fbpx

الحِقْدُ المَحْمود

0 74

الحقد شعور بالاستياء والغيظ والكره والغضب والرغبة بالانتقام، وقد شاع في المجتمع أنّ الحقد خُلُقٌ مذموم، وأنّ الحاقد فاقد للإنسانية والحبّ، ويغيظه رؤية الناجحين، ويستاء إن مسّت الآخرين حسنة، ويفرح إذا أصابتهم سيّئة، فهو ذو مشاعر مرضية، وذو نفسيّة غير سويّة..

وإنّ هذا المفهوم الاجتماعي للحقد غير دقيق، ولا يصدق وصفاً للحقد، ولا يغطّيه كلّه، ولا يعطيه حقّه، ولا يُفصّل أنواعه، ولا يبيّن محموده، ولذلك وجب الوقوف عنده، ذاكرين حدَّه، حامدين للإنسان حقدَه.

وهل يُحمَدُ حقدُ الإنسان؟!

نعم؛ إذا كان محموداً لا مذموماً، فهناك نوعان للحقد؛ محمود ومذموم:  

فالحقد المحمود توقظه السلوكيات الاجتماعية غير العادلة أو غير الأخلاقية، وأما الحقد المذموم، فيحرّكه الهوى والطمع فيما في أيدي الناس، لا الظلم الاجتماعي ولا الفساد.

والحقد المحمود يتوجّه إلى ما يحمله الآخر من سلوكيات غير إنسانية، لا إلى ذاته وشخصه، وأما الحقد المذموم، فيتوجّه إلى الذات والشخصية، أي إلى فرد بعينه لا إلى سلوكه.

والحقد المحمود له أسباب علمية ومنطقيّة، وله مسوّغات إنسانية وأخلاقية، وأما الحقد المذموم، فتحكمه العاطفة لا العقل والمنطق، وليس له ما يُسوِّغه إنسانيّاً وأخلاقيّاً، بل هو بعيد عن الإنسانية والأخلاق.

والحقد المحمود يهدف إلى تحقيق العدالة والحقّ والإنصاف والقيم الأخلاقية، وأما الحقد المذموم، فغايته الانتقام والأذى والظلم.

والحقد المحمود دافع إلى العمل والانخراط في النشاطات الاجتماعية والسياسية من أجل التغيير الحسن، مما يؤدي إلى تحسين الحالة الاجتماعية والسياسية، وأما الحقد المذموم، فدافع إلى العزلة والجمود والقعود، مما يؤدي إلى تدهور العلاقات الاجتماعية، وسوء الحالة السياسية.

والحقد المحمود يُترجَم إلى عمل سياسي، ونشاطات مجتمعية، وحركات مناهضة للظلم، وداعيةٍ إلى الإصلاح وتحقيق العدالة، وأما الحقد المذموم، فيُترجم إلى سلوكيات عدوانية، تتجلّى في تشويه سمعة الشرفاء، وقذف الأبرياء، وشيطنة الأتقياء.

والحقد المحمود ينجم عنه تغييرات إيجابية محمودة في السياسات والممارسات، ويعزّز من الوعي الاجتماعي، وأما الحقد المذموم، فيؤدي إلى زيادة التوترات والصراعات، وقد يتسبب في أضرار اجتماعية ونفسية.

والحقد المحمود يُحفِّزه التفكير الناقد وتحليلُ القضايا الاجتماعية بوعي وعمق، مما يؤدي إلى فهم أفضل للحالة الاجتماعية والسياسية، وأما الحقد المذموم، فيغذّيه التفكير الحاقد الذي يسيطر على صاحبه، ويحيله أعمى لا يهتدي سبيلاً.

أمثلة على الحقد الاجتماعي المحمود:

وأمثلة الحقد المحمود في التاريخ كثيرة، ونلاحظ أنه وراء كل فضيلة نُشرت، ووراء كل رذيلة سقطت، ووراء كل ثورة وقعت.

ففضيلة الإسلام ما كان لها أن تنتشر لولا حقد الصحابة المحمود على السلوك السّيّئ والخلق المذموم الصادر من أهل الفجور، فحقدهم المحمود جعلهم ينشرون الإسلام رسالةَ الحق والسلام، وحقدُهم المحمود جعلهم يقضون على كل رذيلة من سفهاء الأحلام.

وإن الحقد المحمود قد حرّك الصعاليك الشرفاء في الجاهلية الذين أغضبهم وأثارهم الفقر والجوع، ولؤم الأغنياء المانعين حق الفقراء، فحقدوا عليهم، وأعلنوها ثورة لاسترجاع الحقوق، ولسان حالهم:

تَبِيتُونَ فِي الْمَشْتَى مِلَاءً بُطُونُكُمْ      وَجَارَاتُكُمْ سُغْبٌ يَبِتْنَ خَمَائِصَا

وإذا ما بحثنا عن السبب الحقيقي الكامن وراء اندلاع الثورات عامة، والثورة السورية خاصةً، فهو الحقد المحمود؛ فالثائر إنسان حاقد، نعم رأى الجَوْر فحقد على الجائر، وأبصر القهر فحقد على القاهر، وعاين الاستبداد فحقد على المستبد الفاجر، وسمع آهات الفقراء فحقد على الغني والشاطر، ولاحظ التآمر على الأحرار والحرائر، فحقد على المتآمر، وشاهد أمر تقديم الأصاغر على الأكابر، والقاعد على المهاجر، والخانع على الثائر، فحقد على المُقَدِّم الآمِر.

وإن ثورتنا السورية على نظام الأسد قامت على الحقد المحمود؛ ولولاه لما تحرّك ثوار سورية الذين عانوا من الظلم والفساد والاستبداد في حكم الأسدَين، ومن ازدواجية المعايير والكيل بمكيالَين، فحقدوا، وترجموا حقدهم ثورةً على الأسد ونظامه البائدَين.

فمرحباً بالحقد المحمود الذي يدفع إلى الثورة على الظلم والفساد، والقهر والاستبداد، والذّل والاستعباد، وإنّ حقدنا المحمود الذي أسقط حكم الأسد، سنغذّيه لينمو ويكبر في نفوسنا، ونحيله ناراً على كل من تسوّل له نفسه أن يعيد سيرة النظام الذي طغى في البلاد، وأكثر فيها الفساد، وظلم فيها العباد، وحكمهم بالاستبداد، وسنورث هذا الحقد للأولاد والأحفاد، ونوصيهم نحن الأجداد بأن يكون لهم كالزاد، في مجتمع لم يخل بعدُ من الفساد:

حقدُ الشّعوب براكينٌ مسمَّمة    وَقودُها كلُّ خوّان وغدّار

ويلٌ وويل لأعداء البلاد إذا    ضجّ السكونُ وهبّت غضبةُ الثّار

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني