الحقيقة والوهم في الوعي السياسي النخبوي السائد!
سلطة قيس بن المنصف بن محمد سعيّد – أستاذ القانون الدستوري – تفتقد إلى الحدّ الأدنى من الشرعية الدستورية، والشعبية والوطنية، وقد شكّلت “حركته التصحيحيّة المجيدة” في 25 تمّوز 2021 انقلاباً عسكرياً على حكومة وبرلمان ودستور ديمقراطي، بدعم إقليمي، وضوء أخضر أمريكي/فرنسي، وفي سياق معاد لصيرورات التغيير الديمقراطي التي فجّر حراكها الشعبي، المتمرّد على سلطات الأنظمة التي شكّلت طيلة حقبة الحرب الباردة مرتكزات السيطرة الإقليمية للولايات المتّحدة، حريق جسد الراحل “بوعزيزي”[1]!
سلطة سعيّد، الديكتاتورية العسكرية، التي تحاول ستر حقيقتها بانتخابات ومجالس صوريّة، هي إحدى تخريجات “الثورة المضادة” للتغيير الديمقراطي – بقواها الخارجية، الإقليمية والأمريكية، وأذرعها المحليّة، وهدف قواها الإستراتيجي المشترك – “قطع مسارات الحل السياسي والتحوّل الديمقراطي – وقد أخذت في مصر ثنائية “الأخوان – العسكر”، وفي السودان، “المجلس العسكري/المدني”، وفي سوريا واليمن وليبيا، مسارات؛ “الخيار العسكري وأدواته من الميليشيات “الطائفية/القومية”؛ وما نتج عن نجاح المهمّة من تفشيل مقوّمات الدولة، وتقسيم سورية إلى حصص ومناطق نفوذ[2]، وبروز سلطات أمر واقع، يُعاد تأهيلها في سياق مشروع “تسوية سياسية”، أمريكي، أخذ ما يناسب تحقيق أهدافه من آليات مساري “جنيف/آستنة”!!
في ضوء عوامل هذا السياق، لا نستطيع أن ننكر وجود مؤامرة كونية واقعية، لكن يجب ألا تنطلي علينا أهداف أفكار دعايتها الرائجة، التي تسعى لتضليل الرأي العام حول طبيعة أهداف “المؤامرة” وقواها، والعلاقات الجدلية التي تربطها!.
إذ تهدف المؤامرة الكونية، وتسعى أطرافها إلى قطع مسارات الانتقال السياسي والتحوّل الديمقراطي (وليس إسقاط أنظمة المقاومة، أو تحسين سلوكها)، التي يهدد نجاحها أركان أنظمة المنطقة، التي تشكّل جزءاً من النظام الرأسمالي الذي تقوده واشنطن عالمياً، وتمثّل بطبيعتها الكولونيالية مرتكزات السيطرة الإقليمية للولايات المتّحدة، يصبح من الطبيعي في منطق تقاطع المصالح، أن تتساوق مصالح الجميع على الصعيد الإستراتيجي (القيادة الأمريكية وشركاء النهب والسيطرة التشاركية الإقليمية) في تنفيذ المؤامرة الكونية وأن “تقود” مشروعها وتدير المعارك الجانبية بين قواها (جميع الأنظمة الإقليمية دون استثناء، خاصّة، أصحاب مشاريع السيطرة الإقليمية الأكبر، المتصارعة على الحصص ومناطق النفوذ – أنظمة إيران وتركيا والسعودية و”إسرائيل”)، الولايات المتّحدة، ليس فقط بواقع كونها زعيمة النظام الرأسمالي الإمبريالي، بل وبواقع كونها صاحبة أكبر مشروع سيطرة ونهب تشاركي إقليمي، واستخدامها للإسلام السياسي، المقاوم والجهادي، كأداة رئيسة لتحقيق أهداف مشروع سيطرتها وإدارة حروبها البينيّة؛ ويصبح من الطبيعي، على صعيد الحرب الإعلامية، أن تتكامل أفكار “المؤامرة الكونية” من جهة، وأكاذيب “الدعاية الأمريكية”، من جهة ثانية، في إخفاء حقيقة تموضع قوى “الجبهة الواحدة، المعادية للديمقراطية” بما يضلل جمهور وقوى التغيير الديمقراطي، ويمزّقه، ويجيّر نخبه ورأيه العام ووعيه السياسي، في صراعات الشركاء، سواء لتحقيق الهدف المركزي، أو لتحقيق اهداف المشاريع الخاصّة، في سياق الصراع البيني على تقاسم الحصص ومناطق النفوذ!!.
لتبرير عدائها لحراك الشعوب السلمي الإصلاحي الذي يهدد نجاحه أدوات سيطرتها، ولإعطاء ممارساتها المعادية لأهداف وقوى المشروع الديمقراطي غطاء وشرعية وطنية، تدّعي “أنظمة المقاومة “أنّه (حراك السوريين السلمي الإصلاحي) مجرّد أداة ومَطيَّة، لإسقاط أنظمتها أو “تحسين سلوكها”، لخدمة أهداف واشنطن (والصهيونية)، وتستخدم كلّ وسائل قمعها دون رادع حقيقي؛ ولتبرّر الولايات المتّحدة (صاحبة مشروع تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان!!) عدم اتخاذها سياسات رادعة في مواجهة أدوات ووسائل أنظمة المقاومة، ولتتيح لها كلّ إمكانات النصر، تروج دعاياتها لأكاذيب انسحاب تكتكي (تعتبره دعاية المقاومة انتصار لها!!) أو تراخي استراتيجي تحت تأثير هزائمها، (التي الحقتها بها انتصارات المقاومة)، وما أتاحته تكتيكات واشنطن المخادعة “لفأر المقاومة” من حريّة اللعب في غياب القط الأمريكي؛ وقد ساهم في ترويج تلك الأكاذيب خيرة نخب المعارضات والموالاة، وتيّارات سياسية وثقافية ديمقراطية و”مقاومجية”، واستهدفت عقول وقلوب أبناء المنطقة، من جميع الطوائف، لتتحوّل إلى ما يشبه المسلّمات في الرأي العام السوري، الشعبي والنخبوي، نجحت، بالتكامل مع ممارسات قوى الثورة المضادة، بتفتيت صفوف الشعوب الوطنية، وتحويلهم إلى ادوات لتحقيق اهداف مشروع عدوّهم المشترك، في قيادته الأمريكية، والشركاء الإقليميين، والأذرع المحلية!!.
في مواجهة هذه الصيرورة الكارثية، لا تجد معظم “نخب اليسار العلمانوي” ما يستحق اللوم والنقد سوى تراث الشعوب الديني وعفنه المتأصّل، فتحمّلته مسؤولية تجليات الحروب الطائفية التي يشنّها أطراف المشروع الأمريكي، مركّزة وعيها ونضالها الديمقراطي حول فكرة أولوية التنوير بالتراث![3].
على صعيد الممارسة السياسية والعسكرية، تفسّر عوامل السياق طبيعة العلاقات الجدلية بين قوى الخندق الواحد!.
إنّ تقاطع مصالح وسياسات جميع قوى “المؤامرة الكونية” في ربيع 2011 عند هدف منع حصول حل وانتقال سياسي، في سياق صيرورة التغيير الديمقراطي؛ لم يؤدّ بشكل تلقائي إلى حصول تطابق في رؤى وسياسات الجميع حول وسائل وأدوات ومسارات تحقيق الهدف النهائي المشترك؛ وهي حالة طبيعية، يفسّرها تصارع اهداف وسياسات مشاريع السيطرة الإقليمية الخاصّة؛ وقد ساهمت نتائجها في تضليل الرأي العام السوري، وهدر جهود نخبه السياسية والثقافية على مذبح مصالح قوى الثورة المضادة، والارتهان لأجندات سياساتها!.
بمعنى، تناقض وصراعات جميع أطراف قوى المؤامرة الكونية (التي شكّلت في سياق تبنيها للخيار العسكري الطائفي، الثورة المضادة، بقيادتها الأمريكية، وشركائها الإقليميين والدوليين، وأذرعها الميليشياوية) البينيّ على تحقيق أهداف مشاريعها الخاصّة، المتنافسة، كان من الطبيعي أن يُنتج اختلاف في الرؤى حول افضل وسائل وأدوات هزيمة حراك السوريين!.
في حين رأت بعض القوى الإقليمية أنّ “الخيار الثالث” هو الأفضل لحماية مصالحها، مسار “إصلاح سياسي”، يمنع انتقال الصراع السياسي إلى ساحات المواجهات الحربية وما قد ينتج عنها من تغيير في خارطة المصالح القائمة؛ يحافظ على سلطة النظام، ويمتّص غضب الجمهور المتمّرد؛ وتقاطعت بهذا النهج مع مصالح الحراك السلمي، ومصالح جميع السوريين المشتركة، وجدت سلطة النظام وشريكه الإيراني، في تقاطع مع مصالح وسياسات روسيا والولايات المتّحدة الإقليمية، المتعارضة مع مسارات الإصلاح والتغيير الديمقراطي، أنّ “خيار الحرب”، بأدوات الميلشة والتطييف، هو أفضل المسارات لمواجهة التحدّيات الديمقراطية التي خلقها تفاقم الصراع، ولضمان أفضل شروط تحقيق أهداف مشاريعها؛ وشكّلت، (بعد نجاح قوى “جبهة الحرب” في تفشيل جهود قيام حل سياسي، قادته الجامعة العربية، بدعم من تركيا، سياسات السعودية وتركيا) “المقاومة” أكبر العقبات أمام انتصار سريع لأهداف قوى الخيار العسكري، وصلت خلال 2014 إلى درجة هدّدت بسقوط النظام، وهزيمة الميليشيات الطائفية والقومية الداعمة له – رغم إدخال داعش في المعركة لإضعاف جبهة المليشيات التي تقاتل ضد النظام – ما دفع الولايات المتّحدة للتدخّل المباشر في صيف 2014، تحت ذريعة محاربة داعش (التي أتاح “انسحاب تكتيكي” لجيوش الولايات المتّحدة من المدن العراقية في نهاية 2011 لـ “نوري المالكي”، وإيران، إطلاقها، ووصولها إلى سوريا، تحت سمع وبصر الجميع!.).
ليس خارج هذا السياق العام، نفهم ظروف التنسيق اللاحق بين الولايات المتّحدة وروسيا على تدخّل عسكري روسي مباشر 2015، بات دوره حاسماً لإعادة التوازن في ميزان القوى لصالح النظام السوري وشريكه الايراني، ورسم خارطة “سوريا المفيدة” بما يتوافق مع خطط واشنطن لقيام تسوية سياسية للصراع تضمن لها السيطرة على حصّة الأسد، (شمال شرق سوريا)؛ وكان من الطبيعي أن تصطدم جهود روسيا والولايات المتحدة مع مصالح تركيا، المنافس الإقليمي الأكبر في الصراع على سوريا، التي سعت سياسياً وعسكرياً، في ظل غياب حل سياسي شامل، وفي مواجهة خطط السيطرة الأمريكية – الروسية – الإيرانية، لبناء أوراق قوتها في صراعات تقاسم الحصص ومناطق النفوذ!.
في نهاية 2019، وفي أعقاب مواجهات عسكرية مباشرة، كادت تتحوّل إلى حرب شاملة بين تركيا وروسيا، قد تقلب نتائجها موازين قوى الصراع العسكري لصالح تركيا وشركائها في ميليشيات المعارضة، توصّل الرئيسين بوتين وأردوغان إلى اتفاقيات شبه نهائية، رسمت الخطوط العامّة لخارطة تقاسم الحصص ومناطق النفوذ، وأطلقت قطار التسوية السياسية الأمريكية – الروسية، الذي يتمحور حول قيام “تهدئة مستدامة” بين سلطات الأمر الواقع الجديدة، تتضمّن قبول واعتراف متبادل، وإعادة تأهيل شاملة، ومتزامنة. لم تغيّر من حقائق الصراع محاولات روسيّة وتركيّة خلال 2020-2022 لتحريك خارطة السيطرة، على حساب حصصهما، المشتركة، أو جهود تركيا لزيادة حصّتها على حساب مناطق السيطرة الأمريكية، وقد أعاقت تقدّم خطوات التطبيع، والتأهيل.
الجديد اليوم في العلاقات بين النظامين السوري والتركي برعاية روسية، الذي تمثّل في لقاء وزراء دفاع روسيا وسوريا وتركيا في موسكو، 30 كانون الأول، لا يخرج عن إطار لوحة الصراع، ويعبّر عن تقاطع جهود تركية – روسية لتحسين حصص الدولتين، على حساب الولايات المتّحدة!.
المؤسف والمخيّب للآمال أن يخفي طيف واسع من “المعارضات” و”النخب السياسية” والمؤرّخين، تلك الحقائق في الصراع على سورية ويركّزوا على بعض تجلّيات الخيار العسكري وأدواته، لتحميلها أسباب تحوّل الحراك السلمي إلى حروب طائفية، ومسؤوليّة ما نتج عنه من احتلالات، وتدمير مقوّمات الدولة!.
المؤسف أيضا أن تنكر بعض نخب “اليسار” أو تبتذل دور العامل الخارجي، الأمريكي، اعتقاداً منها انّه يتعارض مع منهج التحليل ” الموضوعي/العلمي/الماركسي”، وكأنّ فكر وثقافة ماركس، وكبار المفكّرين الماركسيين، لم يبنَ بمنهج وعلى فهم طبيعة وآليات النهب والسيطرة الإمبريالية في المراكز والاطراف، ولم يبيّن الدور الحاسم لأدوات وآليات السيطرة والنهب التشاركي الإمبريالي، السياسية والاقتصادية، في صناعة مصائر دول المنطقة!.
يتجاهل هؤلاء الموضوعين اهم حقائق الصراع على سوريا والاقليم، التي تؤكّد الدور القيادي والمسؤولية الأولى للولايات المتّحدة، ويشهروا سيف “المؤامرة” في وجه المحاولات الجريئة التي تحاول مقاربتها!!.
يتباكى بعضهم على “مفتاح الحل السياسي” الداخلي، متجاهلين واقع ما بات يعرفه أطفال مخيّمات اللجوء من أنّ المفتاح “السوري” الواقعي الوحيد هو الذي يفتح أبواب النهب والسيطرة التشاركية بين قوى الداخل، وحماتهم في الإقليم والعالم، ويتقاطع مع مصالح الولايات المتّحدة!.
في جهلها أو تجاهلها لحقائق الصراع، تتسابق نخب المعارضات السياسية والثقافية على الاصطفاف لجانب إحدى قوى الثورة المضادة الخارجية وأذرعها السوريّة، تحت غطاء التبريرات التي تقدّمها الدعاية المشتركة! فمَن لم يجد بموسكو ومنصّاتها وشركائها الإقليميين ملاذا وفرصة لتحقيق اوهامه، تخندق بقوّة إلى جانب تركيا وجيشها الوطني، أو الولايات المتّحدة، ومشروع إدارتها الذاتية، الديمقراطية!!.
إذا كان العقل زينة، والجهل السياسي، يضع أصحابه في خنادق الثورة المضادة، بغضّ النظر عن حسن النوايا؛ فإنّ “الهبلنة” السياسية والثقافية، التي يعبّر عنها سلوك ووعي بعض تعبيرات “المعارضة” المرتهنة، أعيت من يداويها!.
السلام والعدالة لشعوب المنطقة!.
[1]– “طارق الطيّب محمد البوعزيزي”، هو شاب تونسي قام يوم الجمعة 17 كانون الأول عام 2010 بإضرام النار في نفسه أمام مقر ولاية سيدي بوزيد احتجاجاً على مصادرة سلطات البلدية في مدينة سيدي بوزيد لعربة كان يبيع عليها الخضار والفواكه لكسب رزقه، وللتنديد برفض سلطات المحافظة قبول شكوى أراد تقديمها في حق الشرطية “فادية حمدي” التي صفعته على وجهه أمام الناس، صارخة في وجهه “Dégage”، “ارحل”!.
[2]– لصالح جميع قوى الخيار العسكري (الثورة المضادّة للتغيير الديمقراطي)، بدرجات متفاوتة، تعكس حقائق موازين القوى، وكان من الطبيعي أن تحصل الولايات المتّحدة على “حصّة الأسد” في سيطرتها على قلب سوريا الاقتصادي، وموقع جيوسياسي استراتيجي، على تخوم “العراق وسوريا وتركيا” وبما يمكّنها من التحكّم بكوريدورات العبور الإيرانية، ومن تحديد حجم الحصص، ورسم مآلات المشهد السياسي.
[3]– يعتقد بعض المثقفين المحترمين أنّ نقد التراث، وخلق ثقافة التنوير، وكلّ ما يساهم في صناعة “إصلاح ديني” هو الشرط الأساسي لقيام “إصلاح سياسي” وتغيير ديمقراطي!.
بخلاف هذا الرأي، تدافع نخب أخرى بقوّة عن أولوية التغيير السياسي، لإعادة تشكيل وعي عام عصري، وثقافة تسامح إنسانية.
جاء في إهداء كتاب “إعادة صناعة الطوائف” للمفكّر “حسين شاويش”:
“إلى كل من لايزال يتمسّك بفكرة أنّ التخلّص من الطائفية لابدّ أن يمرّ من العلمانيّة، كنظام للدولة، وذهنية للمجتمع، رغم أنّه يرى أنّ كثيراً من العلمانيّين طائفيّون في الممارسة”!.
في نفس الإطار، جاء في دراسة للصديق فراس سعد – الناس نيوز – بعنوان: “المعرفة والأيديولوجيا والعلمانية والإسلام” للكاتب السوري حسام درويش في متناول القراء”.
“… وفي إضافةٍ نادرةٍ مخالفةٍ لرأي عموم النخب السياسية المثقفة، يجد الكاتب درويش أن القول إن الإصلاح ديني شرط ومقدمة للإصلاح السياسي، يجسد معادلة خاطئة، ويقدم، الدكتور درويش، في المقابل، معادلة معاكسة، تكون خطوتها الأولى، اللازمة والضرورية، إصلاحاً سياسيّاً، ومن ثم يمكن أو ينبغي أن تؤدي تلك الخطوة الأولى إلى خطوة الاصلاح الديني.” هي نفس الفكرة التي تناولتها الصديقة العزيزة “آيات أحمد ونوس”:
“أي تنوير، تحت سقف أي سلطة، غير سلطة العقل هو تدوير للواجهة لإخفاء الظلام القابع خلفها ومراوغة في مواجعة العجز والفشل وتزوير وتخدير لإعادة شد اللجام على الرقاب وليس التحرير لأن العقل وحده قادر على تطوير أدواته وإنتاج واقعه الأنسب والأفضل لمسايرة عصره وحاجات إنسانه”؛ ومن الطبيعي ألا يجد العقل البيئة الآمنة لإنتاج وعي علمي بالواقع والتراث إلّا في رعاية، وتحت حماية قانون ومؤسسات “نظام سياسي علماني”، ديمقراطي.
على أيّ حال، تُظهر تجارب شعوب المنطقة عجز كلّ أشكال الإصلاح الديني وثقافة التنوير عن إطلاق صيرورات انتقال سياسي وتحوّل ديمقراطي، ولجوء السلطات المسيطرة وشركائها الإقليميين والدوليين، وخصومها السياسيين، ليس فقط لجميع وسائل تعزيز الثقافة والوعي المثالي، الغيبيّ، تحت يافطات دينية، بل وتحويله إلى “وعي سياسي” طائفي، وميليشيات فتّاكة، في مواجهة تطلّعات الشعوب التحررية النهضوية، ولقطع مسارات التغيير الديمقراطي!
في ضوء تلك الدروس والتجارب التاريخية، وبناء على دروس حروب الثورات المضادة التي اجتاحت المنطقة في أعقاب حراك ربيع 2011، وعلى كيفيّة تحويل “الوعي الطائفي” الديني إلى “وعي سياسي طائفي” واستخدامه كسلاح في مواجهة استحقاقات ديمقراطية وطنية شاملة، أعتقد أنّ تنوير الوعي الجمعي بالتراث، وامتلاك رؤية عقلانية لأحداث التاريخ و الواقع السياسي، لا يبدأ بنقد التراث، وعقلنة المقدّس، من وجهة نظر الحاضر، وما راكمه العقل البشري من ثقافة ومعارف!!.
خلق ثقافة التنوير، وبناء عقلية علمية موضوعية هي صيرورة سياسية اجتماعية اقتصادية متكاملة، تمرّ حتما بنظام سياسي، علماني، ديمقراطي، يخلق مسارات بناء العقل ومقوّمات الحياة الكريمة؛ وهو السياق الوحيد لوقف صناعة الوعي الطائفي، وما ينتج عن تجييره سياسيّا في حروب قوى الثورة المضادة من أشكال الصراعات الطائفية التي تفتت شعوب المنطقة، لصالح أنظمة الاستبداد المحلية، ومشغليها في الخارج!!