fbpx

خيار الأسد إيراني… إجاك الدور يا دكتور

0 5٬123

أبرم الأسد الأب اتفاقية فصل القوات في الجولان المحتل عام 1974 وطبّقها بحذافيرها، وسار الابن على ذات المنوال، وكانت تلك الاتفاقية من أهمّ ثوابت نظام الأسد لأنها تُقدّمه لإسرائيل والغرب ككلب حراسة وفي و أمين، وبالتالي لا يمكن المغامرة بتجريب حالة أخرى، حتى عندما كانت مصلحة الولايات المتحدة وإسرائيل إبرام صفقة سلام مع الأسد الأب وتمّ قطع أشواط كبيرة للوصول إليها و عُرِفَت تلك التفاهمات بوديعة رابين، كانت إستراتيجية نظام الأسد الأب ترك الجولان لإسرائيل وعدم إبرام أيّ صلح وسلام معها، لأنّ حوامل نظام حكمه والبروباغاندا التي ينشرها حوله وطهي ضرورية لإحكام قبضته في الداخل وتأجيل أي تنمية اقتصادية و إصلاح سياسي بحجة الاستعداد لتحرير الأرض المحتلة، لكن ما أراده الأسد الأب وأوصى ابنه به هو حالة اللاحرب واللاسلم وهو اختراع ميكيافيلي يخدم استمرارية نظام حكم العائلة.

وأسّس الأسد الأب لهذه السياسة عبر إبقاء جبهة الجولان هادئة، وتقديم نفسه بمظهر البطل القومي الداعم لحركات مناهضة ومقاومة لدولة الاحتلال، وكانت تلك سياسته في لبنان منذ دخوله إليها 1976 ثم احتلال اسرائيل للجنوب 1978 وإنشاء دويلة سعد حداد والتي تَحوّلت لاحقاً لجيب أنطوان لحد، وكان الأسد الأب يُقدّم نفسه داعماً لتحرير جنوب لبنان فيما لا يفعل شيئا لتحرير الجولان.

 ومعروف عن الأسد الأب احترامه للخطوط الحمر التي توضع في وجهه، وكان مسموحاً له ببعض المناورات العسكرية التي أدّت لاحتكاك جيشه مع الجيش الإسرائيلي في 1982 ولكنّ دوره الأساسي في إجهاض أيّ مقاومة فلسطينية حقيقية كان ثابتاً من معركة تل الزعتر إلى معارك الشمال التي أخرجت ياسر عرفات من لبنان نهائياً، وكانت شرذمة الفصائل الفلسطينية وشقّ صفوفها سياسة معروفة عن الأسد الأب بما يَصبّ في صالح إسرائيل…

 وفّرت ثورة الخميني استثماراً جديداً للأسد الأب، فبعد أن رعى الشيعية السياسية والعسكرية عبر دعمه الثابت لحركة أمل، وساهم في إنشاء ورعاية بواكير أذرع الحرس الثوري في المنطقة عندما بدأ حزب الله بالتَشكّل في عام 1982، حيث كان تحالفاً إستراتيجياً بين الثورة الإيرانية ونظام الأسد أمراً حتمياً لم يتأخر الإعلان عنه وكان إنهاك خصم الأسد الأب العراق ورئيسه صدام حسين هو بواكير هذا التحالف الذي يُطلِق عليه البعض إسم تحالف الأقليات في المنطقة.

كانت قراءة الأسد الأب لولادة مشروع ولاية الفقيه قراءة خاطئة إذ اعتقد (أو أقنع نفسه) بأنّ خياراً أمريكياً وغربياً دعم هذا النظام الديني الشيعي الوليد، وأنه المُعوّل عليه في إنهاك العرب السنة وإضعافهم في المنطقة وهو استراتيجية إسرائيلية قديمة مرضي عنها غربياً، وقبل سقوط السوفييت (وسقوطهم لم يكن مُتوقّعاً بهذه السرعة) شَكّل نظام الخميني حائط صَد أيديولوجي في وجه المَدّ الشيوعي، إضافةً لكونه مصدر لإشاعة الفوضى في منطقة البترول والغاز الأولى في العالم، الأمر الذي يَتطلّب طلب دول المنطقة حماية أمريكية دائمة والتزود بأحدث أنواع ما أنتجه المجمع الصناعي العسكري الأمريكي.

لم يتوقع الأسد الأب اصطدام المشاريع ببعضها بعضاً بعد موته بعشرين عاماً، وقد يكون نصح ابنه الذي أورثه السلطة بالتحالف الإستراتيجي مع نظام ولاية الفقيه وإبقاء كل أسباب التعاون مع الولايات المتحدة وتقديم نفسه كمُنفّذ وضامن لسياساتها في المنطقة، وهو ما صنعه الأسد الأب في رعاية اتفاق الطائف لإنهاء الحرب الأهلية اللبنانية، والانخراط في قوات التحالف الدولي لتحرير الكويت بقيادة أمريكية.

لم يلتزم الأسد الابن بنصائح أبيه وتماهى مع مخططات قاسم سليماني بل أصبح تابعاً له فيما بعد، فشارك معه بإزعاج القوات الأمريكية في لعراق عبر دعم انتقائي لفصائل القاعدة فقط ولم يدعم المقاومة العراقية المعتدلة، وشارك الأسد بقتل الرئيس رفيق الحريري وعُوقِب على ذلك بطرده من لبنان، لكنه حافظ على هدوء جبهة الجولان، وأصبح عملياً نظام الأسد جزءاً من الهلال الشيعي الممتد من طهران إلى البحر المتوسط، وأخذ خياره الرئيسي بذلك، ولكنه كأبيه كان مقتنعا بأنّ لا صِدام بين الولايات المتحدة وإيران في المنطقة بل تخادم طويل الأمد يجد لنفسه دوراً في تلك العلاقة الملتبسة بين (محور المقاومة) والنظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة.

وكانت الثورة السورية مفصلاً هاماً في تبعية كاملة لنظام الأسد للحرس الثوري الإيراني والذي لم يُقصّر في حمايته ومنع نظام حكمه من الانهيار، وازدادت قوة الحرس الثوري وحزب الله في سوريا كثيراً بحيث أصبحا أقوى بكثير من ميليشيات الأسد والذي ازدادت تبعيته لهم في كل المجالات السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية.

وبعد الوصول لاتفاق نووي ببن إدارة أوباما ونظام الملالي والسماح بالتدخل الروسي العسكري المباشر لإنقاذه وإنقاذ داعميه الإيرانيين من الانهيار، تأكّد للأسد صدق وواقعية خياراته حيث ارتضى لنفسه دور الطفل الذي لم يبلغ الحلم وسلّم كل أمره لملالي طهران لقيادته ولكن ما زاد في الطين بِلّة أنّ القيصر الروسي أراد إمساك طرف الرسن المربوط في عنق الأسد لتوجيهه إلى وجهته التي يريدها.

وبذلك عاش الأسد أحلى أيامه قبل اندلاع الغزو الروسي لأوكرانيا، حيث استفاد من كل التوافقات بين موسكو وواشنطن، وطهران وواشنطن وتَخيّل أنه أذكى سياسي في العالم وأنه رجل الدولة الوحيد الذي يحظى بإجماع كل الفرقاء المتصارعين أو المتنافسين، وأنّ دوراً وظيفياً جديداً للنظام في طريقه للظهور وأنه جزء من المنظومة الأمنية الإقليمية للمنطقة.

بعد الغزو الروسي لأوكرانيا بدأ يظهر أنّ حامي النظام الأول دولياً قد دخل في نزاع مع الولايات المتحدة وحلفائها وفقد أيّ إمكانية للتواصل معهم بشأن صيغ لحلول سياسية تُبقي على النظام، وكان ذلك قبل الغزو ممكناً عبر محاولة الهروب من استحقاقات تطبيق القرارات الدولية ومحاولة اجتراح حلول بديلة كمسارات أستانة وسوتشي وغيرها.

وبعد عام ونصف من الانكفاء الروسي الدولي وانشغاله بحربه، دخل حليف النظام السوري الآخر في حرب ضروس مع الولايات المتحدة وإسرائيل اعتباراً من السابع من أكتوبر 2023 ولازالت تلك الحرب مستمرة وانتقلت إلى لبنان بعد انتهائها في غزة وهي في طريق وصولها لسوريا ونشهد إرهاصات ذلك عبر كثافة القصف الجوي الإسرائيلي للمتموضعات الإيرانية وأماكن تواجد ميليشيات ونقاط حزب الله.

يُحكى عن نصائح وُجّهت لنظام الأسد بعدم انخراطه بالمعركة الجارية الآن وأخذ موقف النأي بالنفس عن تلك الحرب، وتمّ الكلام عن عروض وصلت للأسد عن ضرورة حسم خياراته، هل هو يريد الاقتراب من العرب وبالتالي من الغرب والنزول من السفينة الإيرانية الغارقة، أم لا تزال خياراته كما هي الاستمرار مع المحور الإيراني للنهاية وعندها سيتحمل كامل تبعات قراره.

ولم يكن مقبولاً بعد الآن استمراره في تأمين كل ما باستطاعته لحزب الله والمحور عموماً عبر فتح كامل الأراضي والأجواء التي يُسيطر عليها كممر إستراتيجي وحيد باقٍ لدعم الحزب وعمق إستراتيجي له، وبالطبع لم يكن كافياً سياسة عدم الردّ على أيّ ضربات إسرائيلية ولا حتى إعلامياً.

ويقال إنّ العرض المُقدّم للأسد من إسرائيل هو أن يبعث برسالة رسمية إلى الأمم المتحدة يُخبرها فيها أنه يرغب بخروج الميليشيات الإيرانية من بلاده وأنّ مهمتها انتهت ولا ضرورة لبقائها، وبذلك الفعل يُجسّد خروجاً عملياً من المحور الإيراني ويتم احتضانه عربياً ودولياً.

لم يحدث ذلك بالطبع وكان خطاب بشار الأسد في قمة الرياض الأخيرة وكأنه مكتوباً في طهران ويشي بأنّ الأسد أخذ قراره بالسير في خياره الإيراني للنهاية، ولاحظنا جفاءً عربياً وتُركياً له خلال القمة، وزادت الضربات الإسرائيلية على دمشق وضواحيها ووصلت لأماكن اخرى من خلال الضربة القوية لميليشيات الأسد في تدمر مؤخراً واستهداف فرقة ماهر الأسد عدة مرات.

حاول الروس الذين يتوقعون غزواً إسرائيلياً للجنوب السوري من تأمين جبهات النظام مع قوى الثورة السورية فسارعوا بسلق دعوة لعقد الجلسة 22 لمسار أستانة على أمل توقيع مذكرة لوقف إطلاق النار بين قوى المعارضة العسكرية التي تدعمها تركيا وبين قوات النظام المدعومة روسياً وإيرانياً، وفشل العرض الروسي في الوصول لتوقيع ذلك التفاهم وبالتالي لايزال خطر اجتياح قوات المعارضة لخطوط وقف القتال قائماً في أيّ لحظة بناءً على التطورات القادمة وعودة الدفء للعلاقات الأمريكية التركية في عهد ترامب، وبدأنا مباشرةً نسمع تصريحات غاضبة من لافرنتيف عن الاحتلال التركي لسوريا وتعطيله لمساعي دمشق في إصلاح العلاقة مع أنقرة.

وفي خلال الأيام القليلة الماضية زار دمشق مستشار المرشد علي لاريجاني ووزير الدفاع الإيراني في خطوة مهمة تدّل على التنسيق العالي المستوى والعلني مع دمشق في تجسيد عملي لخيار الأسد الأخير.

لم يكن الأسد يتوقع هذه اللحظة والتي لا تنفع فيها المناورات والرقص على الحبال والوعود الرمادية، وكان عليه اتخاذ موقف نهائي وحاسم، وفعل ذلك وسنرى النتائج قريباً، وقد تتحقق كتابات أطفال درعا على الجدران التي كانت سبباً مباشراً في اندلاع الثورة السورية إجاك الدور يا دكتور.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني