ربّ أخٍ..!
دارت عجلة الزمن، وكرّت الأيام سراعاً، وفي خضم مجرى مسيرة الحياة، نهرها يجمّع ويفرّق. عرفته في بلاد الاغتراب بمناسبة غير سارة، جمعنا القدر في تأبين صديق عزيز. شاب غيور، مرهف الإحساس، صادق، مقبل على الحياة، إنسان بما تحمل الكلمة من معاني الإنسانية: نخوة وشهامة.
تكرر اللقاء، وتحوّل صداقة تمتّنت عراها، وتغذت خبز محبة، ونمّاها الوفاء والإيثار.
رنّ الجرس، كأني في حلم، رنّ ثانية، استيقظت.. فركت عيني ونهضت متثاقلاً، وضعت النظارة على أرنبة أنفي واتجهت إلى الباب، تُرى مَن القادم؟ عسى أن يكون خيراً. فتحت.. أهلاً أحمد*، تفضّل.. وفسحت له الطريق.. كيف حالك؟ بخير …
– جلس.. أشعل سيجارة.. نفث دخانها… ما بكَ أخي؟ أرى في عينيك تساؤلاً، وأشتمُّ رائحة خبر.. قل.. أخبرني هل هناك ما يقلق؟ كيف حال العائلة والأولاد؟
– الجميع بخير، اجلس أولاً، أرجو أن تنادي أختي أم صخر، هناك أمر سأبحثه معكما.
– خير إن شاء الله، سمعتْنا.. قالت: دقيقة لو سمحت، وجاءت تحمل القهوة.
– آ.. هاتِ ما عندك
– باختصار، أنتما متزوجان منذ ثماني سنوات ونيّف ولم يطعمكما الله ولداً، وأختكما أم سليمان الآن في المستشفى، وهي بخير، وقد ولدت صبياً…
– الحمد لله على سلامتهما.
– اسمعاني.. اتفقنا معاً، وهي ما تزال في أواخر الشهر الرابع من الحمل أن نهديكما الجنين الذي تحمله عن رضاً كامل منّا، وأرجو أن تقبلا هديتنا، وتذهبا معي إلى المستشفى لتسجلاه رسمياً على اسميكما، وهو حتى الآن لا يزال بدون اسم، والوقت ضيّق.. هيّا أسرعا…
– كانت المفاجأة صادمة.. بُهتنا.. ما سمعته عَقَدَ لساني.. نظرتُ في عيني زوجتي بدتا تشعان حيرة وتساؤلاً. أيّ كرم!، وأيّ إيثار ومحبة خالصة من زوجين صديقين عرفت فيهما النبل والكرم، وطيب المعشر وحسن اللقاء!، وهل هناك أصدق وفاء، وأعظم إيثاراً من هذا؟! لحظة لم تطل.. تمالكت نفسي.. ماذا أقول؟ وكيف لي أن أرد جميلهما؟
– شاهد أثر كلماته ترتسم على وجهينا، قال: هيّا لا تتأخرا…
– أخي! صدقاً.. أعلمُ أن غاية الكرم بذل ما في اليد؛ لكنّ أعظمه على الإطلاق أن يجود المرء بحشاشته… لإيثاركما تنحني هامتانا إجلالاً، لقد أحطتما عنقينا بعقد كرم ووفاء لا قدرة لنا على خلعه طوال حياتنا. ابنكما ليس غريباً عنّا – جعله الله من أبناء السلامة البررة بالأهل والأصدقاء – ولساني لا يستطيع التعبير عمّا أحسّه الآن.. إنّ هديتكما عظيمة جداً، ونحن عاجزان عن ردّ الجميل، أولادكما أولاد لنا، والحبيب القادم تواً ولدنا، وهديتكما مقبولة؛ لكننا لا نستطيع تنفيذ رغبتكما، ولا ردّ جميلكما في مستقبل الأيام، ونحن لم نفقد الأمل بكرم الله وعطائه، وكل التحاليل المخبرية لكلينا جيدة، وكبير أطباء كلية الطب وغيره أكدوا ذلك. سنذهب معاً لنطمئن على صحة أختنا ووليدها، وأرجو أن تتقبل عذرنا؛ لأننا نؤمن أنكما أولى به، وعسى أن نستطيع الوفاء لكما يوماً.
– بعد سنة عدت إلى الوطن، ومنّ الله علينا، وأنجبنا ولدين. وكبر الهدية بين أشقائه، وتخرجوا في الجامعات، ثم رجع أحمد بعد سنوات ليستقر بين الأهل؛ لكن الأحداث تفجّرت، والأحوال تأزّمت، ولعلع الرصاص في الأرجاء، وهدرت الدبابات، وضجّت الطائرات، وتمزّقت الأحياء، وتكوّمت البيوت أنقاضاً فوق جثث أصحابها، وسعيد الحظ مَن بقي على قيد الحياة سالماً، وتشتّت الناس في أرض الله الواسعة نزوحاً، ولجوءاً، وهجرة.. وتقطّعت السبل بيننا، وانقطعت أخباره …
– وفي هذا الفضاء الأزرق، وبفضل تطور تكنولوجيا الاتصال الحديثة – أصبح العالم قرية حقاً – جاءني طلب صداقة من ابنه البكر، فزغردت المفاجأة فرحاً.. راسلته.. أخبرني أن الأسرة كلها بخير.. اطمأنيت.. وهدأت حيرة السؤال؛ لكنها ككثير من الأسر تفرّق أفرادها وتشتّتت في أنحاء دول أوربا (هولندا، أوكرانيا، السويد)، وفي العربية السعودية…
– تواصلنا عبر الفضاء الأزرق من خلال الرسائل الإلكترونية آملين بلمّ الشمل ثانية، وبفرج قريب، وما زلنا ننتظر..
أحمد: أخي وصديقي أبو سليمان (أحمد سليمان الخاربوطلي) – سوريا – حربنفسة، الذي لم يسعفني القدر أن ألتقيه بعد طول غياب إذ اختطفه الموت صبيحة الأحد 24/10/2021 إثر مرض عضال (رحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى).