في ظلال مكة.. عن لافتة: ممنوع دخول غير المسلمين
قد يكون غريباً أن نكتب في شعائر تعبدية على صحيفة سياسية، ولكن الروح الغامرة للحج الأعظم تفرض علينا التأمل طويلاً في واحدة من اهم شعائر الإسلام وفي أثرها الباقي في العالم، والذي بات أكبر تجمع بشري يقوم لأغراض روحية وإيمانية، وبات دليلا واضحاً على أن الإسلام رسالة تملك التأثير والتوجيه في العالم، وتقدم دليلاً لا لبس فيه ان الأديان لا زالت أقوى غرائز المجتمع، وهذا هو الواقع الذي تقدمه معطم مراكز الأبحاث المتخصصة المعنية بتصنيف الأديان، حيث يتأكد أن 83% من سكان الكوكب يدينون بدين ما وأن نصف ها العدد ملتزم بشكل ما يطقوسه وشعائره وهذا يعني أن نصف سكان الكوكب يقادون من معابدهم.
إن الأنبياء لم يكتبوا فلسفة عميقة ولكنهم عزفوا على أوتار صحيحة، وفي هذا السياق يأتي الحج الأعظم تعبيراً عن هذه الحقيقة، حيث يصل إلى الحج نحو ثلاثة ملايين حاج خلال موسم الحج، فيما يصل لأداء العمرة خلال العام كله أكثر من عشرين مليون زائر، وليس من المبالغة في شيء أن نقول إن مليار مسلم آخر يراقبون بشغف هذا المشهد وتتوق أرواحهم للوصل إليه.
ولا يعنى هذا المقال بالطبع في شرح طقوس المناسك، حيث تجد ذلك في كتب الرواية والفقه، ولكنني أود أن اتوقف عند البعد الإنساني للحج، ورسالة الإخاء الإنساني التي يتعين أن تحققها المناسك.
ومن المدهش في الحج أن القرآن الكريم نص على رسالة دولية إنسانية للحج.. وبخلاف آيات العبادات كالصلاة والصوم والزكاة التي جاءت بصيغة يا أيها الذين آمنوا …. فإن الحج جاء دوماً بصيغة يا أيها الناس:
* ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً
* وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر
* إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً
* وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً
* جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس
* ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس
حتى إن الرسول لما خطب في حجة الوداع كان نداؤه دوماً: أيها الناس … أيها الناس.. إن أباكم واحد وإن ربكم واحد. كلكم لآدم وآدم من تراب.
ولكن.. هل يوجد في المناسك اليوم برنامج دولي يجمع الناس على قيم الإنسانية البيضاء؟؟
لا شك أن مناسك الحج لمن يؤمن بها من المسلمين، ولكنني من أشد المتحمسين لرسالة مكة الدولية والإنسانية… ومن أشد المعارضين للافتات الغبية الموضوعة على مفارق الطرق بمكة والمدينة: ممنوع دخول غير المسلمين!!! إنها عبارة لا تليق أبداً برسالة الحج ولا تعكس أي تسامح أو انفتاح…
ما المانع أن يدخل الناس جميعاً إلى البلد الحرام وأن يشاهدوا هذا النعيم الروحي الغامر وأن تكون لهم برامج سياحة يطلون فيها على نفحات الله، فلعله تشرق قلوبهم بالايمان، بدلاً أن نكشر في وجوههم ونعاملهم كدنس منبوذ..
إننا ندخل كل بيوت الأديان في العالم وحين يمنعك كاهن من الوصول الى معبده أو النظر إليه فلن تفهم ذلك إلا على أنه تكبر وتحقير!!
من المؤسف أن رسالة الحج بالذات أغلقت تماماً عن رسالتها الإنسانية وتحولت إلى مناسبة لتكريس عزلة المسلمين عن الأمم، حيث تم منع الناس من دخول مكة والمدينة، باعتبارها حرماً لا يصلح لدخول الكافرين، وأن علينا أن نحافظ على خصوصيتها المعصومة من الدنس بمنع الآخرين من الدخول إلى مناطق الحرم، باعتبارهم مشركين دنسين، ومن المؤسف أن صفة المشركين أو الكافرين باتت تشمل في الوعي السلفي سائر البشر على اختلاف أديانهم ومللهم وثقافاتهم وفلسفاتهم، سواء كانت دينية أو لا دينية وسواء كانوا أخياراً طيبين أو أشراراً فاسدين، فالجميع صار بحكم الوعي السلفي نجساً لا يجوز أن يدخل المسجد الحرام، وهو ما يدل له ظاهر الآية: يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا!.
في الحقيقة لم يقف فقهاء الإسلام صامتين إزاء فهم الآية، وأعلن كثير منهم أن الآية ليست مطلقة في الزمان والمكان، بل هي عام أريد به الخصوص، والمقصود به المشرك المحارب المنصوص عليه في مطلع سورة التوبة وهم المشركون الذين تبرأ القرآن منهم وأمرهم بالمغادرة خلال أربعة أشهر، وهم فئة معروفة بأسمائها وأوصافها وممارساتها ضد المسلمين، وقد أمر القرآن بإخراجهم من مكة بعد أن خاضوا حرباً متواصلة لمدة عشرين عاماً ضد الرسالة والرسول.
الفقهاء الكبار خصصوا الآية ومنعوا إطلاقها، فذهب الإمام مالك أن غير المسلم يمكنه أن يدخل الحرمين بعهد وإذن، فيما رأى أبو حنيفة أنه يدخل كسائر الناس ولا يحتاج عهداً ولا إذنا، تأسيساً على أن النص عموم يراد به الخصوص، أو أنه منسوخ بفعل النبي الكريم يوم أدخل النصارى إبى مسجده الشريف فكانوا يقومون فيه وينامون فيه ويصلون فيه وهو خلاف ظاهر الآية، وقد جرى بعد نزول آية التوبة حيث كانت زيارة نصارى نجران في السنة العاشرة للبعثة، فيما اختار ابن حنبل والشافعي موقفاً حنبلياً متشدداً يمنع دخولهم في أي زمان وأي مكان!.
ولعلك تقول وما حاجة المناسك لدخول غير المسلم، خاصة أنه غير معني بالطواف ولا السعي ولا الصلاة فيها، وقناعتي أن المسألة تربوية في المقام الأول فحين ننشئ أولادنا أن العالم ينقسم إلى طاهرين ونجسين وأننا بالطبع أصحاب الصف الأول فأنت تؤسس لمجتمع مفصول عن العالم معاد له بالطبع وسيكون ذلك أكبر سبب لعزلة المسلم وغربته في العالم وعجزه عن التشارك مع العالمين.
من المدهش أننا نروي عن عمر بن عبد العزيز أنه قام بتوسعة المسجد النبوي بالاستعانة بمائة بناء من نصارى الشام وبعضهم يقول نصارى الروم، أرسلهم الوليد بن عبد الملك إلى المدينة.
إنه بالفعل مأزق حضاري أن نكرس في نفوس ابنائنا أن الآخر دنس ونجس، ونظن أن ذلك حماية للمشاعر، وقناعتي أن حماية المشاعر إنما تكون بحماية غاياتها الإنسانية ونشر المحبة في الأرض، ولا أشك أبداً أن رياح التغيير التي تهب على السعودية سترفع قريباً هذه اللوحات الإقصائية الغبية التي ترفع فوق رؤوس الحجاح ممنوع دخول غير المسلمين، ولعلهم يكتبون بدل ذلك: الخلق كلهم عيال الله وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله.