الذات والرغبة المستحيلة
من ذا الذي من بين الفلاسفة أو علماء النفس أو علماء الاجتماع لم يكتب عن الرغبة!؟.
وهل ترك فرويد ولاكان ودولوز من المعاصرين قولاً لمستزيد؟
الجواب نعم لا أحد باستطاعته أن يستنفد القول بالرغبة. وإلا لما دخلنا هذا الباب من القول.
دعوني من الرغبة اللاواعية التي يكون القول فيها ظناً أكبر من الرغبة الواعية.
ودعوني من الرغبة البيولوجية والتي لا أحد له الفضل في كشفها، ولا معنى لتسميتها
بالحاجات كما عند لاكان.
دعوني من الرغبة الفائضة عن البيولوجية حيث الرغبة في موضوعات – أشياء تخلقها
ثقافة السلعة، ولا يحتاج القول فيها إلى ذكاء.
دعوني من حدود الرغبة التي تجعل كائناً ما واقعياً جداً.
دعني من كل الرغبات الواقعية والممكنة – دعوني من كل هذا لأذهب بكم إلى مسألتين:
الرغبة المستحيلة، وعوائق إشباع الرغبة وآثارها على الذات.
الهم الأكبر والأصعب والممض لدى أي ذات هو الرغبة المستحيلة.
هل تصل الذات فعلاً إلى مرحلة الرغبة المستحيلة؟ هل تصل إلى الرغبة المستحيلة مع علمها إنها مستحيلة ما الرغبة المستحيلة؟.
الرغبة عموماً هي الذات في المستقبل، حتى ولو كانت الرغبة في عالم الآخرة، فإن الذات تكون حاضرة في هذا العالم وتصوره.
الرغبة – بهذا المعنى – ما يجب أن تكون عليه الذات، الذات التي تعاني شحاً في الإشباع وتتولد الرغبة داخل الذات.
المستحيل مالا سبيل إلى تحقيقه في الواقع، فهناك تناقض بين المستحيل والعقل والواقع عندها تكون الرغبة المستحيلة هي الرغبة اللاواقعية، قلنا اللاواقعية ولم نقل اللاعقلية، لأن كل ما يصدر عن الذات وعقل الذات هو عقلي كما قلنا في كتابنا “كوميديا الوجود الإنساني”.
الرغبة المستحيلة ثمرة الذات المتأففة إلى الحد المطلق، إني لا أتحدث هنا عن التمنيات المستحيلة التي تحمل صاحبها على التأفف، بل عن التأفف الذي يخلق الرغبة المستحيلة.
فلقد أنتج التاريخ الدائم من وجود الشر في الحياة رغبة مستحيلة في وجود العالم بلا شر.
كم أنتج الموت – موت الإنسان رغبة قصوى في القيامة والبعث.
وأنتجت العذابات المتوالدة من غياب العدالة والمساواة الرغبة في العدالة.
وخلق الثأر والحقد الغربة في التسامح، وقيام مجتمع التسامح.
في تحليل الرغبة المستحيلة لا معنى للسؤال أيهما أولي الذات أم الرغبة بموضوع خارجي.
فالرغبة هنا لا تتحدد بالمتعة، كما لا تتحدد باللذة، إن الذات تتوجه أو تندفع إلى العالم النقيض، العالم المختلف، العالم الذي يحقق رغبة مقصودة وإن كانت رغبة مستحيلة.
فبمعزل عن تحديد معنى الشر في الثقافات الإنسانية، وبمعزل عما إذا كان الشر مطلقاً أو نسبياً، فإن الأنبياء والفلاسفة والحكماء خاضوا صراعاً قوياً مع “الشيطان” من أجل عالم بلا شيطان. من أجل انتصار إله الخير على إله الشر انتصاراً مطلقاً.
هذه الرغبة في انتصار الخير المطلق على الشر حاضرة في أذهان جميع البشر ومعبر
عنها من قبل كثير من الذين يفكرون.
غير أن مرحلة من مراحل التاريخ البشري لم تشهد ولن تشهد هزيمة الشر، فالرغبة
المستحيلة في هزيمة الشر – وإن كانت موقفاً – أخلاقياً محموداً – غير أنها لم تكن أبداً – وفي أية لحظة – رغبة واقعية. الموت أم المشكلات. ولست في معرض إعادة ما قلناه في كتابنا “الأنا”.
و”كوميديا الوجود الإنساني”، لكن الموت تأكيد لفكرة الرغبة المستحيلة، حيث البحث عن التحرر من الموت رغبة دائمة تحققت على مستوى الفكرة.
إن التقمص والنسخ والرسخ وبعث الإنسان جسداً وروحاً أو بعثه روحاً هي الرغبة المستحيلة التي أنتجها الكائن البشري علّه يتخلص من ثقل الشعور بالعدم المطلق لوجوده.
فالتأفف من الموت لا يوازيه أي تأفف، إنه الخوف على الحياة، على البقاء وما يترتب عليه من سلوك.
ولقد ترتب على الرغبة المستحيلة في الخلود خيال جامح، ومواجهة ضارية بين الفناء – الموت – وهو أمر واقعي تجريبي، يؤكد موت الآخر والرغبة في الخلود وهو أمر رغبة لا تؤسس إلا على الرغبة ذاتها. الرغبة التي لا أحد باستطاعته أن يحققها – لا الذات الراغبة ولا ذات آخر – فلا سبيل إذاً إلا لتصور المستحيل واقعاً ممكناً في عالم آخر غير منظور، حتى ولو كان هذا العالم موجوداً على الأرض. كالتقمص مثلاً.
ومن زاوية الرغبة المستحيلة فليس هناك فرق بين بوذا والمسيح وماركس، فالعالم بلا شر ولا عذابات ولا أحقاد ولا استغلال هو الرغبة المستحيلة لديهم جميعاً.
فالشيوعية هي عالم مرغوب حيث يعيش كل حسب حاجته، أن يكون هناك مجتمع يحقق حاجة كل إنسان فهذا أمرٌ مستحيل لاسيما ونحن لا نعرف تطور المجتمعات أصلاً.
الرغبة المستحيلة هي التعبير المتأفف لحضور الذات في هذا العالم.