fbpx

حين تتسبب اللغة الكردية بتدمير القبور في عفرين!!

0 222

عادة ما تكون الثورات حاجة حيوية للتجديد المجتمعي والسياسي، ويستوجب أن تصاحبها ثورات في الذهنيات والأفكار، إلا أن الصحيح أيضاً أن أيَّ ثورة يتوجب أن تنبثق من الدوافع الإيجابية، وعلى رأسها الإتيان بالجديد الذي حلمت به القواعد الاجتماعية والمجتمعات المحلية، وشبكة العلاقات القائمة على الاعتراف بالآخر والتغيير الإيجابي، والحرية، والحب والجمال…إلخ. غير أن ما يحصل في عفرين يحمل مفهوماً مزدوجاً، فالنظري شيء، والعملي شيء آخر تماماً. حيث تسود أفكار التدمير والقسوة وخلق استبداد جديد، شيءٌ أشبه بالعبثية والقوة التدميرية التي تجتاح المدينة. فكيف يُدمر قبرٌ دونت عليه أبياتُ شعر باللغة الكردية، من نتاجات صاحب القبر. وحين ذاك فلا سبب أو مبرر لهذا الفعل التدميري، سوى أن اللغة الكردية تحولت إلى وبال على أهالي عفرين، حتى الأموات منهم. بغض النظر عن صاحب القبر، مسلمٌ أو مسيحي، مؤمنٌ أو كافرٌ، كُرديٌ أم عربي، مؤيد للاتحاد الديمقراطي، أو معارض له، ليس من هذا الفعل شيئاً سوى القبح ومسخ أي أمل بالسلم الأهلي والحياة المشتركة.

هذا القبر المهدم، إضافة إلى كل ما تشهده عفرين، ليس سوى خرق وتدمير للمعايير الاجتماعية والإنسانية والأخلاقية، وأولاً وقبل أي شيء، إسقاط للقيم والمبادئ التي خرج لأجلها السوريون منذ بداية 2011. فما إن تتم الإشارة إلى عفرين، حتى يتبادر للذهن حالة جمود واحدة، في إشارة بليغة إلى ثبات الأفكار حول المزيد من الانتهاكات والتجاوزات على المدنيين وأملاكهم ونرجسية المزهوين بأفعالهم المنافية والمعارضة للكرامة الإنسانية. فهؤلاء يحتقرون القيم والنبالة ويقمعون الأهالي فقط كونهم كُرداً وإن تعددت التهم والأسباب، إلا أن النتيجة واحدة والهدف واحد. خاصة إذا عرفنا أن القيم شكل من أشكال التواصل مع الآخرين، وأن الحرية ما هي إلا علاقة الأنا بالأنت، لكن تكرار التجاوز من خطف، تجريف للآثار، وقطع أشجار الزيتون، وفرض الغرامات والضرائب على أصحاب المزارع والأعمال، إنما تجعل من حريتهم سادية مطلقة، منطلقين نحو مبدأ اللذة دون أي مراعاةٍ للحلال أو الحرام. 

إن انفصال الثورة عن القيم الإنسانية يتجلى في السلوكيات الرمزية للفصائل المسلحة والحاكمة في أي بقعة ما. وما أن يتم تقييم العمل الإنساني وما يعانيه المجتمع المحلي في عفرين من كوارث إنسانية، حتى يُمكننا القول إنه فعلٌ مؤسف لكل مناصري الحرية والمساواة والحقوق، وبل هي إيغالٌ في إسقاط القيم الثورية السليمة. فهم قالوا إنهم جاؤوا لإخراج الاتحاد الديمقراطي والإدارة الذاتية من عفرين، وإن أردنا أن نكون حياديين في تقييمنا للوضع، فيكفي الاستدلال على تجربة السجن الأسود المخصص للنشطاء والسياسيين، والغرامات والضرائب المفروضة لمعرفة طبيعة عيش وحياة الأهالي قبل عملية غصن الزيتون. لكن الكارثة الكبرى أتت بعد العملية العسكرية، فما تشهده عفرين، هو تحديداً ما لم يتعرف عليه الكرد طوال نصف قرن في سوريا، عدا المراسيم المجحفة، فإن الفعل الميداني والأثر الراجع لكل قرار ليس سوى ترسيخ لمفهوم سلخ الكردي عن الهوية الوطنية الجامعة، واستمتاعاً بـ “تطفيش” الكردي من منزله، ومحاربة عيد النوروز، وتدمير الذاكرة الكردية، والقتل على الهوية… إلخ، خاصة وأن النقيض يولّد النقيض؛ لأنّ النفس مبنية على جدل الأضداد، فإذا كانت النتائج بعد العملية العسكرية على النقيض من التوقعات والتعهدات المعلن عنها، فإن حجم الالتزام الكردي الشعبي مع المعارضة السورية يرتقي للقول إنها على النقيض من سابقاتها أو المتوقع منها. 

إن تدمير شاهدة قبر الشاعر الكردي “عارف خليل شيخو” المتوفى في 2012 من قبل فصيل “فيلق الشام” المسيطر على قرية “كوسكا” مسقط رأس الراحل، التابعة لناحية “راجو”ـ بحجة احتوائها على كتابات باللغة الكردية وأنها مخالفة للدين الإسلامي، ماهي إلا نقلة صوب تعميم تجربة محاربة الآخر المدني العلماني، تحت ستار الدين، خاصة وأنها ليست المرة الأولى التي تشهد فيه عفرين مثل هذا الفعل، حيث سبق أن دُمرت شواهد القبور في عفرين، كحال قبر العلامة الكردي “نوري ديرسمي” وزوجته في مقبرة “حنان”. وشاخصة قبر السياسي “كمال حنان” الذي توفي برصاص مجهولين في حي الأشرفية بحلب، وتدمير شواهد قبور الإيزيديين ونبشها. وتدمير مراكزهم الدينية المقدسة، كما حصل لضريح الشيخ حميد في مايو2020 بقرية قسطل جندو في منطقة شيروا، الذي يعتبر مزاراً دينياً مقدساً.

ما يحصل في عفرين، هي الديناميكيات التي يُراد لها أن تكون الفصل والعنوان والأرضية التي سيتعامل بها الكردي في سوريا مع أقرانه، اليوم ومستقبلاً. فعن أي مسارٍ للعيش المشترك سنتحدث، إن كانت شواهد القبور تهدم والقبور تنبش، بسبب كتابة على شاهدته بلغة المتوفى الأم. وإن كان ثمة مبرر يسوقه هؤلاء لهدم القبر وشاهدته فهو أن لغة القرآن هي العربية فقط، لكن مُحددات بطلان هذا الادعاء تقول أولها: إن الإيزيديين ليسوا مسلمين، وهذه مسلمة لا تحتاج لبرهان، فلماذا نُبشت قبورهم وهوجمت بيوتهم ومزاراتهم. وثانيها: أن اللغة الكردية محرمة في عفرين حتى على الأحياء أنفسهم.

قصارى القول: ما خرج الملايين إلى الشوارع إلا للمطالبة بالمدنية والديمقراطية والعلمانية وحفظ حقوق الأديان المختلفة في سوريا، ودعم التعددية اللغوية والإثنية. وما خرجوا كي يئنوا تحت وطأة حكم فصائل تنصّب نفسها ممثلة الله على الأرض، دون وجه حق. هذا عدا أن الممارسات والانتهاكات التي ترتكبها فصائل المعارضة السورية في عفرين، أصبحت تُعاد بوتيرة مشابهة في مناطق عملية نبع السلام (سري كانيه/رأس العين، وكريسبي/تل أبيض). فكيف لنا أن نعيش معاً، ولا نجد صوتاً من المعارضة السورية، أو النشطاء والكتّاب والصحفيين والمشتغلين في الرأي العام السوري، أو موقفاً مع الحق ضد ما يجري بحق الإنسانية والمصير الواحد.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني