خيالات ممزقة
ذاكرتي ممسوحة عن الصف الأول والثاني الابتدائي لا أذكر من هذين الصفّين سوى خيالات ممزقة من الصعب جمعها ودرزها لتصبح حكاية تُروى، فالذكريات لا تهرب منا الا إذا كانت مملة!
على اسم المجاهد الادلبي ابراهيم هنانو، كانت مدرستي الابتدائية، آنذاك، ملاصقةً للمخبز الحكومي الكبير الذي أطلقوا عليه “فرن الذرة”(!؟).
درّسني لعامين متتالين المدرّس نهاد معلم أبو رائد، ذاكرتي تصف أنه غامق البشرة، غائر العينين، جلد وجهه ملتصق بعظامه. أصدقكم القول، لا أدري ان كانت هي سحنته فعلا أم اِن خيالي رسم له هذه الصورة المخيفة، فليس في ذاكرتي أي صورة للمعلم يبتسم فيها! وكم فرحت حين مات قبل أن يبدأ العام الدراسي للصف الثالث فقد كنت أخاف أن يدرّسنا للسنة الثالثة على التوالي، حتى أني، رغم صعوبة المشي بسبب اعاقتي في رجليّ، آنذاك، ذهبت مرتين الى عزائه في بيته، مقابل باب مدرسة المتنبي، أقف قريبا لأتأكد أنه الميت!!
جنزيرة أبو رائد المصنوعة من النيكل طولها نحو 40 سم، ينتهي طرفاها بحلقتين، ليس في أي منهما مفاتيح، لا تفارق يده، دائم التلويح بها حول سبابته اليمنى، تسليه، وله فيها مأربا آخر كريهاً، فقد كانت أداته “التربوية” يضرب الأطفال بها على رؤوسهم ورقابهم ان اضطره داعٍ!
في ذلك اليوم من أواخر أيام الصيف، ولم يك مضى على دخولي المدرسة أسبوعا أو أسبوعان، أرسلتْ أشعة الشمس عبر النافذة شعاعا خفيفا داعب جفوني فتسلل وسن خفيف الى عينيَّ بدأ يُخدِّر جسدي رويداً رويداً، فثقل رأسي على رقبتي لينحني نحو الأمام ثم ليدركه اللاوعي فيشد رقبتي الى الخلف، حتى لا يسقط على دكة المقعد وأغرق في نوم عميق.
لم تُخلق بعد جملة في لغات الأرض تمنح كاتباً قدرةً على وصف حقيقة اللذة التي خلفها في نفسي أثر مداعبة شعاع الشمس اللطيف جفوني، آنذاك، فقد أخذني الوسن في عالم ساحرٍ أعجز عن وصف كنهه ومنتهاه، بينما كانت لا تزال يدايّ مُكتّفتين الى صدري كما كان يأمرنا مدرّسنا ولا نفردهما الا بأمره! وبمفاجأة كالصاعقة جاءتني ضربة جنزيرة أبو رائد التفت على رقبتي وأصابت الحلقة التي في نهايتها جزءا من صيوان أذني! فهرب الوسن، وانتفض جسدي كأنما لدغتني موجة كهربائية وقف لها شعر رأسي واصطكت أسناني، واحتارت يداي أيهما تفرك أكثر رقبتي أم صيوان أذني، لم أبك! لكني ارتجفت كأني عار وسط عاصفة من رمال من ثلج! بشق النفس انتظرت نهاية اليوم الدراسي، حتى ألتقي والدي وأبثه شكواي، وهل في الدنيا سواه يحميني ويثأر لي من هذا الوحش؟!
حينما وصلت دكان والدي كانت الشمس قد اختبأت خلف بيوت الحيّ، ربما خجلة مما سببته لي من أذى! وكان مذياع دكانه يصدح بأغنية نجاح سلام: “رقة حسنك وسمارك.. تقوليلي جايبة منين خفة دمك ودلالك.. والمعنى برموش العين.. يا محلى الروح يا سمرة”. حينما تلاقت عينيّ بعينيه انفجرت باكياً أجهش بحرقة مع كل جملة تشرح مصيبتي. لم ينطق بكلمة. كان هادئا ربما لا يزال غارقا في سحر الأغنية!
في صباح اليوم التالي وجدت والدي ينتظرني على باب المدرسة، فقد كان من عادته أن يستيقظ مع الفجر يصلي ويذهب لتسوّق الخضار والفاكهة والأجبان والألبان من سوق الهال، وقبل السابعة يفتح دكانه. كم انتشيت به فرِحا حين مسكني من يدي ودخلت معه غرفة الادارة، وكان المدرسون جالسين على أرائك تلتف مع جدران الغرفة، من بينهم مدير المدرسة المرحوم خالد ياسين وكذلك أبو رائد معلم، الذي لا تزال يده تلعب بجنزيرة المفاتيح.
سلم والدي عليهم، وردوا سلامه بجو من الوّد المتبادل، وأنا بينهم مزهواً كفارس على جواده وعقلي يحدثني أن ثأري سيكون عظيماً! وقف والدي في منتصف الحجرة وخطب فيهم قائلا: “هذا ولدي البكر غسان أعطيكم اياه لحماً وعظماً، اللحم لكم والعظم لي، أتمنى أن تجتهدوا في تربيته وتعليمه”!
غاب وعييّ! أحسست أني أسقط الى قاع لا نهاية له! تمنيت أن أختفي بين طيات المراتب، خلف اللوحات المعلقة على جدران الغرفة، في جيب أي من الجالسين، فراشةٌ أُصَيَّرُ وأخرج من فتحة الشبك المشدود على النافذة الى فضاء لا يعيدني الى هنا أبداً! كم كان خفيفاً ألم الجنزيرة على رقبتي وصيوان أذني عن ألم هذه الوقفة، ألم خيبتي في والدي!.
طلبَ المدير مني، ربما نبهه اصفرار وجهي وطريقة ضمي لرجليّ أمنع البول أن يبلل بنطلوني، المغادرة الى صفي، والتفتَ الى أبي قائلا: “اجلس أبو غسان واشرب معنا الشاي”. اتجهت الى الباب أحاول فتحه لأخرج، لا أدري أكان الباب قوياً أم أن قواي تلاشت مثلما لا أدري أكان مزلاج الباب بطول قامتي أم أني تقزّمت حتى تساوينا طولا! كل ما أذكره أن فتح الباب كان عملاً شاقاً، آنذاك!؟ وقبل أن أغلق الباب خلفي اختلست نظرة الى أبي عله يرى نظرتي المنكسرة وشفتاي المهدلتان. عله يقرأ ألمي، وانكساري من خذلانه لي! لكنه كان قد جلس بجانب المدّرس أبو جميل قوجة يتمازحان بينما الآذن أبو عطا يصب له الشاي!.
بعد المدرّس نهاد معلم كان صعباً على أي مدرّس أن يكسب محبتي، لا أذكر أني تلقيت ضربة من أي مدرّس سوى تلك في حياتي، فقد كنت أمنح انطباعا باستعدادي للدفاع عن نفسي ولو اقتضى الأمر تبادل الضرب مع المدرّس، وربما هذا ما حماني من مدرّسين يعتبرون أن ضرب الطالب خدمةً له ولأهله!؟.
قبل فترة زرت مدرسة طفليَّ التوأم، 14 سنة، مدرسة أجنبية من أهم المدارس الدولية، لحضور اجتماع أولياء الأمور، كان طاقم المدرسة في غاية الاحترام وقمة المهنية. بينما أسير مع طفليّ وقد بلغا طولي وأشد مني، حينما اقترب أحد المدرّسين، أوربي المنشأ، وسلم عليّ بود، وبلطف، وأقرب للمرح شكا لي أحدهما أنه يكون في بعض الأحيان عدائيا في مباريات كرة السلة!؟ اكفهر وجهي ونظرت الى المدرّس بحنق ورفعت سبابتي في وجهه وخاطبته بغضب: “عليك أن تترك بينك وبينهما على الأقل مسافة خمسة أمتار، وممنوع عليك الاقتراب منهما والحديث معهما اطلاقا، فهمت”؟ لم يفهم المدرّس سبب هذا الانفجار البركاني، وارتبك بشدة، وأصبح لون وجهه كشوندرة مغلية، كما ارتبك طفلايّ ونحوني جانبا، مؤكدين أن المدرّس لا يضمر الأذى، وليس هناك ما يزعجهما في المدرسة، وهما يتضاحكان بمرحهما الطفولي من تصرفي هذا.
حينها استرجعت نفسي. فهدأت أعصابي، وأيقنت ساعتها أن الخمسين سنة التي مرت لم تشفِ جراح الطفل الذي هب الآن ينتقم من نهاد معلم في هذا المدرّس، ويسترجع عيون أبيه من قبره يحدق فيهما وكأنه يقول له: “لن أخذلهما مثلما خذلتني”!!.
تركت أطفالي يتضاحكون على تصرفي، ومدّرسهم في حيرته من سبب غضبتي!؟ وهممت نحو باب القاعة وأنا متأكد أنه سينفتح أمامي دون عناء لمسه. لم أنظر هذه المرة خلفي لأني كنت متأكداً أني تركت ضحكات طفليَّ الساخرة البريئة تتبعني، بينما انطلق لساني مدندناً يُكْملُ المقطع الثاني لأغنية “رقة حسنك وسمارك” التي كانت تصدح من مذياع دكان أبي قبل 50 سنة: “بأوتاري ياما سليتك.. وأسمعك من وحي الله.. وبلحني يا ما حاكيتك.. ما منك غير نغمة آه.. يا محلى الروح يا سمرة”!.
بالإذن من أبناء وأحفاد الأستاذ نهاد معلم، فوالله لم أقصد الاساءة، إن هي إلا للعبرة ولتفريغ النفس من شحناتها. سامحوني. وسامحه وسامحنا الله جميعاً.