العدالة في المناطق المُحرّرة
كتب سيدنا عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما: “إن القضاء فريضةٌ مُحْكَمة، وسُنَّة مُتَّبَعة، فافهم إذا أُدليَ إليك؛ فإنه لا ينفع تكلُّمٌ بحقٍّ لا نفاذ له، وآسِ بين الناس في وجهك ومجلسك وقضائك؛ حتى لا يطمع شريف في حَيفِك، ولا ييئس ضعيف في عدلك والبيِّنة على مَن ادَّعى، واليمين على مَن أنْكَرَ، والصلح جائز بين الناس إلا صلحاً أحلَّ حراماً أو حرَّم حلالاً، ومَن ادَّعى حقّاً غائباً أو بيِّنَة، فاضرب له أمداً ينتهي إليه، فإن جاء ببيِّنَة أعطيته بحقِّه، فإن أعجزه ذلك استحللت عليه القضية، فإن ذلك أبلَغُ في العذر وأجلى للعمى، ولا يمنعك من قضاءٍ قضيته اليوم فراجعتَ فيه رأيَك، وهُديت لرشدك – أن تراجع الحقَّ، فإن الحقَّ قديم لا يُبطل الحقَّ شيءٌ، ومراجعة الحقِّ خيرٌ من التمادي في الباطل.
والمسلمون عُدُول بعضهم على بعض في الشهادات، إلا مجلوداً في حَدٍّ، أو مدرك عليه شهادة الزور، أو ظنيناً في ولاء أو قَرابة، فإن الله عزّ وجل تولَّى من العباد السرائر، وسَتَرَ عليهم الحدود إلا بالبيِّنات والأيمان.
ثم الفَهمَ الفهمَ فيما أُدلي إليك مما ليس في كتابٍ أو سُنَّة، ثم قايسِ الأمورَ عند ذلك، واعرف الأمثالَ والأشباهَ ثم اعمد إلى أحبها إلى الله فيما ترى وأشبهِها بالحقِّ.
وإياك والغضبَ والقلقَ والضجرَ والتأذِّي بالناس عند الخصومة والتنكُّر؛ فإن القضاء في مَواطِن الحقِّ يُوجب اللهُ به الأجر، ويحسن به الذُّخر، فمَن خلصت نيَّتُه في الحقِّ ولو على نفسه، كفاه اللهُ ما بينه وبين الناس، ومَن تزيَّن لهم بما ليس في قلبه شانه اللهُ تعالى، فإن الله تبارك وتعالى لا يقبل من العباد إلا ما كان له خالصاً، وما ظنُّك بثوابِ الله في عاجل رِزْقه وخزائنِ رحمته؟ والسلام عليكم ورحمة الله”.
هذه الرسالة العظيمة كانت مجموعة من “القواعد الفقهيّة الكليّة ” يرجع اليها كل رجال القانون والقضاء ومنها استُمِدَّت كثير من أحكام التقاضي، وشروط تعيين القاضي، وآداب القضاء، وشروط الشهادة والحكم، ومراجعة الأحكام، التي جُمعت فيما يُسمّى “قوانين الإجراءات” أو “قوانين أصول المحاكمات” التي تكاد تكون متطابقة في كل قوانين العالم.
كثُر الحديث عن المظالم في المناطق المُحرّرة، ما أدّى إلى اختلاط الحقائق بالادعاءات، والتبس الحقّ بالباطل، وقد أثارت قضيّة مقتل الناشط أبو غنوم كثير من الشُبهات حول كفاءة مرفق القضاء القائم في المنطقة وقدرته على القيام بمسؤوليّاته.
وحيث أنّه في مقام العدل وردّ المظالم لا يجوز ترك الأمر على عاهله ليتصدَّر كلّ من هبّ ودبّ القضاء بين الناس، وإنما يجب أن يقوم مرفق القضاء العادل المُستقِّل، وأن يتولّاه قضاة أكفّاء عُدولٌ ثُقاة ذووا مروءة يمتازون بالنزاهة والشفافيّة والاستقلال والحياد، لأن للعدالة ميزان إن مال وقع الظلم، وللحقّ رجال إن فرّطوا بأمانتهم وقع الجور وعندها لا قيامة لأي مجتمع يسوده الظلم والجور.
ولسموّ مكانة القضاء في الإسلام جعله الله فريضة محكمة تولّاها رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم كما تولّاها من قبله الأنبياء والرُسل، وأصبحت بعده سًنّة متّبعة، والقضاء وإقامة العدل من الإمارة الواجبة في كل الظروف سواء في ظرف السلم أو في ظرف الحرب، أو في ظرف الكوارث والنوائب.
حتى أنّه في زمن الفوضى التي تؤدّي إلى غياب السلطان – سلطة الدولة – يتوجّب على أهل الحلّ والعقد من أهل الشورى والصلاح من أهل البلد التي خلت من السلطان أن يبادروا إلى إدارة منطقتهم وتعيين قاضٍ يفصل بالخصومات بين الناس وردِّ المظالم إلى أهلها.
وهو ما ينبطق على المناطق المحررة التي بادر أهلها من أهل الحل والعقد إلى تنظيمها وإدارتها وتشكيل دور القضاء وهي محاكم فرضتها حالة الضرورة – غياب السلطة القضائيّة – في هذه المناطق وبالتالي فإنه يمكن وصف القضاء في المناطق المحررة بأنه “قضاء الضرورة” منهم من تبنّى أحكام الشريعة الإسلامية ومنهم من تبنّى القوانين السوريّة الأساسية بعد استبعاد القوانين الجائرة التي تكرّس سلطة الاستبداد، وللعِلم فإن اغلب نصوص القوانين الأساسية السوريّة متوافقة مع الشريعة الإسلامية ساهم في صياغتها كبار علماء المسلمين في عهد الاستقلال.
إن حالة الضرورة لا تمنح أيّاً كان سُلطةً فوق سُلطة القضاء أو التدخّل في مسار العدالة، أو توجيهها أو تعطيلها لأن المبدأ الأساسي في تحقيق العدالة هو استقلال القاضي الذي لا رقابة عليه إلّا لله ثم ضميره، لذلك صنَّفَ الرسول الكريم محمد صلّى الله عليه وسلّم القضاة ثلاث في حديثِ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم : الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: اثْنَانِ فِي النَّارِ، وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ: رَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ، فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَلَمْ يَقْضِ بِهِ، وَجَارَ فِي الْحُكْمِ، فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ لَمْ يَعْرِفِ الْحَقَّ، فَقَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ، فَهُوَ فِي النَّارِ.
فالواجب على مَن تولى إمارة القضاء على قبيلةٍ، أو في بلدةٍ، أو قريةٍ أن يتحرَّى الحقَّ، وقد قيل عن إمارة القضاء “نِعْمَت المُرضِعة” لما تدرُّ على صاحبها من متاعٍ زائل، و”بِئْسِت الفاطِمةُ” لأنَّ مَن اعتادها وأنِس بها قد يجور، وقد يظلم لأجل تحصيل المال، فالواجب الحذر، أما إذا اتَّقى الله فصاحبُها على خيرٍ، ينفذ الحقَّ، ويمنع الظلم، ويوصل الحقَّ إلى مُستحقه، هذا فيه خيرٌ عظيمٌ، فمَن أدَّى الحقَّ، وأوصل الحقَّ إلى أهله، فله أجرٌ عظيم، أما مَن استعان بها على باطل، أو كسب المال، فهو على خطرٍ عظيمٍ، ولهذا قال: ستكون ندامة يوم القيامة، إلا مَن أخذها بحقِّها، وأدَّى الذي عليه فيها، لذلك كان كبار الفقهاء يفِرّون منها وكانت لا تُسند لمن يطلبُها.
وعليه ليس للقضاة في المناطق المحررة فضلاً أو مِنّة على الناس لأنّهم سعوا إلى تولّي هذا الأمر، وهم مؤتمنون على الحقّ والعدالة أوّلاً ثم على أرواح وأعراض وأموال الناس، وإن التأخير في تحقيق العدالة بدون مبرّر ظُلمٌ، والحكم بالهوى جَورٌ، وليس من المنطق والعدل والحكمة دفع الناس للخروج بمظاهرات للمطالبة بإحقاق الحقّ وردّ المظالم، لأن الغاية من إقامة العدل هو اطمئنان الناس على أرواحهم وأعراضهم وأموالهم لذلك كان العدل بوابة استقرار البلدان وركيزة أساسية في التنميّة المُستدامة، وإذا انهار انهارت الثقة بين الناس وسادت الخصومات وغلب استيفاء الحقوق بالذات ما يؤدّي إلى الفوضى العامة حيث تُسفك الدماء وتُنهب الأموال وتُنتهك الأعراض بالباطل وتُستباح الحُرَمات، وإنّ مصير أي مجتمع تسوده هذه الثقافة هو الزوال.
هي صرخة محبٍّ ناصحٍ أمين، حريصٌ على رفاق دربه من رجال القانون الأحرار، مؤتمن مَثلُه مَثًلُ الألاف من هؤلاء الرجال على قضيّة هذا الشعب والدفاع عن حقوقه واسترداد ما سُلِب منها، واعلموا بأنّ ثورتنا ثورة حقّ وعدل فقوموا بها حقّ القِيام ولا تُفرِّطوا بالأمانة فإنّ ذلك هو الخسران المبين في هذه الدنيا، وندامةٌ في يوم لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون.