ضوء ينوس في الأفق
الحلقة تتسع وتضيق مع فصول السنة، وللجلسة في ليالي الشتاء متعة وجوّ خاص. نتحلّق حول الجد وهو يمسك ملقط الفحم يوزّع الجمرات حيناً، ويكوّمها حيناً أمام الموقد. ننصت باهتمام لحكاياته عن وضّاح اليماني، وعنترة، والعنيسي فاضل، يقصها بشكل محبب، نتابعه بشغف وفرح كبيرين على عكس حكايات جدتي عن الغول حيث ننكمش، ونلتصق ببعضنا خوفاً حتى نكاد نفقد الثقة بأنفسنا معتقدين ربما يكون مختبئاً خلف الباب يتنصّت علينا، ويراقب حركاتنا.
كنت في بداية سنتي الثالثة في المرحلة الابتدائية عندما بدأنا نتعلّم جدول الضرب، ونحلّ عمليات الحساب جمعاً وطرحاً وتقسيماً؛ لمّا روى تلك الليلة ذكرياته عن الحرب، ودخول الثوار إلى دمشق، ورفع العلم العربي في ساحة المرجة وهم يهزجون “وسّعوا المرجة ترى المرجة لِنا.. وسّعوا المرجة لتلعب خِيلنا…”. ثم مقارعة الاستعمار الفرنسي، والثورات ضدّه في أنحاء سوريا، والبطولات في الثورة السورية الكبرى التي عبّدت درب التحرير.
يومها كنّـا نتخيّل المعارك بخبرة الأطفال وبراءتهم كأنها ألعاب شرسة ليس غير. ننصت وهو يروي عن انقضاض الطائرات تقصف الثوار، أو تسقط قنابلها فوق المنازل، وعن المواجهات العنيفة مع جنود الاحتلال. حبب لنا الالتحاق بالجيش وبالنجوم اللامعة على أكتاف الضباط.. بمواجهة العدو لتحرير فلسطين، وبالشهادة من أجل تراب الوطن… باقتطاع اللقمة عن النفس لشراء بندقية أو مدفع أو طائرة. وعلى سجية طفل سألته: في حصّالتي حوالي ثمانية عشر فرنكاً، كنت أظنها مبلغاً كبيراً، كم بندقية تشتري؟ وكم نحتاج لشراء طائرة؟ ضحك.. ضمّني وقبّل جبيني.. قال: كل ما في حصّالات القرية، وما تنتج من ثمار وحبوب لا تشتري طائرة قديمة. فوجئت بذلك.. صمتُّ، ولم أنسَ…
لم يعد الصغار صغاراً.. كبروا.. صاروا رجالاً.. عاشوا مأساة الحرب، وعرفوا نتائجها المدمرة للإنسان وللبيئة. كره بعضهم كل ما يمتّ لها.. البنادق، والمدافع، والطائرات، والنجوم اللامعة.. لعنوها ولعنوا مثيريها ومَنْ خلفهم.. نبذوا كل ما يتصل بها، وركب بعضهم دباباتها، وحلّقوا بطائراتها دون أن يفكروا أو يهتموا بحق الآخرين في حياة كريمة آمنة وعيشة هانئة لا يعكر صفوها صقور النجوم اللامعة وشركات المال وخبث السياسة.
سألني ولدي وهو في ربيعه الخامس عشر: كم يبلغ ثمن دبابة أو طائرة؟ أعادني لأيام الطفولة وبراءتها، تذكرت سؤالي للجد.. إنها الحياة تتجدد وتتفاعل عبر مسيرة الإنسانية. ربّت على كتفه.. قلت: أتدري أن ثمن طائرة حربية متطورة يقارب نصف مليار دولار؟ ويقال إن طائرة “B-2” الأمريكية يتجاوز سعرها ملياري دولار.. التقط حاسبته الصغيرة.. نقر على أزرارها.. ابتسم..
– ماذا تفعل؟
– إذا كانت خمسة الدولارات تكفي لإطعام إنسان فهي تطعم أربعمئة مليون شخص يوماً واحداً، فكيف إذا جمعنا الطائرات كلها.
– يا ولدي، إن ما تصرفه شركات الأسلحة يومياً على ما يمكن أن يفني البشرية كافة، ويدمر الكرة الأرضية يكفي لإطعام الناس جميعاً، ولا ينام أيُّ إنسان جائعاً على سطح كوكبنا، ولو توقفت هذه الشركات عن تصنيع أدوات إزهاق الأرواح لعاش العالم في إخاء وأمان وسلام دائم.
– وهل يمكن أن يحصل هذا يوماً ما؟
– ولِمَ لا؟
– ألا ترى وتسمع ما يدور حولنا من صدامات ونزاعات؟
– بلى…، وتذكّر أن حركة السلام تقوى، والمطالبة بالحقوق الإنسانية تزداد منظماتها الداعية إلى التسامح والإخاء.
– وهل تستطيع تحقيق رؤاها؟
– حركة التاريخ لا تقاس ببضع سنوات أو عقود.
– هل تثق أن عالمنا سيتغيّر؟
– نعم، تفاءل، فالعالم ملّ من سفك الدماء، ويسير باتجاه السلام رغم ما تشاهده من عنف، فاشتداد الأزمة بداية انفراجها.
– متى…؟
– تذكر أن حالك الظلمة دليل اقتراب الفجر.