النقل والعقل
مع اتساع دائرة الثقافة وتنوعها وسهولة الاطلاع عليها وإمكانية التفاعل الواسعة والغنى بمصادرها والعدد الهائل من المكتبات بما فيها المكتبات الإلكترونية وإمكانية الحصول على ما تريد بسهولة عبر الإنترنت ووسائل الاتصال الكثيرة ومعرفة الرأي والرأي الاخر بسهولة أيضاً، إلا أنني أعتقد بأن ثقافتنا السياسية المعاصرة. سطحية وغير جادة وكذلك أعتقد بأن ثقافتنا العربية مع وجود عدد كبير من المبدعين والمفكرين، إلا أنها ثقافة تتميز بالغموض والجهل أحياناً والسطحية أحياناً أخرى والانفعال والابتعاد عن الغوص في العمق ليكون نتاجها للخاصة والعامة، ولتشكل وعياً جمعياً متقدماً، فمثلاً قد يصح القول بأن ثقافتنا تجهل التاريخ أو لا تستطيع أن تقرأ هذا التاريخ بموضوعية وبمنهج علمي، كما أنها لا تستطيع توظيفه توظيفاً بشكل خلاق، للاستفادة منه في الحاضر وبناء المستقبل، ويمكن أن نقول بأننا نقلنا تراثنا وتجاربنا وخبراتنا السابقة، نقلاً دون مراجعة نقدية ودون اعتبارها مادة لتساعدنا على التطور، لم نستطيع توظيفها من أجل أن تنتج شيئاً جديداً ملائماً، أي لم نحكّم العقل ونخضعها لمعيار المنطق وأحكامه، بل لفت طوق القداسة حول عنق تفكيرنا وأسرتنا وحجّمت قدراتنا وصادرت إبداعنا، لذلك لم نحاول تطويرها، أو إعطاءها بعداً يتناسب مع الواقع بل بالغنا في الإعجاب بها والامتثال لنصها دون تفكير ودون تشغيل العقل، واعتبرناها فوق رؤوسنا ببرجها العاجي، تحركنا ونحن مستسلمون لها، حتى بعضهم بل الكثير اعتبر العقل في خدمتها وليست هي نتاج العقل، والعقل له عليها سلطان، وكذلك نقلنا النتاج الثقافي الغربي أوروبيا كان أم أمريكيا أم أفريقياً أو آسيوياً، أياً كان مصدره على مبدأ الاطلاع، (قص لصق) غير مكترثين بخصوصية واقعنا وطبيعته السياسية والاجتماعية والدينية… الخ.
لذلك أعتقد أن ما نحتاجه اليوم هو توطين الثقافة العالمية لإعطائها واقعية تتناسب مع طبيعتنا ولكي تساهم بتطوير مجتمعاتنا.
قد يكون سبب جهلنا يعود إلى أننا في أرض الواقع لا نملك ثقافة سياسية أصلاً، حتى عندما نفاخر بفكر عصر النهضة العربية، ننسى أو نتناسى بأن حتى كلمة النهضة أصبحت تعني لدى العامة والخاصة والوعي الجمعي بأكثريته تقليد الأوروبيين.
نعم أردنا أن نواكب مركب الحضارة لكن لم نستطع صناعة مركبنا ولم نجد بحرنا الخاص لمركبنا، وأدواتنا وآلياتنا ليست من صنعنا فهي مستوردة، واقتنعنا بأنه يكفينا أن نعرفها، أي نعرف تلك الحضارة ونعرف إنتاجها في جميع المجالات العلمية والتكنولوجية، والفلسفية، والتربوية… الخ.
ما علينا إلا أن نتبادلها ونستعملها كما هي، حتى أننا لا نستطيع إعادة صياغتها بل شوهناها أحياناً وللحق نقول: لهم علينا (أي صانعيها) حق الشكر والامتنان.
قلدنا أوروبا بتشكيل الأحزاب (مع قناعتي بأن الأحزاب حالة مجتمعية مدنية وضرورية، من خلالها يتنفس الأفراد هواء الحرية والديمقراطية وتشكل هذه الأحزاب جداول أساسية لتلتقي في مستقر الدولة المدنية العلمانية الحيادية اتجاه كل القوميات والإثنيات والأديان والطوائف لتعلن بدستورها وتطبيق قوانينها، أنها على نفس المسافة من الجميع والكل مواطنين، وكل مواطن له نفس الحقوق وعليه نفس الواجبات دون أي نوع من التمييز ويحتكم الجميع لمبدأ تكافؤ الفرص وهذه مسؤولية الدولة الحديثة)، ولكن التجربة مختلفة والظروف مختلفة ومستوى التقدم العلمي والصناعي والمعرفي مختلف فنقلنا تجاربهم المشوهة، وشوهناها أكثر بأننا نقلناها بغباء الاستبداد وبإيمان الجاهل وبهدف السلطان وعلى كيف وغايات الداعم.
الأحزاب في العالم الثالث بشكل عام وفي العالم العربي، بشكل خاص ليست هي الأحزاب في مجتمع الديمقراطية الرأسمالية الحديثة، بل هي الوكيل التجاري بشكل مباشر أو غير مباشر الذي عمل الرأسماليون على تسليمه الإدارة المحلية بعد انسحاب قواتهم العسكرية المسلحة.
لذلك نظام الأحزاب في دول العالم الثالث ومنها دولنا العربية ليس ضمانة للديمقراطية، ففي أوربة الأحزاب ضامنة للديمقراطية لأنها تشكلت في بلاد فاحشة الثراء وعايشت تجربة الثورة على الكنيسة وشاركت بغزو القارات وعرفت كيف توطدت سلطة رأس المال، فهي بمثابة بديل شرعي عن سلطة المؤسسة الدينية والاقطاع معاً، إذاً هي خلاصة تجربة ومعاناة وقد دفعت المجتمعات الاوروبية ثمن ذلك الكثير الكثير.
أما أحزابنا، لا تجربة ولا واقع موضوعي ولا اقتصاد ورأسمال ولا تقدم علمي ولا تقدم تكنولوجي ولا تقدم فلسفي أو معرفي… الخ، فهي لم تخض معارك سياسية ضد الرأسمال والبرجوازية الكبيرة كما أنها لم تشارك في معارك سياسية ضد الكنيسة أو الجامع ولم تخض حرباً من أجل فصل الدين عن الدولة ولم تشارك بمظاهرات من أجل لقمة العيش رافعة راية الحرية والعدالة والمساواة ولم تُنتج أيديولوجية فلسفية أو سياسية تحمل هويتنا، بل استوردت كل شعاراتها ومفاهيمها السياسية والإيديولوجية استيراداً وحاولت أن تطبق هذه الشعارات بواقع لم يصل لمرحلة يستطيع حملها والدفاع عنها، لذلك الأحزاب في بلدان العالم الثالث ومنها بلادنا العربية مجرد نوادٍ سياسية معرضة للأغلاق بأي وقت وبأي تغيير وبأي انقلاب سواء كان دينياً كما حدث في إيران، أو عسكرياً كما حدث في مصر من هنا نتلمس فشل التجربة سواء الماركسية منها ذات الطابع اليساري بشكل عام أو التجربة القومية أي التيار القومي على اختلاف انتماءاته بعثياً كان أو ناصرياً أو اشتراكياً وكذلك التيار الديني الإسلامي.
أخي السوري لنتأمل دور أحزابنا في سورية على اختلاف مناهلها ومكوناتها، ودورها التاريخي، هل يرضيك؟ ودورها الآن في سورية وهي تعيش مرحلة خطيرة وهامة من حياتها، هل أنت راضٍ عن دورها؟ أليس دور الأفراد والمليشيات وبعض العائلات مهم ومؤثر أكثر من دور هذه الأحزاب، أين هي الآن؟ أين دورها الحقيقي والمؤثر في حاضر سورية ومستقبلها؟ ألا ترى معي بأن غياب هذه الأحزاب المُنتَجة من واقعنا والتي يجب أن تعبر عن حالة مدنية هو من أسباب أزمتنا تاريخياً، ومن أسباب انتكاساتنا المتكررة ومن أسباب فشل حراكنا الثوري.
لنرفع صوتنا عالياً لا نريد أحزاباً مستوردة، بل نريد أحزاباً بنت الواقع وصورة لمجتمعنا، حاملة أهدافه وطموحاته الوطنية والإنسانية والحقوقية.
لا نريد شخصاً قائداً ملهماً بل نريد مؤسسة حزبية حاملة لهذه الطموحات كما لا نريد حزباً قائداً واحداً، بل نريد مناخاً ديمقراطياً، الحزب الافضل يكون له الدور الوطني، والمعيار الجماهير والمجتمع بمؤسساته المدنية، وإجماع الناس الحقيقي، في مناخ ديمقراطي يسمح بالحوار والمنافسة الأخلاقية والوطنية الراقية.
غياب الديمقراطية في المجتمع يسبب مرضاً يصيب الأفراد والأكثر خطورة إصابة الجماعة والمؤسسات والأحزاب وأجهزة النظام والدوائر الحكومية…
ولكل مرض أعراضه سواء كان المرض بسيطاً أو عضالاً، ومن أعراض مرض غياب الديمقراطية، وأعتقد بأنه ليس مرضاً عضالاً وإن كان أشبه بالوباء.
حيث كل مواطن على حدة يبدو إنساناً عاقلاً في تمام وعيه وتمام إدراكه، لكن الأمة ككل تبدو غائبة عن الوعي وعاجزة عن إدراك وفهم الواقع وهذا يحرمها من القدرة على تغيير هذا الواقع ويرغمها على الهروب منه بكل الوسائل المتاحة وتلجأ بهروبها للتمثيل، والسخرية، وتغييب صوت العقل وراء الصراخ الهستيري للخروج من الأزمة التي لا تُدرك أسبابها ولا تفاعلاتها ولا سبل الخروج منها.
وإذا أُدركت الأسباب لن نتعرف على سبل الخلاص منها، حتى لو نجحنا بتشخيص الحالة (المرض)، لا نملك العلاج المناسب أي الدواء الشافي.
المواطن العربي لا تنقصه نعمة الوعي، بينما الأمة لا تملك القدرة على فهم منطق العصر ولا تبالي به ولا تملك نظاماً شرعياً إنسانياً للإدارة ولا تلتزم بمبادئ الحرية والعدالة. إذاً نحن أمام حالة تناقض وحالة التناقض هذه تخالف المنطق، الفرد لا ينقصه الوعي بينما الأمة ليست واعية! كيف ذلك؟ ولماذا؟.
سبب ذلك التناقض، هو عدم توفر مناخ الحوار الحر، أي يصبح المجتمع، الأمة، الوطن لساناً بلا معنى وتصبح الفصاحة عند الأفراد عقدة نفسية تتجلى بزخرفة الكلام وتسطيح المفاهيم، من هنا يغيب القرار الجماعي، تغييب القرار الجماعي، تغييب الوعي الجمعي يؤدي إلى أن يصبح الوعي الجمعي وعياً كاذباً، وعياً مزيفاً، وعياً غير حقيقي، وعي يهتم بفهم الواقع ولا يهتم بتغييره، يهتم بالفصاحة والبلاغة ولا يهتم بنتائج النقاش والحوار بل ينصب كل الاهتمام على النقاش بذاته فقط كسوق عكاظ بالشعر، يركز على تأكيد فصاحة اللغة والقدرة على الحديث. من الجدير قوله الآن أن الحرية والديمقراطية تعيشان محنة تتجلى في الحيرة بين نظريتين من المستحيل أن تكونا على لسان واحد.
النظرية الأولى: تنادي بالعودة إلى الماضي وترى الخلاص بشخصية فردية، لذلك يمجدون عمر والوليد وطارق بن زياد وصلاح الدين الأيوبي والمأمون وأبو حامد الغزالي وابن تيمية والبخاري والترمذي وأبو هريرة وغيرهم، ويبتعدون عن كل شخصية تستند لإعمال العقل كابن رشد والفارابي وابن المقفع وعن رجال العلم والفلسفة كابن سينا والخوارزمي وأبو بكر الرازي وغيرهم الكثير.
والنظرية الثانية: تنادي باستعادة نظام الأحزاب من دول الغرب الرأسمالي، أو الاشتراكي الفاشل، لكن ليس من باب الاستفادة العقلانية والموضوعية المناسبة لظروفنا، أي لم تعمل على توطين المعرفة والعلم والسياسة لتحمل هويتنا بل عملت بالاستفادة على طريقة (قص لصق).
ممثلو النظرية الأولى، أي الاتجاه الأول يلجأ للخروج من المحنة بدون تفكير (الحقيقة أن الفرد العربي يملك العقل والإدراك، لكنه لا يفكر فيركز على أن يتكلم فيوظف اللغة لتمجيد الماضي ويعلن رفضه للحاضر). أما ممثلو النظرية الثانية، أي الاتجاه الثاني يهدفون لهدم الماضي ورفضه ونسف التراث، ويمجدون النموذج الأوروبي المستورد، يستورد تجربة لم يساهم بصنعها وليست من طبيعته ولا تنسجم مع واقعه، ولا توجد الظروف الموضوعية للتطبيق الناجح.
يستورد التجربة والمعرفة والعلم والأيديولوجية كما يستورد الحاسوب والراديو والهاتف والسيارة وغيرها من نتاج التكنولوجيا، إذاً هو يقلد ولا يفكر، إذاً الاتجاهان يقعان في مطب واحد، ألا وهو التقليد لا التفكير، الاستيراد لا التصنيع الاعتماد على الغير، على الآخر، لا على الذات وتطوير الذات.
فالحرية والديمقراطية والوعي كسلوك وكمنهج وكتجربة غائبة بمستوى وعي الفرد والمجتمع، وزمام الأمر فيها لفرد مستبد أو حزب لا معنى له أو نظام عسكري انقلابي أو سلطة دينية متعفنة، ونحن الآن كشعب ومجتمع وأمة ندفع ثمن هذا غالياً، ندفع ثمن هذا الجهل والتخلف، ونساهم بدفن كل محاولة جادة للخروج من هذه الدائرة بعقل وطني علمي مبدع وللأسف يشارك بالدفن كلِ من السلطة المستبدة والأفراد الذين ألغوا التفكير واعتمدوا على الصراخ والنقاش والكلام.
لنعمل ونفكر بإرادة تمثل الجميع وبعقل منفتح متطور علنا نجد ضالتنا من أجل حياة أفضل ونتبع منهجاً ديالكتيكياً لا يرفض الماضي بكل ما فيه، لأننا سنجد حتماً بتراثنا المعرفي ما نستند عليه ونطوره ليلائم العصر، وكذلك ليس كل ما هو نتاج الحضارة الغربية أو الشرقية مرفوض لكن نأخذه أيضاً بعقل منفتح ونطبقه بشكل جدلي خلاق.