علي الوردي.. والبحث في جذور التخلف
نشرت هذه الدراسة في مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
مقدمة:
يُعتبر علمُ الاجتماع علماً حديث التكوين، وهو يختص بدراسة خصائص المجموعات البشرية، والتفاعلات المختلفة، والعلاقات بين أفراد هذه الجماعات، كما يهتمُّ هذا العلم بدراسة الحياة الاجتماعية للبشر سواءً كانوا مجموعات أم مجتمعات(1).
ويُعتبر مصطلح (SOCIOLOGY) الذي صاغه أوغست كونت عام 1838 مصطلحاً يتكون من جزئين باللغة اللاتينية، إذ تعني (COCIUS) رفيق أو شريك، وتعني (LOGIA) دراسة أو خطاب(2).
كما يُعتبر الدكتور علي الوردي(3) رائداً لعلم الاجتماع العربي المعاصر. فالوردي الذي وُلدَ في بغداد عام 1913، ونال شهاداته العلمية العليا من جامعة تكساس في الولايات المتحدة الأمريكية، تأثر بمنهج ابن خلدون في علم الاجتماع.
لم يعتمد الوردي على المنهج الماركسي في دراسة الظاهرات الاجتماعية، ولم يعتمد في منهجه على النقد الوصفي للظاهرات، وإنما اشتق لنفسه منهجاً خاصاً، ودرس بموجبه سمات الشخصية العراقية، على اعتبارها شخصيةً تعاني من الازدواجية، حيث تحمل قيم البداوة وقيم الحضارة في آنٍ واحدٍ.
إن الجغرافية العراقية التي تقع على حدود صحراء شبه جزيرة العرب تحكمها علاقات الحضارة الزراعية التي قامت على ضفاف وما بين النهرين الكبيرين (دجلة والفرات)، وكذلك تحكمها هجرات بدوية تسببها عوامل الجفاف في شبه جزيرة العرب.
هذا التشابك بين نمطين ذهنيين وحياتيين (بداوة – حضارة زراعية) سيفرض قيماً مزدوجةً على مجموع أفراد البوتقة الاجتماعية العراقية، وهذه الحال هي مقصد الدراسات المعمّقة التي قام بها علي الوردي بغية فهم أسباب التخلف والعجز الاجتماعي في العراق. كذلك كان الوردي يريد فهم المحمول الفكري لدى الشخصية العراقية، وما تركه هذا التشابك حتى أيامنا الحالية من صراعات وتفكّكات في وحدة النسيج الاجتماعي العراقي.
منهج البحث لدى علي الوردي:
يقوم منهج البحث لدى علي الوردي على مبادئ التحليل العلمية، التي تبحث في طبيعة ونشأة وتركيب المجتمع العراقي الحديث. وقد استند منهجه في البحث على مصادر ومراجع رئيسة، إذ درس ابن خلدون في نقده للمنطق الأرسطي، ولهذا نجد أثر فكر ابن خلدون واضحاً في دراسات وبحوث الوردي. واستند منهج الوردي في مرحلة ثانية على نظريات سيجموند فرويد بما يتعلق بنظرية “الدوافع”، ففرويد يعتبر أن السلوك البشري ليس موجهاً بالعقل وإنما بالدوافع، مثل الدافع “الجنسي”، والدوافع لا عقلانية تؤثر على حياتنا وسلوكنا، ولهذا إذا فهم الإنسان السلوك فعليه فهم الدوافع، التي تختفي وراءه. يقول الوردي: “إن فرويد استطاع الكشف عن قناع الإنسان المصطنع وجعله عارياً، وإنّ المفكرين قبله كانوا يعتقدون بأن الإنسان ذو عقلٍ واحدٍ يسيطر على أعماله، ويوجه سلوكه، فإذا انحرف أرجعوا السبب إلى عقله، وناشدوه أن يفعل ويتعظ، فإن لم يفعل اعتبروه مستحقاً للعقاب. أما فرويد فقد اكتشف أنّ في الإنسان عقلاً ثانياً غير العقل الواعي، وقد أطلق عليه اسم العقل الباطن (اللاشعور)”.
إنّ منهج الوردي استند في مرحلة ثالثة في بحوثه ودراساته على نظرية “اجتماعية المعرفة ” لعالم الاجتماع الألماني كارل منهايم، والتي تبحث في التأثير المتبادل بين الفكر والواقع الاجتماعي، معتبراً أن الحقيقة نسبية، وأنها موجودة خارج العقل البشري، وشبهها بالهرم ذي الأوجه المتعددة، وأن كلاً منا لا يرى من الهرم سوى الوجه المقابل له دون الوجوه الأخرى.
منهج منهايم استفاد منه الوردي في دراسة الطبيعة البشرية، هذه الطبيعة هي التي تقود إلى فهم المجتمع العراقي، وشخصية الفرد العراقي. ولهذا طرح الوردي السؤال الفلسفي: “هل أنّ الإنسان مخيّر أم مسيّر” ثم أجاب على سؤال نفسه قائلاً “الإنسان مسيّر في أغلب أفعاله، وإنه مدفوع ومجبور بدوافع اللاشعور، ودور العقل هو تبرير ما يقوم به الإنسان من أفعال”(4).
إذاً يمكن القول إنّ منهج البحث العلمي لدى الوردي يرتكز على ثلاثة مناهج في البحث الاجتماعي وعلم النفس والفلسفة. هذا المنهج استطاع إلى حدٍ ما الغوص في بناء الشخصية المجتمعية العراقية، باعتبارها مكونات رئيسية (إثنية – دينية – طائفية – عشائرية)، تتبادل فيما بينها التأثير والتأثر، مما يخلق أنساقاً من العلاقات بين المكونات، توضح إلى درجةٍ ما توافقها وتفارقها، وتبيّن العوامل المساعدة على التوافق الاجتماعي، ومثلها العوامل المساعدة على الصراع الاجتماعي.
من هنا تأتي أهمية نقد العقل البشري، إذ إنّ الوردي قام بتوظيف هذه الفكرة، فانتقد الافتراض بطبيعة العقل الثابتة، معتبراً أنّ العقل البشري متعصب ومتحيّز للطبيعة بسبب تأثره بالبيئة والقيم والمعتقدات والمصالح. لذلك انتقد الوردي المنهج العقلي، وبيّن عيوبه، باعتباره منهجاً لا يتلاءم مع المنهج العلمي الحديث، فأصحاب المنهج العقلي أخطأوا عندما تصوّروا أن الطبيعة البشرية كأنها “نتاج العقل”. وأنّ العقل كأنه موهبة وظيفتها الوصول إلى الحقيقة. على هذه القاعدة اعتقد أصحاب المنهج العقلي أن في وسعهم إصلاح البشر عن طريق “الموعظة والخطابة وإسداء النصح”، وهذا ما دفع الوردي إلى اتهام أصحاب المنهج العقلاني بأنهم وفكرهم يعيشون في أبراجٍ عاجيةٍ، وينظرون إلى المجتمع بنظرةٍ فوقيةٍ مثالية.
الوردي وأرسطو:
لا يتفق رأي الوردي مع رأي أرسطو في تعريف الإنسان، فأرسطو(5) يقول: “إنّ الإنسان ليس مدنيّاً بالطبع، وإنما هو وحشي الطبع، ومدني بالتطبع”. بينما يرى الوردي أنّ الإنسان ليس أنانياً وإنما “أنوي”، فالأنانية تعني حبّ الذات، وهي إحساس فردي، أما “الأنويّة” فهي إحساس اجتماعي، وهي الشعور الذي يجعل الإنسان دائم السعي لإشباع غرائزه على حساب الآخرين، وتبرير ذلك بحججٍ عقلية ونقليّة.
ويرى الوردي أنّ الإنسان ليس حيواناً عاقلاً كما اعتبره الفلاسفة القدماء، وإنما هو “أنوي” يحب الأنا، ولا يحب الحق والحقيقة، باعتبار أنّ العقل البشري هو عقل عاجز عن الإمساك بالحقيقة المطلقة بسبب نقصٍ في بنيته ومحدوديةٍ في قدراته، لذلك لا يمكن الثقة فيه.
رؤية الوردي للإنسان وتكوينه ساعدته على وضع الإنسان في الحالة الاجتماعية غير المستقرة، هذه الحالة ترتكز أساساً على فهمه لمعنى “الأنوية”، أي تقديم الذات على حساب الحق، هذا التقديم للذات يُظهرُ عمق سيكولوجية الدوافع لدى الإنسان عموماً والتي تعمل ضمن قوانين بيولوجية ترتكز على الغرائز، ومنها غريزة الخوف والجوع والجنس.
إذاً ثمة فارق كبير بين نظرة الوردي ونظرة أرسطو نحو الإنسان، وهذا الفارق طبيعي وموضوعي، لأن زمناً كبيراً يفصل بينهما، وهذا الزمن الفاصل تراكمت فيه المعرفة والعلوم لمصلحة الوردي.
لقد رأى وليم جيمس(6) “أنّ العقل ليس سوى عضو خلقه الله في الإنسان لمساعدته في تنازع البقاء” إذاً يلعب العقل دور خدمة الإنسان لاكتشاف الوسيلة التي تساعد على النجاح في الحياة والتغلب على الخصم. لكنّ علي الوردي يعرف تماماً أن العقل غير محايدٍ، ولذلك يعجز عن إدراك حقيقة الكون الكبرى، وهو محدود بحدود الأشياء المألوفة لديه.
لقد أتى نقد علي الوردي كصرخةٍ ضدّ التفكير المثالي، وضد تعصب العقل البشري وتحيزه، وضد تعصّب الذات لمصالحها الخاصة. لذلك شنّ حملةً ضد المنطق الأرسطي القديم، وضد العقلاء ووعاظ السلاطين، الذين يعيشون منعزلين عن هموم الناس ومصالحهم، ويخدمون السلطات التي حولتهم إلى موظفين مأجورين.
كان الوردي يريد من نقده الحاد للتفكير العقلاني المثالي أن يزلزل أساليب التفكير القديمة والتقاليد والعادات البالية، وهي محاولة تندرج ضمن محاولة اختراق البنية الاجتماعية في أحد أنساقها وتحديداً في نسقها الفكري، الذي أنتج ذهنية مثالية سيطرت على العراقيين وأخرجتهم عن سياق حياتهم الطبيعي، الذي يخضع لقوانين تطور العلوم والحياة والمعارف.
نقد الوردي للذهنية السائدة التي تسيطر على العراقيين، هي محاولة تنوير عقلي تتمّ من خارج النص الذي يفتقد لحالة النقد، والذي لم يقم على أرضية المنطق العلمي الحديث.
الوردي وعتبة اللاشعور:
لعل كتاب “خوارق اللاشعور” الذي ألّفه ونشره الدكتور علي الوردي يتقاطع بفكرته الرئيسية “اللاشعور” مع ما طرحه سيجموند فرويد في نظريته “عتبة اللاشعور” أو العقل الباطن. لكن كتاب الوردي “خوارق اللاشعور” يبحث في غوامض العبقرية والتفوق والنجاح، وما يسمى عند العامة “الحظ”.
يدرس الوردي في هذا الكتاب أثر الحوافز اللاشعورية فيها في ضوء النظريات العلمية “إنّ التقصد والتعمّد والتعجّل أمور مناقضة لحوافز اللاشعور ومضرة لها، إن كثيراً من أسباب نجاحنا آتية من استلهام اللاشعور، ومن لا صفاء الروح الآني، فإذا تعجّل المرء أمراً وأراده وأجهد نفسه في سبيله، قمع بذلك وحي اللاشعور وسار في طريق الفشل”(7).
وفق هذه الرؤية يمكن فهم أن تطور المجتمع البشري ناجم عن المنافسة الحادة التي تدفع كلّ فردٍ ليبرع ويتفوق على غيره. فالتطور قائم على أبدان الضحايا الذين فشلوا في الحياة، فصعد على أكتافهم الناجحون. ويعتبر الوردي أن قسماً مهماً وكبيراً من هذه الإنجازات الخالدة التي قام بها هؤلاء الناجحون والنابغون جاءت نتيجة الإلهام الذي انبثق من أغوار اللاشعور.
أما اللاشعور أو ما يطلق عليه فرويد مصطلح “اللاوعي” وهو مفهوم يتبع لمدرسة التحليل النفسي التي أنشأها سيجموند فرويد(8). لقد اعتبر فرويد أنّ لدى الإنسان خزّاناً للمشاعر والأفكار والمكبوتات والذكريات، في هذا الخزان تتجمع أمور كثيرة كالألم والقلق والرعب والصراع والرغبات، حيث لا يسيطر الإدراك أو الوعي المباشر، أي أنّ مخزونات هذا المخزن لا تخضع لقانون التفكير، وبالتالي فإن “عتبة اللاشعور” أو التفكير لا تتدخل فيها.
ويعتقد فرويد “أنّ الكثير من مشاعرنا ورغباتنا يتمّ قمعها أو تخبئتها، لأنها تشكّل تهديداً خطيراً، فهي لا تُظهرُ هذه الرغبات المخبأة والأمنيات المكبوتة إلا في بعض الأحيان، فقد تجعل نفسها معروضة في الأحلام وزلات اللسان”(9).
إنّ التقاطعات بين فهم علي الوردي وفرويد حول مفهوم اللاشعور يظهر في فهم كليهما أهمية حالة القهر المجتمعي، التي تساعد على عمل عتبة “اللاشعور” كتعويض عن حالة القمع التي يتعرض لها الفرد. فالفرد العراقي الذي يُحسّ بحصار كبير تفرضه عليه مؤسسات السلطات السياسية والدينية، تجده “يضع على عقله منظاراً، أو إطاراً ينظر من خلاله إلى الكون، وهو لا يصدّق بالأمور التي تقع خارج هذا الإطار”(10).
الوردي في دراسته للسلوك النفسي لدى الفرد العراقي، يجد أن هذا الفرد يعيش في ازدواجية نفسية في شخصيته، فالأسرة العراقية رغم أنها بنية أو خلية المجتمع الأولى تجد فيها انقساماً داخلياً بين عالمين، حيث يغدو البيت العراقي عالماً قائماً بذاته له قيمه الخاصة به المختلفة عن قيم وقواعد العالم الرجالي. هذا الجانب يعزّز بطريقةٍ ما نمو الازدواجية لدى المرأة والرجل، وينشأ نتيجة هذا الانقسام مستوىً شاهقاً يؤدي إلى هوة عدم الرضى عن النفس، مما يُفضي إلى حالة “عصاب”.
هذا المفهوم الاجتماعي للعلاقات يقوم على مبدأ تربيةٍ مشدّدةٍ، وفصل بين الجنسين، يؤدي إلى الكبت، مما يُنتجُ ما يُطلق عليه الشخصية الخانعة الخاضعة، ولكنها في الوقت ذاته تكون شخصية تحمل بذور الثورة الداخلية.
لذلك يعتقد الوردي أن الانسان العراقي يفكّر بأسلوبين مختلفين قبل أن يصل إلى خلاصةٍ مفادها أن الفرد العراقي مُبتلى بداءٍ دفينٍ، هو داء “الشخصية المزدوجة”. وهذا ما دفع الوردي إلى المطالبة بإزالة الحجاب عن المرأة ورفع مستواها وإدخالها في عالم الرجل لتتوحد قيمهما.
الوردي وابن خلدون:
تأثر علي الوردي بفكر ابن خلدون “وهو عبد الرحمن بن محمد ابن خلدون” مؤسس علم “العمران البشري”(11). والذي درس مفهوم العصبية القبلية وعلاقتها بالبداوة والحضارة، إذ رأى الوردي: “أنّ للبداوة والحضارة جانبين، أحدهما ساكن أو سكوني (STATIC) والآخر حركي (DYNAMIC)، فالجانب السكوني يتمثل في تعيين خصائص البداوة والحضارة، وكيف تظهر هذه الخصائص في كلٍ منهما على حدة. أما الجانب الحركي من النظرية فيتمثل في دراسة التفاعل والتصارع بين البداوة والحضارة، وما ينتج عن ذلك من ظواهر اجتماعية.
يقول الوردي في الصفحة 75 من كتابه منطق ابن خلدون “إنّ اكتشاف ابن خلدون للجانب السكوني والحركي من مجتمعه، وتحريه عن الظواهر الاجتماعية التي تنشأ عن التفاعل بين هذين الجانبين، جعله قريباً جداً من الطابع الذي اتجه نحوه علم الاجتماع الحديث”.
ويرى الوردي أن ابن خلدون بنى نظريته على نقض قوانين المنطق الصوري (قانون الذاتية وقانون عدم التناقض وقانون الوسط المرفوع) إذ قال: “يصحُّ القول أنّ الجانب السكوني فيها قائم على نقض قانون عدم التناقض، والجانب الحركي قائم على نقض قانون الذاتية”.
اعتمد الوردي في تشخيص المجتمع العراقي ودراسته على نظرية ابن خلدون، وبيّن أن هناك ثلاث مشكلاتٍ أساسية “صراع البداوة والحضارة – التناشز الاجتماعي بين الاثنين – تفتت الوعي الجمعي وانغلاقه”(12).
إنّ دراسة علي الوردي لطبيعة شخصية الفرد العراقي هي دراسة مهمة، ويمكن اعتمادها كمنهج لدراسة شخصية الفرد العربي في منطقة الشرق الأوسط. وتقوم دراسة الوردي للشخصية العراقية على اعتبارها شخصيةً تحمل قيماً متناقضةً، هي قيم البداوة وقيم الحضارة. ويعتقد الوردي أنّ جغرافية العراق لعبت دوراً هاماً في تكوين الشخصية العراقية، بسبب وجود حضارة زراعية، وبنفس الوقت لعب قُربُ العراق من الصحراء العربية في شبه جزيرة العرب، والتي كانت ترفده بموجات هجرات متتالية. إنّ عملية الدمج الاجتماعي للبدو الوافدين إلى مجتمع زراعي تحتاج إلى أزمنة طويلة لتتم عملية الاندماج، وحتى تتمّ هذه العملية تنشأ لدى الفرد العراقي قيمتان، واحدة حضرية، وأخرى بدوية. ولهذا تجد العراقي ينادي بقيم الثأر والكرامة والغلبة.
فهم الوردي لطبيعة الشخصية العراقية دفعه إلى فهم طبيعة المجتمع العراقي منذ عهد الدولة العباسية، وفهم دور الشعائر الدينية والطقوس في حياة هذا المجتمع، كالمولد الشريف وذكرى عاشوراء.
نقد الشخصية العراقية في سياقها الزمني والاجتماعي جعل الوردي يشنّ حملةً شعواء ضد فئة “رجال الدين”، والذين أطلق عليهم الوردي اسم “وعاظ السلاطين”. فهؤلاء الوعاظ يقفون إلى جانب الحكام ويتجاهلون مصالح الأمة، وذلك خدمةً لمصالحهم الضيقة، وبذلك فهم يتخلون عن واجبهم الديني لصالح مكاسبهم.
الوردي وجد أن الخلاف الطائفي بين السنة والشيعة يؤدي إلى انقسام المجتمع العراقي، لذلك دعا إلى نبذه، وطالب بالنظر إلى موضوع الخلاف بين الإمام علي والصحابة على أنه خلاف تاريخي تجاوزه الزمن. لكن الوردي بقي أسير الفكرة الشيعية التي تنتقد الدولة الأموية، حيث وصف الدولة الأموية بدولة العروبة التي تفشّى فيها الظلم الاجتماعي والعنصرية.
إنّ كتاب الوردي “وعاظ السلاطين” هو كتاب أراد الوردي من خلاله نقد فئة “الوعاظ”، أي رجال الدين، ولكن لم ينتقد الوردي الدين.
إن مقاربة الوردي للبنية المجتمعية العراقية بقيت محمولةً على النسق المعرفي، الذي قسم المجتمع العراقي إلى بداوة وحضارة وطوائف دينية وعشائر، وهو في هذه المقاربات لم يقم بعملية نقد عميقة لطبيعة التطور المجتمعي ولدرجة التطور وللحوامل الاجتماعية التي تحمل جهد تفكيك البنى الاجتماعية ما قبل الوطنية، بحيث تذوب الفئوية والطائفية في بوتقة تشكّل بنية الوطنية الجامعة.
الوردي الذي قال: “على العراقيين أن يغيروا أنفسهم ويصلحوا عقولهم قبل البدء بإصلاح المجتمع”، غاب عن ذهنه رغم غزارة معرفته العلمية أن عملية التغيير تتم وفق قانون تطور البنى لا خارجه.
رؤية الوردي لفكرة العودة إلى الأصول:
تعني فكرة “إعادة الإسلام” الرجوع إلى أصوله الأولى، أي إعادة إنتاج مفاهيم السلف في حياتنا وعصرنا رغم حجم “الهوّة الزمنية” التي تفصل بين مجتمع الأصول ومجتمعاتنا.
وقد قدّم الوردي في كتابه الموسوعي “لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث” تحليلاً موضوعياً لأسباب انتشار “الحركة الوهابية”(13) في شبه الجزيرة العربية، وبداية توغلها نحو العراق وبلاد الشام. ويعتبر الوردي أن فكرة “إعادة الإسلام إلى أصوله الأولى” لم تكن وليدة أفكار الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي عاش في الفترة (1703-1791)، إذ إن ابن تيمية سبقه إليها قبل خمسة قرون، لكن سبب نجاح ابن عبد الوهاب وإخفاق سلفه ابن تيمية يعود إلى “أن ابن عبد الوهاب نادى بالحركة في بيئة بدوية، فيما نادى ابن تيمية بها في بيئة حضرية لم تتقبلها”(14). ويعتقد الوردي أن رفض الوهابية لفكرة الشفاعة والوساطة هو من جعل البدو يقبلون بهذه الدعوة، فالبدو برأي الوردي لم يتعودوا على الوساطة في حياتهم الاجتماعية، وليس لديهم حكام مستبدون.
الحضري يدخل بعلاقة مع السلطة حسب رأي الوردي، وهذا النسق من العلاقة يفتح باب الوساطة بينهما. لذلك يعتقد الحضري أن الله يقبل بالشفاعة، وهذا الجانب بالذات استطاع رجال الدين استثماره من أجل التحكم بالناس خدمةً للسلطان أو الحاكم، وهذا جعل الوردي يعتقد أن عقائد وطقوس العامة هي صدى لعاداتهم وعلاقاتهم الاجتماعية. ويخلص الوردي إلى أن الوهابية التي أثارت الخوف بأشكال مختلفة ومتعددة عند سلطة العثمانيين آنذاك وعند الناس، دفع كثيراً من القبائل إلى الانضواء تحت رايتها. العودة إلى الأصول هنا هي عودة مشروطة بزرع الخوف والرعب لدى العامة، وهي تخدم ذهنية مجتمع بدوي لم تفكك علاقات اقتصادية متقدمة بناه التي تُبنى على العصبية. لذلك يمكن إيجاد علاقة بين بنى العصبية القبلية المتزمتة المغلقة وبين بنى العصبية الدينية الوهابية أو ما سبقهما باعتبارهما نموذجان لا يغادران موقع الفكرة الأصل رغم أن الحياة تتطور باستمرار، وأنها تعدّل بشروط ولادة أو عيش مثل هذه الأفكار.
لكنّ علي الوردي لم يقل لنا كيف يمكن تفكيك العصبية الدينية المقابلة للعصبية القبلية، فهو لم ينظر إلى حركة العصبيّتين في سياق تطوري يطرأ على البنية المجتمعية بكل أنساقها، وهذا يحتاج إلى رؤية أشمل تقول إن التحولات الفكرية والاجتماعية تتأخر كثيراً عن التحولات الاقتصادية في ذات بنى المجتمع الواحد.
من هو المثقف لدى الوردي:
حين تتم الإشارة إلى مفهوم المثقف تقفز إلى الذهن فكرة تقول إن المثقفين هم النخبة الفكرية والثقافية والعلمية والأدبية والفنية القادرة على امتلاك وعي الآخر عبر زخم فكري آسر وقادر على البناء لدى جمهور المتلقين. إذاً يمكن القول إن المثقف هو غير المتعلّم، أي غير الذي ينال الشهادات التعليمية “المتعلم هو من تعلّم أموراً لم تخرج عن نطاق الإطار الفكري الذي اعتاد عليه منذ صغره، فهو لم يزدد من العلم إلا ما زاد في تعصبه، وضيّق من مجال نظره”(15).
لذلك ثمة فرق واضح بين معنى متعلّم ومعنى مثقف، رغم أن عامة الناس لا تفرّق بينهما، فالمثقف هو من يقوم بتذويب الأطر الفكرية، ويعمل على تصحيحها، وتصويب مساراتها بما يملك من سعة فكرٍ ومنهجٍ علمي وأفق حضاري وميزانٍ معرفي قادر على إدراك الأمور ومناقشتها بعلميةٍ وواقعية موضوعية بعيداً عن الانغلاق على الذات ومنطق الانحياز. يقول الوردي “المجتمع الذي تسوده قوى المحافظين يتعفن كالماء الراكد، أما المجتمع الذي تسوده قوى المجددين فيتمرد كالطوفان، حيث يجتاز الحدود والسدود ويهلك الحرث والنسل. والمجتمع الصالح ذلك الذي يتحرك بهدوء، فلا يتعفن ولا يطغى، إذ تتوازن فيه قوى المحافظة والتجديد فلا تطغى إحداهما على الأخرى”(16).
إن مقياس المثقف لدى الوردي ليس بمقدار ما يمتلكه من معلومات وتعليم وعدد شهادات، بل يعتمد على امتلاكه لمنهج علمي وطريقة فكرية، تمكنه من ممارسة النقد على نفسه “نقد الذات الفكرية” وعلى الفكر، وبنفس الوقت تسمح له بقبول الآخر المختلف، إذ إن قبول الآخر يستدعي بالضرورة توفر المرونة لدى المثقف والقدرة على الحوار، لأن الحقيقة نسبية ومتغيرة بتعدد البشر وأوانهم واختلاف مشاربهم.
خاتمة الكلام:
رغم امتلاك علي الوردي لرؤية مقبولة علمياً حول بناء الشخصية العراقية، أو التحولات الاجتماعية التي جرت في بنى المجتمع العراقي عبر عصوره، يبقى أن الجدل القائم بين مكونات المجتمع العراقي وانعكاس ذلك على البنية الفكرية والنفسية للإنسان العراقي يحتاج إلى منهج تحليل أكثر عمقاً وشمولية وعلمية لا يكتفي بدراسة الظاهرات الاجتماعية من سطحها بل عبر الجدل القائم بينها وبين بقية العوامل المؤثرة كالعامل الاقتصادي والسياسي.
المنهج المطلوب مطالب أن ينهض بمهمة الكشف عن البنى عبر تحولاتها ومعيقات هذا التحول الاقتصادية والسياسية ضمن سياق صيرورة وليس ضمن دراسة الظاهرة في سكونيتها الزمنية. لذلك يعتبر الجهد الفكري والعلمي الذي قدمه الدكتور علي الوردي جهداً فريداً متميزاً ويحتاج إلى دراسة أشمل وأعمق في جميع مناحي حياة الجماعات والأفراد والمكونات في مجتمعاتنا العربية لتكوين علم اجتماع عربي يرتكز على التفكير العلمي ومناهج البحث العلمي.
ثبت بالمراجع:
1- www.marefa.org
2- www.eltwhed.com أوغست كونت سليمان الخراشي 30/11/2005
3- www.marefa.org علي الوردي
4- www.m.ahewar.org علي الوردي ونقد العقل البشري – ابراهيم الحيدري 24/7/2016
5- Mawdoo3.com حكم ارسطو سامر حمدان 22 يونيو / حزيران 2015
6- Ar.m.wikipedia.org ويليام جيمس 11 يناير كانون ثاني 1842 – 26 أغسطس 1910 فيلسوف الحرية
7- www.goodreads.com كتاب خوارق اللاشعور
8- www.arageek من هو سيجموند فرويد
9- Weziwezi.com موسوعة – مفهوم اللاشعور
10- www.3tralkatub.com كتاب خوارق اللاشعور علي الوردي 30 يناير2018
11- Mawdoo3.com ابن خلدون غادة الحلايقة 7 يونيو 2015
12- www.m.ahewar.org تأملات في رحلة معرفية – فالح عبد الجبار علي الوردي وعلم الاجتماع 14/7/2005
13- الوهابية binbaz.org.sa الإمام الباز
14- Al-akhbar.com هاشم ناجي – وثائق عن الوهابية يزن الحاج 6 شباط فبراير2015
15- www.feidh صورة المثقف عند علي الوردي د. رائد جبار كاظم 12/6/2017
16- المصدر السابق.