دراسة في أسباب مأزق الحركة السياسية الكردية القومية، وطبيعة المخرج الوطني السوري (1-4)
الحوار الكردي – الكردي هو المعركة الحقيقية للكرد السوريين في هذه المرحلة الراهنة، ومخطئ من يظن أن إنجاز هذا الحوار سيكون بدون ثمن.
ميداس ازيزي – عضو اللقاء الديمقراطي
تساؤلات عديدة أحاول الإجابة عليها في سياق البحث عن أسباب مأزق الحركة السياسية القومية الكردية:
مَن هي أطراف الحوار الكردي/الكردي الرئيسية؟ ما هي قضايا الخلاف والحوار والاتفاق الممكنة؟ ما هي أبرز دوافع الحوار الراهنة في مصالح القوى والتيارات التي تجعل من الحوار قضيتها الرئيسية، وما هي الجدوى العملية؟ ما هو الجديد الذي يجعل إمكانيات نجاح الحوار واقعا، بخلاف الأمسين، القريب والبعيد؟! ما هو الثمن الذي يمكن أن تدفعه أطراف الحوار الكردي المختلفة، ولِمَن؟ ما هي طبيعة مأزق الحركة السياسية القومية الكردية في ضوء تأثير العلاقات الإقليمية لأطراف الحوار- عراقيا وتركيا؟ واين يظهر الدور الأمريكي، وما هي طبيعته؟
أولاً: بداية، أود الحديث عن نقطتين، آملاً أن يوضحا الهدف والدافع الشخصي، الوطني والديمقراطي والإنساني، من تقديم هذه الدراسة:
1- شخصياً، أعتقد أن بناء دولة سورية ديمقراطية موحدة، تراكم مقومات الاستمرار والمنافسة الحضارية وتقيم علاقات حسن جوار وسلام على قواعد المصالح المتبادلة لا يمكن أن تقوم إلا على أرضية تحقيق العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات لجميع السوريين دون استثناء، وبالتالي يجب أن يضمن الدستور، وفي الممارسة السياسية لمؤسسات الدولة حقوق المواطنة المتساوية، والتأكيد على الحقوق القومية المتساوية للجميع، دون تمييز.
هذا يعني، وفقا لدروس تجارب القرن الماضي، أن حصول السوريين على حقوقهم المشروعة كاملة، القومية والإنسانية – المرتبطة بحقوق الإنسان – والديمقراطية والدينية، لا يمكن أن تتحقق إلا في سياق وطني ديمقراطي، يتكاتف فيه جهد السوريين وعملهم المشترك لبناء صيرورة التغيير الديمقراطي، على خارطة طريق، تبدأ بخطوة الانتقال السياسي.
2- إن الأطروحة الرئيسية التي أحاول التأكيد على موضوعيتها، آملاً الاستفادة من نتائج التحليل وما يصل إليه من استنتاجات في خدمة قضية السوريين المشتركة الأساسية، الانتقال السياسي والتحول الديمقراطي، هي أن الأسباب الأساسية للمأزق السياسي الذي تعيشه نخب الأحزاب والتيارات السياسية السورية طوال مراحل ما بعد الاستقلال السياسي، بما فيها الكردية، تكمن في تغليبها على صُعد الوعي السياسي والثقافي والممارسة والعلاقات، أهداف المشروع السياسي الخاص، اللاوطني ديمقراطي – القومي العربي أو الكردي، الاشتراكي، الشيوعي الإسلامي – السني – وأخيراً، الليبرالي، وما يُعطيه من أولوية في النضال السياسي للوصول إلى السلطة، لعلاقات إقليمية ودولية، تبحث عن الداعم والعراب، وتصل، في سياسات أصحاب مشاريع السيطرة الإقليمية المقابلة، الباحثة عن أدوات محلية لتحقيق مصالحها، إلى درجات الارتهان لأجندات الخارج، الآخر، ليس فقط الغير معني بتحقيق شروط المشروع الوطني الديمقراطي السوري، بل والذي تتناقض اهداف وسياسات مشروع سيطرته الإقليمية والسورية معها، ولا تتحقق إلا في مواجهتها. هنا جوهر المعضلة، في التناقض بين الأهداف، وأدوات تحقيقها!!
ضمن هذا السياق السوري العام، ظهرت وتبلورت نخب التيارات السياسية الكردية، ولم تستطع تجاوز أمراض العقلية والسلوك، في التركيز على الخاص في الوعي، والتشبيك مع المراكز الاقوى في تركيا والعراق، على صعيد السلوك السياسي، على حساب العام السوري، المرتبط بأهداف مشروع الانتقال السياسي والتحول الديمقراطي، كخطوات رئيسية في سياق صيرورة بناء مقومات الدولة السورية الديمقراطية الموحدة[1].
بناء عليه، يبدو واضحا أن ما تواجهه تلك التكتلات السياسية النخبوية، السورية والكردية، من تحديات على صعيد انقسام الصفوف وتفتيت الجهود وصعوبات قيام حوارات مجدية وضعف وزنها السياسي والشعبي، لا يعدو كونه بعض تمظهرات المأزق وأن الحوارات الحقيقية التي يمكن أن توحد الصف الوطني السوري والقومي الكردي لايمكن أن تقوم خارج سياق، وعلى أرضية الهم الوطني السوري الديمقراطي، بما يؤكد على موجبات وضرورات تصحيح اتجاه البوصلة السياسية، عبر إعطاء الأولوية للخَيار الديمقراطي السوري، لما يتضمنه من فرص وإمكانيات حقيقية، ويوفره من أفضل البيئات السياسية لضمان كامل حقوق الكرد القومية المشروعة على أرضية المساواة، وفي إطار الدولة الديمقراطية الموحدة جيو سياسياً وديمغرافياً – الوطن النهائي لجميع السوريين.
في ضوء هذه القراءة، تتضح أسباب معارضتي الشخصية، الوطنية والديمقراطية، لمشروع قسد السياسي الحالي، إقليم شمال وشرق سوريا كما كانت لمشروع روجا آفا (وبالطبع الكانتونات الموازية في حكومات سلطات الأمر الواقع – المؤقتة والإنقاذية والشرعية).
أعتقد جازماً أن العامل الرئيسي الذي يجب أن يحدد رؤية وموقف أصحاب المشروع الوطني الديمقراطي السوري (المعارضة الوطنية الديمقراطية الثورية) هو طبيعة عوامل السياق السياسي التي أتت فيه جهود وأهداف بناء تلك الكيانات، وهي عوامل سياق تقدم مسارات صيرورة هزيمة حراك السوريين السلمي الديمقراطي خلال 2011، وقطع صيرورته ثورة ديمقراطية كاملة، بجميع أدوات وأذرع ميليشيات قوى الثورة المضادة للتغيير الديمقراطي وجيوش الاحتلال الأجنبي. على أية حال، هذه التجربة ذاتها، صيرورة الهزيمة وتفشيل مقومات الدولة الوطنية السورية التي بُني كيان قسد في سياقها، تبين أنه يمكن أن تتحقق أهداف الكرد القومية المشروعة في إطار إقليم جغرافي- متنوع، ديمغرافياً، على شاملة كيان قسد الراهن، أو على مستوى أدنى، كمنطقة حكم ذاتي محلي، على غرار روج آفا، لكن، بالطبع في إطار صيرورة مشروع وطني ديمقراطي سوري، يعمل في سياقه جميع السوريين على بناء مؤسسات الدولة الديمقراطية، ويبدأ بخطوة الانتقال السياسي، وخارطة طريق إعادة توحيد النظام السوري ومؤسسات الدولة السورية، وخروج جميع الميليشيات الغير سورية، وقوى الاحتلال، وفي إطار دولة ديمقراطية، يتم التوافق على آليات مركزيتها أو لامركزيتها، وجميع القضايا الوطنية والقومية الخلافية التي نتجت عن سيطرة حكومات لا ديمقراطية، مع الشركاء السوريين، وفي سياق بناء المشروع، وعبر هيئات ومؤسسات الدولة السورية الديمقراطي الموحدة.[2]
لتأكيد موضوعية تشخيص طبيعة المأزق، وبالتالي الطريق الصحيح لمواجهة نتائجه، ومعالجة أسبابه، بما يصب في خدمة مصالح الكرد الخاصة، والسوريين المشتركة، في إطار دولة ديمقراطية موحدة، من الضروري التذكير بأبرز عوامل السياق التاريخي المرتبطة موضوعياً بسياسيات أصحاب مشاريع السيطرة الإقليمية ومرتكزاتهم المحلية، السورية والعراقية، بشكل خاص، إلى جانب العوامل الذاتية، المرتبطة بطبيعة وعي وثقافة ومصالح النخب السياسية، والتي ساهمت في ترابطها في صناعة أسباب المأزق، بما يساعدنا أيضا على رؤية طرق وحلول موضوعية لخروج جميع السوريين من دوائر المأزق!.
[1]– في 14 حزيران (يونيو) من عام 1957، وفي حيثيات وسياقات انتشار موجات التمدد القومي العربي والسوري في مواجهة تحديات ديمقراطية كان تقتضي المصالح العليا لشعوب ودول المنطقة وضعها في رأس قائمة أولويات العمل السياسي الوطني والقوم، بادرت مجموعة من المثقفين والسياسيين الكرد (أوصمان صبري، حمزة نويران، عبد الحميد درويش، رشيد حمو – شوكت حنان – خليل محمد- محمد علي خوجة، شيخ محمد عيسى) إلى تأسيس أول حزب كردي سوري، باسم الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا، تيمنا بالحزب العراقي/البرزاني، الشقيق.
لقد استطاع الحزب الوليد أن يستقطب سريعاً جماهير واسعة بين السوريين الكرد، خاصة في مناطق توزعهم الجغرافي في حلب ودمشق وعفرين إضافة إلى الجزيرة وكوباني، ثم تتالت عليه طلبات الانضمام من قبل مجموعات سياسية وثقافية كاتحاد الديمقراطيين الشباب الكرد في سوريا، والذي تأسس بداية الخمسينيات، وطالب حينها بـ توحيد الكرد وكردستان، كما انضم حزب الحرية الذي تأسس في العام 1958 بعد انشقاق أعضائه عن الحزب الشيوعي السوري، ومنهم الشاعر المعروف جكر خوين، إثر رفض الحزب الشيوعي إصدار بيانات الحزب باللغة الكردية وعدم إبداء الرغبة في الدفاع عن حقوق الكرد، بحسب بحث منشور في موقع كورد ووتش.
تضمن برنامج الحزب الديمقراطي الكردي 11 مادة، دون أن تتقدمها شروح أو تفاصيل أو سرديات تاريخية أو اجتماعية أو سياسية لوضع الكرد في سوريا، وركز على هدف حماية الكرد من الأخطاء الممارسة بحقهم ومن القمع والاندثار، كما اعتبر نفسه حزباً تقدمياً محباً للحرية ويسعى لتطبيق الديمقراطية الشعبية في وطنه سوريا، والكفاح ضد الاستغلال الإمبريالي، والمطالبة بحقوق الكرد السياسية والاجتماعية والثقافية داخل الدولة السورية في مناطق الجزيرة وكوباني وعفرين، والوقوف إلى جانب نضال الكرد في تركيا والعراق وإيران وكل الشعوب المقموعة لتحرير بلدانها.
تصدرت لجنته المركزية بأعضائها العشرة المشهد السياسي المحلي قبل أن تظهر سريعا أعراض مأزق تيارات القومية العربية، التي أدت عام 1959 إلى تغير برنامج الحزب السياسي، ليطالب بـ كردستان موحدة ومستقلة، كما تم تعديل اسم الحزب إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني في سوريا.
يقول نوري بريمو (عضو اللجنة المركزية للحزب الديمقراطي الكردستاني – سوريا)
… وفي عام 1958م أي بعد مرور أقل من عام، قام البارتي بعقد مؤتمر مصغر أو بالأحرى اجتماع موسع لمناقشة أوضاع الحزب وللبحث عن كيفيات تطويره، وانتهى المؤتمر بنجاح وجرى اختيار لجنة مركزية وتم انتخاب المرحوم الدكتور نورالدين ظاظا لمنصب السكرتير العام للبارتي… وخرج المجتمعون بمعنويات نضالية عالية وبإصرار وصلابة على مواصلة النضال تحت شعار (تحرير وتوحيد كوردستان).. ومنذ يوم التأسيس ارتبط اسم حزبنا البارتي بالنضال الكردايتي وباسم البارزاني الخالد الذي كان وسيبقى رمزاً وطنياً كردستانياً أنار وينير دروب النضال التحرري، فتشكل منذ ذلك الحين مثلث عقائدي حزبي وسياسي مترابط وهو (البارتي – الكردايتي – البارزاني).
في أبرز المحطات اللاحقة، تُعتبر الانتخابات البرلمانية في 5 أيلول 1961 ونهاية عهد الوحدة بين سوريا ومصر من الأحداث المفصلية في تاريخ الحزب الكردي، وقد أدت حملت اعتقالات طالت أعضاء من اللجنة المركزية – أوصمان صبري ونور الدين ظاظا ورشيد حمو-إلى ظهور خلافات سياسية عميقة بين الأعضاء المؤسسين، وفق مذكرات الكاتب والشاعر الكردي، ملا أحمد نامي، تبلورت لاحقا، في انقسام الحزب عام 1963 إلى حزبين، أولهما باسم الحزب الديموقراطي السوري (اليساري)، بقيادة صلاح بدر الدين وثانيهما الحزب الديمقراطي التقدمي الكردي، بقيادة فيصل يوسف، وبقي الصراع محتدما بين نخب الحزبين المذكورين، إلى لحظة ظهور تغيرات في العامل الخارجي الحَاكِمْ لرؤى وسلوك النخب السياسية السورية، وكان لتوقيع بيان 11 آذار 1970 بين الحكومة القومية البعثية العراقية(الصدامية) وقيادة الحركة الكردية (البرزانية) في شمال العراق،(الذي يتنازع السيطرة عليه القوميون العراقيون، ويُستخدم كورقة ضغط في صراعات أصحاب مشاريع السيطرة الإقليمية؛ وقد اضطرت الحكومة العراقية، بعد حروب طويلة، تحالفت خلالها بعض القوى الكردية مع الحكومة المركزية، وذهب ضحيتها عشرات ألوف العراقيين، وفي مقدمتهم الكرد، للاعتراف بحكم ذاتي لن يأتي بالسلام والأمن للعراقيين، طالما ترتبط دوافع الصراع الحقيقية بمصالح النخب، وسعيها للهيمنة، بجميع الوسائل، حتى عندما تتجاوز المصالح الخاصة سقف المشروع الوطني الديمقراطي العراقي، وتؤدي إلى تقسيم العراق، وتدمير مقومات السيادة.
في محطات تالية في صيروة الحزب الديمقراطي الكردستاني – سوريا اللاحقة ما حصل في حزيران من عام 1972، حين تلقت المجموعات المتصارعة على قيادة الحزب رسالة من الراحل الملا مصطفى البارزاني لاستضافتهم في كردستان العراق، في إطار مسعى الأخ الكبير لاحتضان نخب الحركة الكردستانية!.
في هذه الحيثيات والشروط، بدؤوا بالإعداد للمؤتمر الوطني لأكراد سوريا الذي انعقد تحت رعاية الملا مصطفى البارزاني في قصبة «آخ دايى» في منطقة عفرين. وتم فيه اقرار المنهاج والنظام الداخلي للحزب، وانتخاب قيادة مرحلية (يكيتي) للحزب الديموقراطي الكردستاني – سوريا.
ومع اندلاع الثورة السورية المتحولة حاليا إلى أزمة عالقة، بادر البارتي وساهم في تشكيل المجلس الوطني الكوردي في سوريا من خلال عقد مؤتمر وطني كوردي في القامشلي بتاريخ 2011/10/26، وفيما بعد قام بالمساهمة بتأسيس الاتحاد السياسي الكردي وبعقد مؤتمر توحيدي في هولير عاصمة اقليم كردستان وبرعاية كريمة في فخامة الرئيس مسعود بارزاني، وانبثق عنه حزبنا (الحزب الديمقراطي الكوردستاني – سوريا) في أوائل نيسان عام 2014، وذلك بعد أن تم حل الأحزاب الأربعة التي أسست الاتحاد السياسي وهي (البارتي) و(آزادي) و(يكيتي الكردستاني) وذلك بعد انعقاد اجتماعات متتالية ومسؤولة على مدار حوالي سنة أثمر عنها أكبر حزب جماهيري في ساحة كردستان سوريا وقد بلغت أعداد منتسبيه ومناصريه عشرات الآلاف ولا تخلو أية منطقة كوردية أو بلد مهجر من تواجد نشط ومكثف لتنظيمات (pdks)، ونستطيع أن نقول بأن هذا الحزب الجماهيري خاض ويخوض نضالاً قومياً مريراً عبر العقود وتعدد الأجيال، وهو الآن يشارك بقوة في المجلس الوطني الكردي. (نوري بريمو)
في نفس ظروف عوامل السياق الخارجية الحاكمة، اختتم الحزب الديمقراطي الكوردستاني – سوريا (أكبر الأحزاب المشاركة والفاعلة في المجلس الوطني الكردي المتساوقة أجندات قواه مع أجندات تركيا، اهم الحلفاء الإقليميين للقيادة البرزانية في هولير) أعمال مؤتمره الثاني عشر، الإثنين 12 حزيران (يونيو) 2023، بانتخاب أعضاء اللجنة المركزية البالغ عددهم 26 عضواً.
وكانت قد بدأت أنشطة المؤتمر يوم السبت 10 حزيران (يونيو) 2023، وبحضور الرئيس مسعود بارزاني، وبحضور 220 عضواً، بينهم أعضاء من مناطق الجزيرة وكوباني وعفرين في روج آفا، إضافة إلى أعضاء من مدينتي دمشق وحلب السوريتين، وممثلين عن اللاجئين من تركيا ودول أوروبية.
[2]– من المؤسف أن يعمل طيف واسع من نخب الوعي السياسي السوري المعارض، (خاصة التيارات السياسية والشخصيات النخبوية اليسارية التي انخرطت في مشروع تأهيل سلطة قسد، من خلال مشاركتها في تصنيع وتعويم مسد، وفي جهود بناء ما يسمى جسد سوري سياسي ديمقراطي رديف، بدعم أوروبي، أمريكي)، على تغييب طبيعة مشروع التسوية السياسية الأمريكية، ووقائع تقدم خطوات مساراتها في سوريا، وطبيعة عوامل سياقها وأهدافها ونتائجها، وذلك في سياسات ومصالح السيطرة الجيوسياسية الأمريكية التي باتت ترتبط في هذه المرحلة من التسوية السياسية منذ نهاية 2019 بسعي واشنطن الحثيث لتوفير شروط حماية دائمة لما بات قاعدة ارتكاز في مناطق شمال وشرق سوريا، في سياق مشروع تطبيع إقليمي شامل.
تساؤلات تطرح نفسها:
1- ما هي طبيعة معادلة التسوية السياسية الأمريكية في سوريا؟
الترابط الجدلي لشروط بقاء وشرعنة وجود سلطة قسد مع شروط بقاء سلطة النظام وتعزيز شرعيتها، وذلك من خلال تزامن وتساوق خطوات وإجراءات إعادة تأهيلهما في سياق تسوية سياسية ثنائية، تتجاهل بشكل خاص مصالح تركيا وإسرائيل والسعودية ذات الصلة بقضية التسوية السياسية السورية والتطبيع الإقليمي.
بمعنى، ترابط شروط بقاء سلطة قسد، مع شروط بقاء سلطة النظام وإعادة تأهيلهما في سياق تسوية سياسية، هي معادلة التسوية السياسية الأمريكية في سوريا، وهي التي تتجاهل نخب المعارضات السورية اليسارية طرفها الثاني، في حرصها على عدم خسارة ما حصلت عليه من شرعية في معارضة نظام غير ديمقراطي، واستمرار ركوب موجة معارضة سلطة النظام السوري الراهنة!.
2- ما هي دوافع تجاهل مشروع التسوية السياسية الأمريكية في سياسات وثقافة نخب المعارضات اليسارية؟
لأن سلوكها وثقافتها الداعمة لجهود تأهيل قسد كسلطة أمر واقع ميليشاوية ترتبط بشبكة واسعة من علاقات التخادم مع سلطة النظام السوري، ويترابط مصيرها في غياب حل سياسي سوري، تتناقض مع تراثها النضالي الديمقراطي المناهض لسلطة النظام السوري ومع ما تدعيه من استمراره ليس فقط لكون سلطة قسد أحد اذرع الثورة المضادة الميليشياوية، وقوى الخَيار العسكري، بل، والأخطر من ذلك، لأن تأهيل قسد يترابط ويتساوق مع إعادة تأهيل النظام السوري، بما يجعل من دعم جهود تأهيل قسد يصب في تيار مسار وجهود إعادة تأهيل سلطة النظام السوري ذاتها، التي دفعوا اثمان معارضتها، وما زالوا يدعون ذلك!!
لتأكيد موضوعية الاستنتاج، لنحاول الربط بين الوقائع التالية:
أ- إن النتيجة الرئيسية لتدخل جيوش حلف الولايات المتحدة العسكري المباشر خلال صيف 2014، (بموازاة تدخل روسي مُنسق خلال 2015) وما خاضته الجيوش من معارك مباشرة، أو غير مباشرة، بأذرع وأدواتها السورية التي انضوت في تحالف ميليشيات قسد أو تحالف الميليشيات الإيرانية، لم تكن فقط هزيمة داعش نهاية 2019 ولا فقط تمكين مشروع قسد، على صعيد السيطرة الجيوسياسية السورية، بل، والأهم من ذلك، بإعادة تمكين سلطة النظام السوري جيو سياسياً!.
ب- إن الجهد الأمريكي الرئيسي بعد 2019، قد تمحور حول دعم جهود تأهيل سلطة قسد، وتحويل كانتون السيطرة الجيوسياسية لسلطة أمر واقع ميليشاوية إلى إقليم شمال وشرق سوريا الديمقراطي، وإضفاء على سلطته ونظامها المشروعية السورية والإقليمية والدولية.
ت- في سياق تأهيل قسد، ومن أجل توفير شروط حماية دائمة للكيان الجديد، أدركت واشنطن أن توفير شروط حماية سورية مستدامة للكانتون القسدي وإعطاءه الشرعية السورية لم يكن ليحصل ألا في سياقين مترابطين جدليا، متناقضين من حيث المسارات:
تجاهل مشروع تسوية مسار جنيف، ووأد ما طرحه من خارطة طريق انتقال سياسي وتحول ديمقراطي، وحتى ما بات عليه في نشاط ومخرجات اللجنة الدستورية، والدفع بجهود وإجراءات تأهيل سلطة قسد مع إجراءات إعادة تأهيل سلطة النظام السوري في سياق سياسي واحد هو سياق التسوية السياسية الأمريكية، ووفقا لخارطة طريق RAND الأمريكية!.
أخيراً، يؤكد موضوعية تلك الوقائع والاستنتاجات السابقة وقائع عدم فاعلية أوراق الضغط الأمريكية ضد حكومة النظام، وما واجهته سياسات وإجراءات تزامن وتساوق خطوات تأهيل قسد مع خطوات وإجراءات إعادة تأهيل سلطة النظام السوري، (رغم ما حصل خلال 2022-2024 من تسارع وانجاز خطوات نوعية، على الصعيدين الداخلي والإقليمي) من عقبات، تجسدت في استمرار الهجمات الإسرائيلية على مناطق السيطرة الإيرانية، واستمرار هجمات النظام التركي على مناطق قسد، واستمرار التعطيل السعودي لخطوة التطبيع مع إسرائيل، وذلك نتيجة لما تتضمنه من اعتراف غير مباشر بأشكال وأدوات السيطرة الإيرانية، وتجاهلها لمصالح النظام التركي، وموجبات الأمن القومي الإسرائيلي ومصالح النظام السعودي، المتناقضة بمجملها مع آليات السيطرة الإيرانية في سوريا…ولبنان وفلسطين؛ ولولا أولويات حماية قسد، في ترابطها مع إعادة التأهيل السياسي والاقتصادي لسلطة لنظام السوري الشرعية، لكان من الأفضل لخدمة مصالح واشنطن الإقليمية الوصول إلى تفاهمات سياسية شاملة مع تركيا والسعودية وروسيا و(إسرائيل)، عبر مخرجات اللجنة الدستورية!.
جزيل الشكر والتقدير والاحترام.