fbpx

الطفولة في دمشق تغرق في مستنقع الحرب وتنتهك في أسواق العمل

0 200

اقتربت مني طفلة تبيع العلكة والبسكويت تبلغ من العمر 12 عاماً في أحد شوارع دمشق وقالت لي: (لو سمحتي بدي اطلب منك طلب؟ قلتلا تفضلي) فطلبت مني أن أشتري لها علبة شامبو.. فاستغربت كثيراً فقالت لي بلهجة طفولية حزينة: (نفسي يكون ريحة شعراتي حلوين وحس فين ناعمين متل باقي البنات)، شعرت بالأسى على هذه الطفلة التي تتمنى جزءاً من حقوقها الأساسية، تتمنى فقط أن تكون طفلة أنثى كمثيلاتها ممن هن في عمرها، فليس مكانها الشارع وليس من الطبيعي أن يكون حلمها علبة شامبو، فمنذ بدأ الحرب وموجات النزوح الكبيرة التي شهدتها سوريا دفع الأطفال ثمناً باهظاً من حياتهم وبراءتهم وحقوقهم، فسكنوا الخيام والمغارات وبيوت قيد الإنشاء، والأسوأ أنهم وجدوا أنفسهم مسؤولين عن عائلات وأخوة وتحملوا عبء أسرهم إما بسبب فقدان الأب أو بسبب ضعف دخل المعيل وصعوبة تحمل مصاريف الأبناء نظراً للغلاء الفاحش والرواتب المزرية، واضطروا إلى دخول سوق العمل بل وامتهان مهن يعجز عنها الكبار كالعمل في البناء أو في العتالة أو الدهان ومحلات تصليح السيارات والنجارة والحدادة والكثير من المهن الصعبة التي لا تناسب البنية الجسمانية الضعيفة للطفل.

ويوجد في سوريا حوالي 800 ألف طفل يتيم 90% منهم غير مكفولين من أي منظمة دولية أو حقوقية وطبعاً لدى النظام لا يوجد أي مؤسسات معنية أو مسؤولة عن تقديم الدعم أو المساعدة أو حتى إيواء هؤلاء الأطفال، أشارت بعض الإحصائيات التي قامت بها منظمات حماية حقوق الطفل إلى أن نسبة الأطفال العاملين في سوريا تتراوح بين (25-50 %) في الداخل السوري. وإن غالبية المناطق التي تحت سيطرة النظام يلجأ فيها الأطفال إلى العمل لتأمين غذاء لأهلهم، والغريب في الأمر أن العمل ليس حكراً على الأطفال الذكور بل وحتى الإناث منهن يتكفلن بعائلاتهن، وقد صادفت إحداهن أمام قلعة دمشق تفترش الأرض في حرارة تتجاوز الـ 40 درجة مئوية تكاد لا تقوى على الحديث وبعينين تائهتين وصوتٍ حزين أخبرتني بأنها تدعى نورا نزحت من ريف حمص والدها مفقود ووالدتها مريضة بالسرطان وهي التي تتكفل بالعائلة. وتبيع هذه الطفلة البالونات وغزل البنات لأقرانها أعادت لذهني وصف نجيب محفوظ للأطفال الذين يبيعون الحلوى بأنهم يبيعون أحلامهم لكن للأسف أطفال سوريا يبيعون أحلامهم وطفولتهم ومستقبلهم، وللأسف الشريحة الأكبر من الأطفال العاملين إما متسربين من المدارس أو حتى لم يدخلوا المدارس أساساً، وبحسب إحصائيات اليونيسيف فان نسبة الأطفال المحرومين من التعليم في سوريا تبلغ 30% وهي تهدد بكارثة مستقبلية فإن لم يتم تقديم المساعدة والدعم وإعادة هذا الجيل إلى مقاعد الدراسة فسيكون ثلث الجيل القادم أميّ وبهذا تكون الحرب قد دمرت حاضر ومستقبل هؤلاء الأطفال، ووجود الأطفال في الشوارع وتحوله إلى مأوى لهم يهدد أخلاقهم ويعرضهم للاستغلال الجسدي والجنسي ويعرضهم لاستغلال أرباب العمل وفي أغلب الأحيان يكون عمل الأطفال أقرب إلى الاستعباد نظراً لعدم وجود حماية أو دعم لهم إضافة إلى جهلهم بحقوقهم ما يضعهم تحت رحمة رب العمل، بالإضافة إلى تدمير شخصية الطفل وضعف قدرتهعلى التواصل مع الآخرين وانخفاض ثقته بنفسه واكتساب عادات سيئة وانجراره إلى خطر الإدمان على المخدرات التي تنتشر بكثرة في دمشق، ومن المؤسف أنه انتشر بين الأطفال في دمشق ومن أنواعه استنشاق (الشعلة) وهي مادة كيميائية لاصقة ذات رائحة نفاذة يؤدي استنشاقها المستمر إلى الإدمان ولها تأثير عصبي شديد، ومن الممكن أن تؤدي إلى فقدان الوعي، ويقول الأطفال أنهم يشعرون بالسعادة والنشوة عند استنشاقها، لكنها على المدى الطويل تؤدي إلى تلف الرئتين وتخرب الخلايا العصبية ويمكن أن تؤدي إلى وفاة الطفل. 

والغريب أن سوريا من الدول التي وقعت على ميثاق حقوق الطفل منذ أكثر من ثلاثين عاماً وجاء في القانون السوري الصادر عام 2010 “يمنع تشغيل الأطفال حتى إتمام المرحلة الأساسية أو بلوغ سن الـ 15 وأن لا تزيد ساعات العمل عن 6 ساعات مع وجود راحة بينها ووجود ورقة صحية تثبت قدرة الطفل على العمل الموكل إليه” لكن لا يوجد أية عقوبة رادعة لمن يخالف تلك القوانين ولم يذكر أي نوع من الأعمال الخطرة التي يمنع الأطفال من امتهانها ما يخالف اتفاقية حقوق الطفل، ويبقى وضع الأطفال والطفولة وصمة عار في واقع سوريا الحديث فمن قتلهم بمختلف أنواع الأسلحة وأبشع الانتهاكات من اعتقال وتعذيب وتركهم في خيام لا تقي حر صيف أو برد شتاء وصولاً إلى إلقائهم في أسواق عمل لا ترحم وأرباب عمل لا يمتون للإنسانية بصلة فنحن الآن أمام لحظة حقيقة يجب أن يدركها الجميع فهؤلاء الأطفال أمانة لدينا ومن حقهم علينا أن نسعى بشتى الوسائل لتأمين مجتمع سليم وحياة كريمة ليحيوها، خسروا حاضرهم لكن لا تزال هناك فرصة لنحمي مستقبلهم ونبني لهم وطن كريم يحمي حقوقهم ويحفظ حياتهم. 

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني