fbpx

بث مباشر

0 22

اجتمعنا، ثلة أصدقاء، قبل عقد من السنوات، كانت الجلسة صاخبة المشاعر، سادها حوار وذكريات حلوة ومرّة، تغلّفها بضع تنهيدات، وفجأة صمت صاحبنا (م. ر).. أطرق.. تنهد بحرقة.. زفر ما في جوفه من هواء يفضح ثقل غمّ ناخ بكلكله على صدره سنوات. سأله مضيفنا: ما بالك؟ لا عاش مَن سبب لك الحزن والمتاعب.

ابتسم ابتسامة صفراوية، رجفت شفتاه، عضّ السفلى كاظماً هماً ملأ جوانحه، صمت.. ماتت الكلمات.. ترقرقت قطرات حارة في عينيه، بدت من خلف زجاج نظارته، كحبات لؤلؤ تدحرجت من مآقيه مثقلة بالهموم، امتدت يده لتمسحها برفق، صعّد تنهيدة، ونحن نتابع المشهد بصمت القبور، وقال: إيهِ، اعذروا ضعفي، لم استطع أن أكتم بقلبي أكثر مما كتمت، أنتم أصدقائي؛ لكن لم يجرّب أحدكم قسوة معاناتي، تصوّروا أنفسكم مكاني، تزوّجت منذ سبعة وثلاثين عاماً، أنجبت وربيت، حرمتُ نفسي من متع كثيرة ليحقق أبنائي ما يصبون إليه، ثلاث شهادات هندسة والرابعة أدب غربي، أخذوا سنوات عمري وعمر أمهم، ولمّا شبوا وتخرّجوا في جامعاتهم طاروا من بين أيدينا كما تفرّ العصافير مجفلة، تركونا وارتحلوا يبحثون عن رزقهم في دول الخليج، لم نبخل عليهم حتى نالوا شهاداتهم، دم العمر – كما يقال – ليكبروا، ويعيشوا، ونمتّع نظرنا بهم وبالأحفاد. أخذ نفساً، ملأ رئتيه، تهرّأ العمر، صرنا وحيدين، نحن، الآن، نستذكر الماضي، نستجدي الذكريات. ما أصعب أن تجلس وحيداً في أمسيات الشتاء، وسهرات الصيف لا تجد من سمير يؤنسك، دفعنا أيام العمر ليتعلّموا ويقفوا على أرجلهم، ليبنوا وطناً أخضر حلمنا به، وها هم يفرّون بعيداً، يبنون مستقبل غيرنا. الوطن يبني شباباً لا يستوعب قدراتهم، ولا يوفّر لهم فرص العمل، يضيق حضنه على اتساعه بهم. أستميحكم عذراً، ولا أتمنّى أن تعانوا ما أعاني. غارت الكلمات في صدره، تغرغرت متعلّقة في حبال الحنجرة.. صمت مكرهاً.

يومها، لم نشعر كيف تحدّرت دمعات على وجناتنا، ليس مشاطرة لحزنه فقط؛ لكن لمأساة وطن يضيق بأبنائه، يلفظهم طارداً إياهم لأحضان الآخرين يستغلون قدراتهم، ويتنعّمون بثمرهم الذي سقيناه بالدمع والدم.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني