الوجه الآخر للحكمة
تواضع الناس على المعنى الإيجابي للحكمة والحكيم، بل وصارت كلمة الحكيم كلمة مدح لارتباطها بالعقل الراجح.
ومن منا من لم يسمع بلقمان الحكيم، الذي تُنسب إليه من الحكم ما هب ودب، ولشدة إعجاب الناس به، فكل جماعة تنسبه إليها، ولذلك فقبره موجود في فلسطين واليمن والعراق الخ.
وكثير من الناس يأخذون الحكم الشعبية مأخذ الجد، ويرون فيها منهجاً للسلوك، فحسب المرء أن يعرف أن هذه الجملة المفيدة هي من الحكم المتداولة حتى يأخذ بها، حتى إن كثيراً من المؤرخين يرون بأن معنى الفلسفة هو حب الحكمة – فيلا صوفيا، والحكيم صفة من صفات الإله، ومن الحكمة اشتقت كلمات الحاكم والمحكمة والحَكم والحُكم وهكذا.
غير أن للحكمة والحكيم وجهان آخران قلما ينتبه إليهما الآخرون.
جاء في المعاجم العربية في معنى كلمة الحكمة ما هو آت:” الحكمة ما أحاط بحنكي الفرس، وسُميت حكمة لأنها تمنعه من الجري الشديد، وتذلل الدابة لراكبها حتى تمنعها من الجماح، ومنه اشتقاق الحكمة، لأنها تمنع صاحبها من أخلاق الأراذل”.
اعلم أن اللجام آلة من الحديد متصلة من طرفيها بالرسن توضع في فم الفرس لإلجام الفرس، وألجم الدابة: ألبسها اللجام، وألجم فلاناً عن حاجته: كفه، ويقال: أيضاً تكلم فألجمته، ولجمه الماء بلغ فاه، وأسوأ ثقافة هي ثقافة اللجام وأسوأ السُلط سلطة اللجام.
ففي كل فم من أفواه الذين من شأنهم أن يتكلموا وفي رأس كل قلم من الأقلام التي تكتب لجام يشده صاحب السلطان متى شاء وأنى شاء، وأصحاب السلطان عندنا كثيرون ومتنوعون.
والحكمة كلمة لا معنى يحددها، ولهذا فهي كلمة فارغة، وخطيرة لأنها فارغة، وإذا تتبعت جدول الحِكم بالعربية ستكتشف كم هي دالة على التفكير الساذج والخنوع والدعوة إلى حياة بلا تأفف، خذ مثلاً قولهم إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب، تخيل هذه الحكمة التي تدعو إلى الصمت، أو القناعة كنز لا يفنى، القناعة ليست كنزاً أصلاً، إنها الرضا الزائف الخ..
وباسم الحكمة هذه، يتستر بعض المثقفين من كتاب وشعراء وفنانين وغيرهم هروباً من موقف واضح من الثورات العربية ومن الثورة السورية على وجه الخصوص.
تظهر الحكمة عند هؤلاء في حب الوطن، والخوف على الوطن، والحزن على الأطفال، والأسف على الدمار والدعوة إلى وقف نزيف الدم، والحفاظ على الوحدة الوطنية، وتبحث عن جملة مفيدة تشي بموقف ولو خجول ضد البراميل وقصف السكان وسجن آلاف الشباب والصبايا فلا تجدها، بل تجد بكائيات زائفة وحكم أخلاقية، إن التستر وراء الحكمة هرباً من الموقف هو في حقيقته موقف مع الديكتاتورية والقتلة.
حذار يا صاح من أصحاب الحكمة، فالخبث يرتدي دائماً ثوب الحكمة، ووجه الزيف يختفي وراء الحكمة، والهروب من الحقيقة يتقنع بالحكمة، والغايات الوضيعة تظهر في خطاب حكمة، والوسائل القذرة تبررها الحكمة، والطويغ يغدو عند الطغام رأس الحكمة، فلتحذر الأمة تكاثر الحكماء في عصر الغُمة.
والحكمة، يا صاح، قد تكون خبثاً، وقد تكون زيفاً وحجاباً، وقد تكون هروباً وقد تكون ضميراً حياً، فاحذروا الحكماء في زمن الشدة والغُمة.
الناس نيوز