تحرير مناطق جديدة.. وسوريا إلى 2254 بدون أسد
كانت الولايات المتحدة تُدير الملف السوري وفقاً لمصالحها، وبرغم التنافس مع روسيا البوتينية والقلق من طموحات الرئيس الروسي إلا أنها كانت تشترك معه بإنجاز بعض الملفات، ولا يُخفي المسؤولون الأمريكان صراحةً أنهم يرون في سوريا منطقة تَضمّ مصالح حيوية لروسيا تاريخياً ولا يعترضون على ذلك.
وبما أنّ تلزيم روسيا بالملف السوري أمر أخذ رضى من العرب والإسرائيليين ولم يعترض عليه إلا الأتراك وقوى الثورة السورية، فقد كانت النية تتجه لتبريد واحتواء الصراع في سوريا وإنجاز حل بقيادة روسية لتأمين الاستقرار فيها وفقاً لخطوط حمر أمريكية في ملف النزاع تقضي باستبعاد أيّ حل عسكري وعدم السماح بانتصار فريق على آخر.
وكان الروس والأمريكان يعملان معاً في الملف السوري باكراً، وهم من أنجز بيان جنيف 1 ومن ثم ملف الأسلحة الكيماوية بعد استعمالها في ضرب الغوطة 2013 والذي أنتج بالتوافق القرار الدولي 2118 وصولاً لاستصدار القرار الدولي 2254 بالإجماع في مجلس الأمن في أواخر عام 2015 بعد شهرين من التدخل العسكري الروسي في سوريا..
وكانت لقاءات كيري/لافروف الحارة والمتكررة توحي بوجود تفاهم عميق بين البلدين في رعاية حل سوري يضمن مصالحهما.
وكان تغيير ميزان القوى العسكرية على الأرض والذي لم يكن في صالح قوات الأسد وحلفاءه هو المدخل لإنجاز حل على صيغة لا غالب ولا مغلوب أو الجميع منتصر.
لم يلتزم الروس بما هو مطلوب منهم وحاولوا الغدر بكل من وثق بهم أو اضطر إلى ذلك وما يهمني هنا هو الغدر الروسي بالأتراك وحلفاءهم من الثوار السوريين.
فبعد قضم الروس لكل مناطق خفض التصعيد، واتفاقهم مع الولايات المتحدة على تفكيك جبهات حوران في صيف 2018 حيث مهد لذلك الأمريكان بإقفال غرفتي الموم والموك وقطع كل اشكال الدعم العسكري عن المعارضة السورية.
لم يبقَ من مناطق للمعارضة السورية سوى منطقة إدلب وهي تضم كل القوى المسلحة في الثورة السورية إضافةً لبعض التنظيمات الراديكالية الإسلامية وتضم الملايين من السوريين الذين نزحوا إليها هرباً من جحيم ميليشيا الأسد.
بعد إنجاز الروس لتفاهماتهم مع الأمريكان حول الجنوب السوري كان التعويل الدولي على اتفاق الرئيسان التركي والروسي على ايقاف اطلاق النار وهو ما حصل فعلا في اجتماع عُقِدَ بتاريخ 17 أيلول 2018 عُرِفَ فيما بعد باتفاق سوتشي، حيث اتفق الجانبان على وقف الحرب وإنشاء منطقة عازلة بعمق 15-20 كم على جانبي خط التماس الحالي وفتح الطريقان الدوليان M4 وM5 لربط مدينة حلب باللاذقية ودمشق وذلك لتنشيط حركة التجارة، وتعهد الفريقان بتسيير دوريات مشتركة لضمان تنفيذ ذلك، حيث كانت القوى العسكرية المعارضة تسيطر على أجزاء واسعة من الطريقين المذكورين، وأيضاً تم الاتفاق على بنود أخرى مثل محاربة الإرهاب وتعزيز نقاط المراقبة العسكرية التركية الـ 12 والشروع في حل سياسي وفق القرار الدولي 2254..
لو بدأ الروس وفقاً للمعادلات الجديدة على الأرض بالشروع بالحل السياسي برعاية دولية وقيادة روسية لكان حظي هذا الجهد بدعم ورضى المجتمع الدولي.
ففي عام 2019 كانت كل المؤشرات تصب في خانة عدم سير الروس بما تم التفاهم عليه وإنهم يريدون حل عسكري للقضية السورية نظرا لفائض القوة التي يملكونها وتَشَتت الطرف المقابل وعدم تشكيله كتلة صلبة في وجههم.
ولتعطيل المسعى الروسي سارع الأمريكان بإخراج قانون قيصر من الأدراج وإقراره وتموضعوا عسكرياً في شرق الفرات بعد أن أعلنوا أنهم تمكنوا من القضاء على تنظيم داعش في معركة الباغوز في آذار 2019.
ولأنّ تركيا ليست أمريكا فقد كان بإمكان الروس نقض اتفاق سوتشي تحت أيّ ذريعة وشنوا هجوماً استمر لعام كامل تجاوزوا فيه نقاط المراقبة التركية التي أصبحت خلفهم وانتزعوا السيطرة على طريق M5 كاملاً، وتراجعت قوات الثورة العسكرية كثيراً إلى أن وصلت في شباط 2020 إلى خطوط وقف القتال الحالية، وخلّف هذا التقدم أكثر من مليون لاجئ إضافي إلى الشريط الحدودي مع تركيا، وحاول الروس حسم الحرب في إدلب عسكرياً، فقاموا بمجزة للجنود الأتراك في جبل الزاوية على أمل خوف الأتراك من متابعة المعركة ووقف دعمهم لفصائل المعارضة، إلا أنّ الموقف التركي كان صلباً واستعمل القوة لإجبار الروس على وقف زحفهم..
ولمنع أيّ انزلاق إلى صدام روسي تركي مباشر يُطيح بكل الإنجازات التي حققها البلدان بينهما في ملفات عديدة بعيدة عن الصراع في سوريا، عقد الرئيسان الروسي والتركي قمة شهيرة جرت في موسكو في 5 آذار 2020 تم التوصل بنتيجتها لهدنة هشة مع اتفاق ضبابي يتيح قراءات متعددة لبنوده، وظهرت خلافات عديدة بعدها بتفسير بنوده فيما عرف بالقراءة الروسية والقراءة التركية، وتم تجميد الصراع في سوريا إلى حين بروز معطيات جديدة، فالروسي لا يقدر أن يحسم الحرب في شرق الفرات ضد الأمريكي وقد حاول عبر معركة خشام وتلقى صفعة قاسية، ولا يقدر أن يحسم مع التركي لأنّ الأخير لم يعد مستعد لخسارة شبر من الأرض لا بالقوة ولا بالمفاوضات..
يمكن القول إنّ الأمريكان والأتراك معاً منعا بوتين من فرض حل عسكري على مزاجه، وبالتالي سعت الولايات المتحدة جاهدةً لمنع تثمير الإنجاز العسكري الروسي على الأرض لمنافع سياسية واقتصادية، وكان الموقف الأمريكي والأوربي صارماً تجاه الأسد برفع اللاءات الثلاثة لا للتعويم ولا لرفع العقوبات الاقتصادية و لا لإعادة الإعمار قبل الدخول بعملية سياسية جادة وفق المرجعيات الدولية ذات الصلة.
ما كان ينقص تحريك الملف السوري لإخراجه من الجمود وبروز معطيات جديدة حدث عند حلفاء النظام.
فبعد تورط الرئيس بوتين في غزوه لأوكرانيا ظهر بعد الأسابيع الأولى للغزو أنّ الروس وقعوا في فخ لن يخرجوا منه قريباً وسيستنزف مواردهم واهتماماتهم، وكانت القطيعة بين موسكو والغرب قد أرخت بظلالها على المشهد السوري باستحالة التعاون بينهما في أيّ جزئية قد تٌفضي لتحريك الملف.
وبدأت بالتدريج تظهر عوامل الضعف الروسي في سوريا، سياسياً بالعزلة الدبلوماسية والعقوبات المفروضة عليها، وعسكرياً بسحب أفضل رجالها وأسلحتها من سوريا، وكان الوقت ليس في صالح النظام وحلفاءه لأنّ الروس ينزفون ببطء لكن بشكل مستمر.
في المقلب الآخر لم يتأخر الإيرانيون عن التورط في حرب كبرى في المنطقة مع إسرائيل والولايات المتحدة، بعد السابع من أكتوبر 2023، وبدأ يظهر أنّ الصراع سيتطور إلى حرب طويلة وليس كما الحروب السابقة بين الفصائل العسكرية في غزة والجيش الإسرائيلي وهذا ما حصل تالياً…
ويبدو أنّ التوجه الغربي لتحطيم أذرع إيران في المنطقة بعد انهاء فصائل غ ز 1ة عسكرياً والبدء بتحطيم حزب الله درة التاج الميليشياوي الإيراني، ولسنا بحاجة لتصريح من نتنياهو لإخبارنا بذلك بل إنّ وجه المنطقة سيتغير بنهاية الحرب وهو ما يعني أنّ لا ميليشيات إيرانية في سوريا وبالطبع تعتبر ميليشيات الأسد احدى تلك الميليشيات.
إنّ معادلات القوة على الأرض والتي أفرزت خطوط القتال الحالية قد تغيرت ولابد ان تتغير تلك الخطوط.
يوجد فرصة ذهبية امام الفصائل السورية العسكرية وبدعم تركي لتغيير الواقع على الأرض، حيث يوجد نص اتفاقية سوتشي 2018 والتي تصل إلى مورك شمال حماة مروراً بما حجزته خلفها نقاط المراقبة التركية الـ 12 هدفاً مشروعا لتحرير أراضٍ مغتصبة بفعل قوى عسكرية غاشمة واعادة عقارب الزمن للوراء إلى عام 2018 وهو الحدث الذي سيؤدي إلى عودة أكثر من مليون سوري نزحوا منها (من داخل تركيا ومن الشمال السوري) وبالتالي تقديم حل عملي لمشكلة اللجوء السوري في تركيا، كما ان استعادة تلك الأراضي سيقوي موقف المعارضة وتركيا على طاولة الحل السوري والذي لن يكون بعيداً.
سيحصل الفراغ ولا بد من ملئه، كما أنه توجد خشية تركية من اعتماد الولايات المتحدة على تنظيم قسد في طرد فلول الميليشيات الإيرانية وبالتالي ستستولي قسد على تلك الأراضي وتحكمها وستتوسع بهذا العمل كثيراً.
قد تكون منطقة تل رفعت وعين العرب ومناطق شرق النهر أهدافاً يمكن أن تندفع لتحريرها الفصائل السورية بدعم تركي، لأنّ الانهيار الإيراني كبير، بل كبير جداً ولابد من ملء هذا الفراغ.
ما يلوح في الأفق غير البعيد توجه دولي جديد لسوريا جديدة ستكون قلب الشرق الأوسط الجديد عنوانها سورية إلى 2254 بدون أسد.
تحليل قوي واقعي
تحليل واقعي ..شكرا د. باسل معراوي.