fbpx

جوقتان

0 101

عاد منهكاً.. ارتمى على أرض الغرفة وتمدّد فارداً يديه ورجليه. هرعت زوجه متسائلة.. أشار بيده لا شيء.. رشّت على وجهه ماء بارداً.. طبطبت عليه.. أفزعتني يارجل، وجلبت له كأس عصير.. رشفه.. أحسّ بانتعاش.. انتظر قليلاً.. اغتسل واستعد لتناول الغداء..

جلس في ظل شجرة التوت يسترجع يومه المثقل.. جاءت أمّ حامد تحمل إبريقاً وكأسين.. سكبت الشاي وناولته.. جلست قابلته، ما بكَ تحمل هموم الدنيا على كتفيك؟

– الزرع يذوي.. وإذا لم تمطر السماء لن نحصد سنبلة، وقد نضطر لبيعه علفاً..

– مازال هناك أمل

– العيش يضيق بنا شهراً بعد شهر

– اطمئن، لن يخذلنا الأولاد

– الأولاد؟! بعد أن انتثروا في بقاع الأرض عساهم يلتقطون خبزهم

– لسنا وحدنا..

– أعرف.. تنهّد ورشف قطرات من كأسه

– هوّنها.. لا تقلّب المواجع..

– معك حقّ، وافترّت شفتاه عن ابتسامة صفراء

– اضحك..

– ليتني كزوربا

– مَن؟

– ذاك الذي حدثتك عنه أيام الخطوبة

– آآآ.. تذكّرت ذاك – كما يقول المصريون – ” اضربها طبنجة يا زعبولّا”

– لا تبحثي عني.. وقف

– ستذهب إلى البحيرة؟

– لوّح بيده

جلس.. أسند ظهره إلى صخرة.. سرّح نظره في الماء حيث تتلألأ الشمس متراقصة على صفحات الموجات المتهادية نحو الشاطئ.. شعر براحة تتغلغل في أعماقه.. هبت نسمة تحمل عطر الحشائش والورود فانتشى.. جالت عيناه في السفح تلاحق الأشعة المتكسرة على أوراق الأشجار وهي تودّعه قبل أن تنحدر خلف التلال مخلّفة وشاحاً شاحباً على جبين الأفق يمتزج بثنايا قطعان الغيوم البيض، وموسيقا جوقة كونية تعزفها طيور ترف جذلى وهي تحلّق في الفضاء؛ فتاق أن ينسلّ إلى البحيرة، ويندسّ بين الأسماك يداعبها ويشاطرها أهزوجة الحياة..

دغدغت نسمة لينة وجنتيه بلطافة، وتلاعبت بشعره، ولامست جفونه فاشتاقت للقاء، وكادت تسرقه غفوة عندما هزٌت كتفَه يدُ أم حامد ليجفل النعاس مبتعداً..

جلست جنبه.. التصقت به، وغرقا في صمت السكون، وغلالة الظلمة تتسلّل وترخي سدولها على الكون. وبينما القمر يطلّ بدراً في عليائه، همس: أتذكرين؟!

– ماذا؟

– ذلك اليوم الذي جلسنا فيه هنا..

– نعم، وأول مرة يرفس حامد جدار سجنه

– تُرى، كيف مرّت تلك السنون؟!

– وعدنا كما بدأنا!!

– لكن بعد أن أخذت الأيام مأخذها..

أسندت رأسها على كتفه.. امتدّت يده تداعب خصلات شعرها الأشيب، وبدأت سمفونية جديدة، ملحّنوها ضفادع تنقّ، وجداجد ليل تصرّ فيتردّد صداها.. ليبعث تذكارات الأيام الخوالي حيّة. قال: ما كان يضرّنا لوكنّا جميعاً هنا

– يا للظلم!!.. أيمكن أن يعودوا؟!

– كلّما مرّ يوم أزداد شؤماً

– لماذا؟

– أخاف أن أموت قبل أن أكحّل عينيّ برؤيتهم

– لا بدّ أن تُفرج

– لا فرج وجوقتا النقيق والنعيب هما الأعلى..

– تفاءل.. ليس هناك من شدّة تدوم

 شعر بأنفاسها حارة.. فضمّها..

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني