت التوصيف والنقد الهادف والبناء.. كذلك أنرت العمل من مختلف الجوانب…. عافاك الله ووفقك صديقي الجميل

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني