في حقيقة أهداف نظرية “المؤامرة الكونيّة”، وزيف الوعي السياسي النخبوي المرتبط بها!!
أفترض أنّ الهدف الأساسي خلف دعاية “المؤامرة الكونيّة”، التي تروّج لها أبواق “المحور الروسي”، هو إخفاء طبيعة تقاطع أهداف قواه مع أهداف الولايات المتحدة؛ في الصراع السياسي على سوريا، الذي فجّره حراك السوريين السلمي في ربيع 2011؛ التي تتمحور حول منع حدوث انتقال سياسي سلمي، بآفاق تغيير ديمقراطي وطني شامل، وبتكامل أهدافها مع “دعاية” أمريكية مقابلة، تجيّرها، وتؤكّدها!
أوّلاً، لنتفق على تشخيص المشهد العام في ربيع 2011.
تتفجّر ثورات شعبيّة سلمية؛ بآفاق تغيير ديمقراطي، على أرضية، وكردّة فعل على عقود طويلة من سيطرة آليات نهب تشاركي، محلّي إقليمي وإمبريالي، وفي مواجهة أنظمة استبداد، تشكّل سلطاتها تاريخيّاً مرتكزات السيطرة الإمبريالية، العالمية والأمريكية”.
تُظهر هذه القراءة حقيقة أنّ نجاح حراك الشعوب السلمي في تحقيق انتقال سياسي سلمي للسلطة سوف يكون على حساب السلطات المحليّة والإقليميّة القائمة أوّلاً، وعلى حساب مصالح مراكز النظام الرأسمالي العالمي الإمبريالي، وفي مقدمتهم الولايات المتحدّة، ثانياً؛ التي نجحت تاريخيّاً في بناء شبكة علاقات ونهب تشاركية مع سلطات الأنظمة.
بمعنى، التغيير الديمقراطي يتناقض مع مصالح السلطات المحليّة والإقليميّة، المعادية للديمقراطية، ومع مصالح مراكز النظام الرأسمالي العالمي “الديمقراطيّة”، على حدّ سواء، أليس كذلك؟
إذاً، اتفقنا على أنّ مصالح الجميع تتناقض مع مسارات التغيير، يصبح من الطبيعي أن تتقاطع سياساتهم في التنسيق، وتوزيع الأدوار، لمنع حدوثها، علاوة على الوسائل والأدوات!!
بناءً على ذلك، افترضتُ أنّ ما تعمل دعاية المؤامرة على ترويجه حول تخندق الصراع بين محورين أمريكي وروسي، لا أساس موضوعي له، ويخدم جميع القوى التي تورّطت بالحرب، بقوتيها الرئيسيتين، الامريكية والروسية!! كيف؟
ثانياً: من جهة أولى:
يرى أطراف “حلف المقاومة” أنّ الحراك السلمي، حتّى لو كان تعبيراً صادقاً عن معاناة الشعوب، ويسعى إلى الإصلاح، فإنّه يشكّل خطراً على سلطاتها، لأنّه سَيُستَغَل “حتماً” من قبل أعدائها الإمبرياليين والإقليميين لتغييرها، أو فرض شروط عليها لا تريدها، و يجب وقفه بأيّة وسيلة، وبالتالي، منعه من تحقيق اهدافه بالانتقال السياسي، بذريعة إمكانية “ركوب جمهوره” من قبل العدو!
ضمن هذا السياق، يصبح هدف الحرب المُعلن بالنسبة لحلف الممانعة هو مقاومة المؤامرة الكونية، “الأمريكية”، التي تحاول استغلال حراك الشعوب، لتحقيق أهداف سياسية غير مرتبطة بأهدافه! وكيف تفعل ذلك؟ بوقف الحراك، بأيّة وسيلة!
عمليّاً، شكّل أخطرها، نقله من مسارات الحراك السلمي الديمقراطي، إلى ساحات الحروب والتطييف، ووسم نشطائه وجمهوره بالإرهاب، بما يبرر أدوات إيقافه، ويجعل حروبهم عادلة، لأنّها تواجه عصابات مسلحة، وليس شعوباً تسعى للتغيير السلمي!!
من جهة ثانية، تخفي نظرية المؤامرة حقيقة الموقف السياسي الأمريكي الداعم لأطرافها موضوعيّاً وسياسياً؛ نتيجة تقاطع أهداف الجميع حول إجهاض أهداف التغيير الديمقراطي؛ عندما يصبح وفقاً لدعايتها هدف الحرب التي يشنّها أطراف “المؤامرة الكونيّة”، الأمريكية – الإسرائيلية الأوروبيّة – الإقليمية” ليس له علاقة بالهدف الجوهري المرتبط بالتغيير الديمقراطي، بل بقضايا ترتبط بالتسوية السياسية مع اسرائيل، وسياسات رفضها[1].
ثالثاً، من الجدير بالذكر توضيح حقيقة أنّ وقوع الوعي السياسي والثقافي السوري، المعارض والموالي، في فخ هذه الدعاية، في وجهها الروسي المقاوم، أو الأمريكي “المهاجم”، ساهم إلى حدّ كبير في تعميق الشرخ بين السوريين، وعزّز عوامل هزيمة أهداف مشروع التغيير، السبيل الوحيد لحماية سوريا، والحفاظ على مصالح الجميع!
في حين يبرز، من أجواء تأثيراتها، وعي سياسي نخبوي “معارض”، يعتقد أنّ قرار الخيار العسكري الميليشياوي، الذي تمّ اتخاذه في 2011، في مواجهة استحقاقات ديمقراطية، ولمنع تحققها، وما رافقه ونتج عنه، هو مسؤولية أطراف المحور الروسي فقط، ويتناقض مع أهداف وسياسات الولايات المتحدّة؛ بما يبرر لهم الاصطفاف خلف سياسات واشنطن، والارتهان لها، والبحث عن موقع على موائدها، وبالتالي، يفسّر استمرار تعليق طيف واسع من النخب السياسيّة والثقافيّة السوريّة المعارضة، في الخارج والداخل، أحلامه على مشجّب اليانكي الأمريكي[2]!!
يعتقد هؤلاء، بما يتناقض مع حقائق الواقع الموضوعية؛ تحت تأثير دعاية أمريكيّة عالية المهنيّة، تحظى بترويج نخبوي واسع، وفي غياب رؤية سياسية موضوعية شاملة لطبيعة الاستراتيجية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط عموماً، وفي سوريا، بشكل خاص[3]؛ أنّ الولايات المتحدّة الأمريكية، الدولة الديمقراطيّة الأعظم، لم تقل كلمتها النهائية في” المسألة السوريّة”، لأسباب عديدة، يأملون أن تكون مؤقّتة، ويعملون، في تعدادها، على تكرار ما تنشره مراكز البحوث الأمريكيّة، عبر أصوات نخب الصفّ الأوّل، على سبيل المثال، الدكاترة، سمير التقي، برهان غليون، رضوان زيادة، وغيرهم، ممن يروّجون لأشكال أخرى من الدعاية الأمريكية، كـ “الانسحاب الأمريكي” من المنطقة، “والتراخي” الاستراتيجي، مقابل “نهوض” صيني – روسي، “يستغل حالة الفراغ” التي تتركها واشنطن، وعدم أهميّة تأثير ما يحدث في سوريا على المصالح الأمريكيّة!، وأنّ التغيير السياسي قادم عند أوّل نهوض جديد، والتفاتة كريمة من زعماء البيت البيضاوي![4].
ليس خارج هذا السياق، يسيطر وعي سياسي نخبوي، يعجز عن فهم طبيعة الأدوار التي مارستها أطراف الصراع، في توافقها حول العام المشترك، (هزيمة أهداف المشروع الديمقراطي، بأدوات ووسائل الخيار العسكري الطائفي)، وتناقضها حول الخاص (مرحلة تقسيم سوريا إلى حصص ومناطق نفوذ، بين 2015-2020، بعد تحقيق الهدف الأوّل)، ورؤية عدم تعارض مصالح الولايات المتحدّة مع الدور الذي قام به أطراف المحور الروسي، الساعي لقطع سبل التغيير الديمقراطي للشعب السوري، ويتجاهل حقيقة استحالة انتصار أهداف المشروع الروسي/الإيراني في سوريا، لو لم يكن يعمل تحت سقف هدف مشترك مع الولايات المتحدّة وإسرائيل، وفقاً لحقائق موازين القوى، التي تقول بكون الولايات المتحدّة هي الدولة الأقوى على سطح الكوكب؟!
ضمن هذه الرؤية، نفهم ما يسوقه بعضهم حول الخشية من نشوب “حرب عالمية”، في حال حدوث تدخّل أمريكي فعّال، في مواجهة الدور الروسي، ولتبرير “سلبية واشنطن” وتبرئة ساحتها، وساحات شركائها الأوربّيات؛ وهو غير وارد إطلاقاً، إلا في إطار الوهم الذي يروّج له أبواق “الحلف الروسي”!!
مقابل ذلك، ثمّة وعي سياسي “مؤيّد” يعتقد ببراءة أاطراف حلف الممانعة من أدوات وآثام الخيار العسكري الطائفي الميليشياوي، ويحمّل مسؤوليّة دفع حراك الشعب السوري السلمي ( اذا اعترف بوجوده أصلاً)، لأطراف المؤامرة الكونيّة!!
ختاماً، يبدو واضحاً أن أخطار الدعاية المزدوجة على إمكانية قيام وعي سياسي وطني ديمقراطي سوري، مستقل، يشكّل الخطوة الأولى على طريق خروج السوريين جميعاً من حالة انسداد آفاق التغيير، وما نتج عنها من تدمير شبه شامل لمقومّات الدولة السورية.
النور، والعدالة والسلام للشعب السوري
[1]– بالتكامل مع نتائج دعاية المؤامرة، تروّج ابواق الدعاية الأمريكية، وعلى اعلى المستويات، لمساندتها أهداف حراك السوريين، و رفضها لإجراءات السلطة القمعيّة، ووقوفها ضدّها، وتصرّ تصريحات أوباما وكبار مساعديه على العزف على أوتار أسطوانة “انتهاء الصلاحية”، وضرورة الرحيل؛ بما يؤكّد أطروحات أطراف الممانعة حول سعي واشنطن لتغيير رأس السلطة، ويبرر مواجهتها للغرب الإمبريالي؛ وبما يغطّي على واقع عدم قيام الولايات المتحدّة بأيّ إجراء فعّال لتحقيق ما يروّجون له إعلاميّا، ويغيّب حقيقة وواقع إدراك زعماء البيت الأبيض أنّ ما تقوم به سلطة النظام وشركاؤها يصبّ في خدمة أهدافها، ويجعل مما لا تقوم به عمليّاً يصبّ في إطار تحقيق الهدف الاستراتيجي المشترك، بوسائل مختلفة، وآليات يصعب على السوريين، ونخبهم، كشفها، وفضحها!
لقد دأبت الدعاية، والممارسات الظاهرة الأمريكية منذ اللحظات الأولى لتفجّر الصراع على تحميل روسيا والصين وإيران، مسؤولية ما يحدث في سوريا، خاصّة في استخدام الفيتو في مجلس الأمن، وعلى وضع واشنطن في تناقض وصراع مع هذا السلوك الروسي، بما يعزز ديماغوجيا “المؤامرة الكونيّة” الأمريكية؛ وهو ما تردده النخب السياسية والثقافية المعارضة دون أن تدرك حقيقة أهدافه!
[2]– مثلاً، تفشيل خطط السلام العربية، في نهاية 2011 والربع الأوّل من 2012، التي قامت بها ظاهرياً روسياً، بينما هي في الواقع، مصلحة أمريكية – روسية، لأنها تعزز فرص الخيار العسكري، القادر على حسم الصراع، بما يهزم أهداف وجمهور التغيير الديمقراطي. لذلك لم تعمل واشنطن على ما يمنع السلوك الروسي، واكتفت بإدانته واظهار معارضتها له.
[3]– لا أعرف كيف تكون ردّة افعال هؤلاء الواهمون بموقف أمريكي مختلف، عندما يدركون أن الوضع السوري الراهن، ومآلاته القادمة، رغمّ تنوّع المشاركين، وتعدد الادوات، والأذرع، هو تماما ما تريده واشنطن، ويحقق اهداف مصالحها، ولأنّ هدفهم المشترك، الساعي إلى قطع سبل الانتقال السياسي الديمقراطي، هو الهدف رقم 1 على قائمة أجندات الولايات المتحدّة، ليصبح من الطبيعي ألا تفعل أيّ شيء، قد يُغيّر في مسار اتجاه الوضع الحالي، أو يحجّم أدوار القوى الرئيسيّة التي ساهمت جهودها المشتركة في صناعته!
لا ضير عند هؤلاء المتسلقين من معاندة حقائق الواقع؛ التي تؤكّد استمرارية الوضع السياسي القائم، لسنوات سبع قادمة على الأقل، وديمومة حصول قواه السياسية على دعم المنظومة الإقليمية والإمبريالية ذاتها، دون حصول أيّة مؤشرات على تبدّل ما؛ طالما يطيب لهم النوم على أوهام حصول موقف أمريكي مختلف، يعمل على تغيير قواعد اللعبة القائمة، بما يُتيح لهم الحصول على حصّة ما، ناضلوا طويلاً للحصول عليها!
[4]– أعتقد أن وعي أهداف المشروع الأمريكي الاستراتيجية في المنطقة، وإدراك طبيعة الادوات التي يستخدمها، ويجيّرها، محليّاً وإقليميّاً وإمبرياليّاً، لتحقيقها، يشكّل ألف باء الوعي السياسي الموضوعي، الذي ما تزال تغلق أمامه بعض النخبّ عقولها، وتواجهه بخشية، وتضعه في إطار “نظرية المؤامرة”، ربّما خوفاً على أحلامها من التبخّر، وعلى آمالها من الضياع!!