fbpx

بوتين بين حزام أمريكا وحزام الصين

0 516

بعد مؤتمر الكبار السبع (الذي استبعدت منه روسيا بعد عام 2014 بسبب غزوها واحتلالها لشبه جزيرة القرم وتهديد دولة أوكرانيا كلها) الذي عقد في لندن والذي سبق القمة الأطلسية في بروكسل والقمة الكبرى في جنيف.. يمكن اعتبار هذه الدول هي النظام الدولي أو الحزام الدولي الذي تقوده أمريكا بمواجهة الطريق أو الحزام الصيني، ذلك المشروع الصيني المعلن الذي يهدف إلى تحويل آسيا وأوربة والشرق الأوسط إلى بر صيني كجزيرة واحدة وبهيمنة صينية في مواجهة الجزيرة الأمريكية المحصورة بين المحيطين الهادي والأطلسي لإعلان هزيمة تاريخية للولايات المتحدة في مقابل تفوق التنين الصيني الذي لم يعد بإمكان أحد ايقاف زحفه أو تقدمه.
ولو أرادت الصين ذلك فإنها لن تستطيع إيقاف العجلة عند الدوران، وهي تنطلق من مسلمات استراتيجية وتاريخية فكما أن إنكلترا تلك الجزيرة الصغيرة التي أدركت أهمية العلاقة بين البر والبحر فإنها سيطرت على النظام الدولي لقرون طويلة وكانت الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.
وعندما بدأت الشمس بالمغيب عنها في بدايات القرن العشرين بالحرب الكونية الأولى كان هناك من هو متحفز وراغب في قيادة النظام الدولي الجديد ووراثة الإمبراطورية العجوز التي أنهكتها أخيراً الحرب العالمية الثانية، فتكرست فعلياً القوة الصاعدة الجديدة (الولايات المتحدة الأمريكية) كقائدة للنظام الدولي وأصبح ذلك جلياً خلال وبعد الحرب العالمية الثانية وفي عصر الحرب الباردة مع الجبار السوفييتي إلى أن تمكنت من إسقاطه في بداية تسعينيات القرن الماضي وانفردت ومازالت بقيادة أحادية للنظام الدولي.
ما يريده التنين الصيني الزاحف هو إعادة الولايات المتحدة إلى القرن التاسع عشر أي ما قبل العام 1900، وبقاء أمريكا ضمن المحيطين، تحيط بها الأسماك شرقاً وغرباً وكندا والمكسيك شمالاً وجنوباً ضمن جزيرة القارة الأمريكية يقابلها الجزيرة الصينية التي تضم الشرقين الأقصى والأوسط وأوربة.
لم يكن مفاجئاً لأحد تصريح السفير الصيني في لندن في تعليقه على قمة السبع الكبار الأسبوع الماضي، لقد ولى الزمن الذي تتحكم به القلة بالكثرة.
كانت الولايات المتحدة تراقب بكثب تداعيات انهيار الاتحاد السوفييتي ووراثة روسيا لهه، ليس فقط من ناحية الأسلحة النووية وأمنها بل من ضرورة وجود قيصر روسي قوي، حيث أثبت القيصر الروسي الذي ورث الرئيس السوفييتي غورباتشوف ضعفه، فقد كان (بوريس يلتسين) مزاجيا بل عصبياً ثارت في عهده فتن واضطرابات ليس في الشيشان فقط بل تشظيات بنيوية في مرحلة انتقالية هامة وتبين أنه لا يصلح أن يكون على راس إمبراطورية روسية تمتلك أهم ترسانة نووية وصناعة فضاء وتملك حق الفيتو في مجلس الأمن وتملك الكنيسة الأرثوذوكسية في العالم (وقد جرى تعديل الدستور الروسي ليصبح الدولة التي تؤمن بتعاليم الرب وتطيعه وتتبع ديانة سماوية، للتخلص من موروثات الحقبة السوفييتية الشيوعية الشبيهة طبعا بالصينية أيديولوجياً) هذه الدولة التي تمتلك قلب الأرض (من غاز ونفط) وسطحها من حقول القمح، هذه الدولة من وجهة النظر الأمريكية يجب أن يكون على رأسها إمبراطور قوي يضبطها، وكان بوتين ذلك الإمبراطور الجديد الذي لملم شمل الاتحاد الروسي وقبض على المفاتيح النووية بكلتا يديه لعدم التهديد أو استخدام تلك الأسلحة التي تصنف بأنها أسلحة نهاية العالم.
ذهب بوتين بعد تربعه على عرش الكرملين إلى الولايات المتحدة في حزيران من عام 2000 في أواخر عهد الرئيس كلينتون وتكلما كثيراً واتفقا على تأييد أمريكي له مقابل ضمان أمن روسيا الاتحادية نفسها وعدم وضع العصي في عجلة التحولات الديمقراطية في دول أوربة الشرقية التي خرجت حديثاً من الجحيم السوفييتي والتي تحتاج لهدوء ووقت لإنضاج وإنجاح تجربة التحول الديمقراطي فيها وانضمام بعضها لمنظومة الاتحاد الأوربي أو حلف الناتو، مقابل ترك القيصر الروسي وشأنه في الداخل الروسي وعدم التشويش عليه.
استغل بوتين غض الطرف الغربي عنه فأخذ يتلاعب بالوضع السياسي كما يحلو له، فحكم كما يحكم القياصرة قديماً دون أي معارضة أو تداول للسلطة وابتكر ما تقوم به أنظمة دول العالم الثالث من تعديل الدساتير والإتيان بشخصيات كواجهات كـ (مدفيدف) وتبادل الأدوار الشكلية بين رئيس للدولة ورئيس للوزراء مع إمساكه هو بنفسه بخيوط السلطة أياً كان الموقع الذي يشغله، حتى توصل أخيراً لتعديل الدستور بحيث يبقى رئيساً مطلق الصلاحيات حتى العام 2036.
كل ذلك يجري برضا أمريكي، طبعاً، لا يخلو الأمر من بعض النفاق المعتاد كانتقاد كل فترة تردي وضع حقوق الإنسان في روسيا أو المطالبة الخجولة بالسماح للمعارضة بالاشتراك بالسلطة والسماح أكثر بحرية الرأي والإعلام، وتجلى ذلك بقصة المعارض الشهير نافالني، ويتطلب بعض هذا النفاق فرض بعض العقوبات الاقتصادية غير المؤثرة.
إن الرئيس الروسي ضعيف داخلياً، ويسمح له ببعض الانتصارات الخارجية التي تقوي وضعه في الداخل.
قبل قمم الرئيس الأمريكي الأخيرة يجب أن نلاحظ عدة وقائع حدثت ولها الدور الهام في مجريات تلك القمم:
1- تم توقيع اتفاق هام بين الولايات المتحدة وتايوان (وتايوان أو جمهورية الصين الوطنية هي الصين الحقيقية برأي الأمريكان) وهي من أهم الدول التي تضم الشركات المنتجة للتكنولوجيا في العالم، وهي تسبق الصين الماوية نسبة لـ (ماو تسي تونغ) بأشواط بعيدة فهي مهد الابتكار وليس التقليد.
2- تم رفع العقوبات الأمريكية عن خط الغاز الروسي (نورث دريم) الذي يصل إلى أوربة دون المرور عبر أوكرانيا وبالتالي مشاركة الشركات الأمريكية بتكملة بنائه ووضعه في الخدمة، وبذلك قد تكون الخسارة التي لحقت بأوكرانيا لا تعوض لأنها اتكلت على وعود الغرب وأشعلت العداء مع الروس.
3- رصدت مجموعة السبع في قمتها الأخيرة في لندن مبلغ 40 تريليون دولار كخطة مارشال لمحاصرة وإفشال الزحف الصيني الاقتصادي والتكنولوجي والعلمي.
4- السماح أو غض الطرف للقوى الحليفة لأمريكا في المنطقة من فتح أبوابها لموسكو وإعطائها دوراً كالمملكة العربية السعودية وإسرائيل وتركيا ومصر، وعدم ممانعة أمريكية حقيقية للدور الروسي بسورية إنما إبقاءه تحت الضغط.
ماذا فعلت الصين في هذه الفترة؟
عقدت الصين اتفاقية هامة مع إيران، واتفاقيات اقتصادية هامة مع دول الخليج واتفاقيات هامة مع دول إفريقية، وفعلت العلاقات الاقتصادية مع أوربة بحيث أصبحت الأخيرة شريكاً رئيساً للصين.
ولازالت الصين تبحث عن مزيد من الطرق البرية والمرافىء والعلاقات التجارية لتحويل أوراسيا إلى جزيرة صينية.
ولا يغيب عن الذهن قرب توصل الصين للفوز باستثمار ميناء حيفا الإسرائيلي على شواطئ المتوسط والانزعاج الامريكي الشديد من ذلك الأمر، ما اضطر وزير الخارجية الأمريكي السابق بومبييو للسفر إلى إسرائيل في أوج أزمة كورونا لإبلاغ الجانب الإسرائيلي عن الفيتو الأمريكي ازاء ذلك الموضوع.
ويجب الأخذ بعين الاعتبار الاهتمام الصيني الجدي بدعوة الأطراف الفلسطينية والإسرائيلية إلى حوارات جدية برعاية صينية وذلك لحل المشكلة التي بتنا قريبين من مئة عام على اندلاعها (القضية الفلسطينية) والتي لم تتمكن الولايات المتحدة من حلها.
وفي الختام فإن مجرد عقد القمة الأخيرة بين بايدن وبوتين في جنيف في 16 حزيران هي بمثابة موافقة بوتين على الانضواء تحت الحزام الأمريكي في مواجهة الحزام الصيني (الخطير أيضاً على روسيا) ورد الصفعة التاريخية للصين الماوية التي رفضت الانضمام للاتحاد السوفييتي في الحرب الباردة وتركها في مواجهة تغول حلف الناتو وإسقاط الإمبراطورية السوفييتية من الداخل وإطلاق رصاصة واحدة عليها من الخارج.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني