fbpx

الدولة والسلم الأهلي: خيار السوريين الوحيد

0 4٬651

لا بد من ترسيخ الثوابت التي يجب ألا يختلف عليها أي سوري، وهي أن نظام الأسد البائد كان نظاماً ظالماً ومجرماً بحق كل السوريين، واستغل طائفته كرأس حربة في ممارسة إجرامه، وورطها معه عبر أكثر من خمسة عقود. ويجب ترسيخ اليقين بأن الثورة السورية قامت لإسقاط حكم الطاغية، وحاولت ذلك في البداية عبر اتباع الطرق السلمية كالمظاهرات والإضرابات وكل أشكال النضال السلمي. ولكن لأن هذا النوع من النضال لم يُجدِ نفعاً، اضطرت الثورة إلى حمل السلاح دفاعاً عن نفسها بعد أن أجبرها النظام على ذلك، ظناً منه أنه يستدرج الحراك المدني إلى مربع يُجيد اللعب فيه بل والانتصار لاحقاً. وهو الأمر الذي لم يتحقق في النهاية، حيث تمكّن الثوار السوريون من هزيمته عسكرياً بعد استنزافه خلال الأربعة عشر عاماً من عمر الثورة السورية.

وحاول النظام جاهداً تطييف الثورة السورية لإبعادها عن مدنيتها وشموليتها لكل أطياف السوريين، وترسيخ سرديته عن الحرب الطائفية. وساعده في ذلك كل الرعاع الذين استجلبهم من محور ولاية الفقيه الشيعي، وحاولوا جاهدين جرّ الثورة إلى هذا المنزلق، ولكنهم فشلوا فشلاً ذريعاً. كانت الأغلبية العربية السنية هي عماد الثورة ومحرّكها، وهي من دفعت جلّ التكاليف لاقتلاع ذلك النظام، لكنها لم تكن طائفية قبل إسقاط النظام، ولن تكون طائفية بالتأكيد بعد تحولها من الثورة إلى بناء الدولة.

لا ترى الأغلبية العربية المسلمة أنها طائفة من الطوائف، وأن ميزتها هي أنها الأكبر عدداً وتشكل الأغلبية الساحقة. فهي ترى أن العرب في سوريا هم الأغلبية، وهذا ركن أساسي من أركان هويتها. وترى أن المسلمين في سوريا هم الأغلبية الساحقة، وترى في ذلك الركن الآخر من هويتها.

ولن نغوص عميقاً في التاريخ لإثبات بديهيات نعيشها في الحاضر. فخلال الألف وخمسمائة عام من حكم بلاد الشام من قبل العرب أو المسلمين من غير العرب، لم يستقوِ العرب السنة في سوريا بالسلطة الحاكمة لطرد من ليس من لونهم من البلاد. وحافظ الجميع على صيغ العيش المشترك، وكانوا الأخ الأكبر لكل الإثنيات أو المذاهب الأخرى.

لذلك أرى أن الأغلبية السورية تتعامل مع سوريا والسوريين من منطق “أم الصبي” التي قد تغامر بالتخلي عنه اضطراراً خوفاً عليه. وهذا الكلام ليس نظرياً، بل يُجسّده الواقع. فقد توافق كل أطياف السوريين على تتويج الملك فيصل القادم من الحجاز ملكاً عليهم، وكان وزير دفاعه البطل يوسف العظمة كردياً. وتلاه كثير من الرؤساء والمسؤولين الكبار في الجمهورية السورية الوليدة من غير العرب أو المسلمين، وتولوا مكانة عالية عند السوريين جميعاً أثناء حياتهم وبعد مماتهم.

وفكرة “لعبة الأقليات” هي فكرة غربية استعمارية لخدمة مصالح إمبراطورية فشلت تماماً في الحروب الصليبية، وعادت للظهور في إبان مرحلة الضعف التي اعترت الدولة العثمانية. مع أن السجل الغربي حافل بالاضطهاد والإقصاء لكافة أنواع الأقليات. وخاضت أوروبا حروباً أهلية دينية كبيرة وصلت إلى حد حرب إبادة تمارس القتل على الهوية بين المذاهب الدينية المتفرعة عن الدين المسيحي، وأنشأت محاكم التفتيش. ويذخر التاريخ بأخبار الحروب القومية في أوروبا، وليس آخرها اضطهاد اليهود في القارة العجوز. أما المهاجرون الأوروبيون الذين أسسوا الدولة الأمريكية، فتاريخهم مخزي ومعروف في إبادة السكان الأصليين.

الكثيرون من فلول الأسد راعهم أو فاجأهم سقوط الأسد. مع أن العلوية العسكرية، كما يقال، هربت ولم تقاتل، لا على مستوى عقيدة السيطرة والحكم التي نشأت وأسست لحقبة سورية طويلة ساد فيها العسكر العلوي، بل تغوّلت على مصادر القرار. ولم تكن أكثر من فقاعة صابون حينما وجدت أنها ستقاتل وجهاً لوجه. ولم تنفع تلك العلوية العسكرية في خلق عقيدة قتالية طائفية عند منتسبي الأفرع الأمنية والجيش، حيث ما أتقنوه لم يكن أكثر من استمراء فرض الخوات والمتاجرة بأهالي المعتقلين وجباية الأموال عن طريق مثل التعفيش والتهريب.

وبعد سقوط الأسد، تبخرت الأجهزة الأمنية والعسكرية من تلقاء نفسها وحلت نفسها دون صدور قرار من المنتصرين عليها. وكانت هزيمتهم مضاعفة، حيث بالإضافة لهزيمتهم العسكرية، تم انهيار معنوياتهم وظهور خواءهم الأخلاقي والمهني، والذي وصل إلى خلع ألبستهم العسكرية وإلقاء أسلحتهم والهروب زرافات ووحداناً إلى أهليهم.

ارتأت القيادة السورية استكمال مشهد التغيير في سوريا، والذي لم يتسبب في طغيان مشاهد الدم والخراب والانتقام. ارتأت أن تستكمل المشوار مع تلك الفلول بإبداء قدر (غير متوقع) من الرأفة والتسامح والعفو عند المقدرة، وتطبيق عدالة انتقالية تطال رموزاً كبرى (غير مختلف عليها) في الإجرام، والصفح عن البقية لمحاولة دمجهم بالحياة من جديد باعتبارهم أدوات لا قرار لها في أجهزة النظام البائد، على أمل السير نحو سوريا الجديدة وتجنب حقول الألغام، والحفاظ على السلم الأهلي وردم الفجوات المجتمعية وتضميد الجراح. وقدّمت القيادة خشبة الخلاص لتلك الفلول عبر منعها للعمليات الانتقامية المتوقعة، والتي تحصل في كل البلدان التي يحصل فيها التغيير بعد عقود من الظلم والإجرام، وعبر عفو عام تحت مسمى “تسوية وضع” يقوم بها منتسبو الأجهزة الأمنية والميليشيات المسلحة.

بالتأكيد كان لخطوات القيادة الجديدة وقع وأثر في كثير من النفوس، والتي حاولت وتُحاول التكيف مع الوضع الجديد. إلا أن فئة أخرى لم يُعجبها ذلك الوضع، واستغلت وجود الرغبة الإيرانية في قلب الطاولة على المنتصرين الجدد في سوريا والإقليم، وإشعال حرب أهلية انتقاماً من فشلها في الحفاظ على سوريا كإحدى حلقات الهلال الشيعي، والذي صرفت عليه المليارات والجهود، وخرجت من المولد السوري بلا حمص وفي ليلة ما فيها ضوء للقمر.

كانت الخيوط تُربط بين الفلول في الداخل وقياداتهم في الخارج بالتعاون مع ميليشيا حزب الله والميليشيات العراقية تحت توجيه وإدارة الحرس الثوري. وتم إدخال الأموال والسلاح والاحتياجات اللوجستية من لبنان. حيث من المحتمل أن يكون تم اتخاذ القرار بإطلاق العملية أثناء تشييع المقتول حسن نصر الله، وكان الموعد المتفق عليه هو السادس من آذار في عملية منظمة كبرى للسيطرة على الساحل السوري أو على الأقل محافظة طرطوس المجاورة للبنان، حيث قاعدة التموين والإمداد. ولم يكن عبثاً الإعلان عن مجلس عسكري في الساحل برئاسة غياث دلة، يكون بمثابة القيادة في المنطقة التي يتم النجاح في السيطرة عليها والاحتفاظ بها والدفاع عنها. وقد تكون من أسباب الاستعجال في إطلاق العملية قبل التحضير لها بشكل أكبر هو إجهاض خطوات بناء الجيش السوري الجديد وغيره من مؤسسات الدولة الجديدة، والإضرار بالشرعية التي يكتسبها العهد الجديد داخلياً وخارجياً مع مرور الوقت. إذ لا يمكن أن تكون أهداف تلك العملية في نظر المخططين لها قلب نظام الحكم وإعادة الأسد الهارب إلى السلطة، ولا أراها أكثر من فوائد لإيران للإمساك بورقة تفاوضية هامة.

خلال يومي 6 و7 آذار، تم امتصاص فورة الهجوم للفلول من قبل الجيش السوري والأمن العام، ثم البدء بعمليات أمنية وعسكرية للقضاء على تلك البؤر التي انتشرت في المدن والجبال الساحلية.

استفرت كل القوى الشعبية والعسكرية في بقية المحافظات السورية، ووضعت نفسها تحت تصرف القيادة في دمشق، في تجسيد لاستفتاء شعبي على شرعية القيادة الجديدة، وفي مشهد سوري غير مألوف على التلاحم بين الدولة والشعب.

كانت المواقف العربية داعمة للحكومة السورية، ويُسجّل أيضاً الموقف التركي والأمريكي اللذان أكّدا على عدم العبث بالاستقرار في سوريا وإشعال الفوضى. ولا أعتقد أن لروسيا وإسرائيل وقسد أي إصبع في ما جرى، ولكنهم بالطبع لا يتمنون الاستقرار في سوريا ويُحبّذون عدم استقرار الحالة الأمنية وإضعاف السلطة المركزية في دمشق.

لا أعتقد أن للسوريين جميعاً سوى خيار التلاحم بين الشعب والدولة، والتي تُمثّلها قيادة العهد الجديد في عبور تلك المرحلة الخطيرة من عمر السوريين، والحرص على ترسيخ السلم الأهلي، والضرب بيد من حديد على من يحاول العبث فيه، وملاحقة فلول النظام البائد، والتصدي للمرحلة الأهم، وهو بناء الجيش السوري الواحد الذي يحمي سوريا الواحدة الموحدة تحت سلطة مركزية واحدة تمتد على 185 ألف كيلومتر مربع.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني