التنوير الإسلامي والعقلانية.. وجدلهما
الحديث عن التنوير الإسلامي هو حديث عن ضرورة تطور المجتمعات الإسلامية فكرياً وسياسياً واجتماعياً، فالمجتمعات التي تنغلق على قراءات وتفسيرات ثابتة للنص القرآني، وتدعي أنها قراءاتٌ وتفسيرات صالحة لكل زمان ومكان، إنما هي مجتمعات توجد كجسدٍ مادي في القرن الحادي والعشرين، وكبنىً عقلية ونمط تفكيرٍ لا تزال تعيش قبل ألف عام ونيّف من زمننا.
بحثنا التنوير الإسلامي والعقلانية وجدلهما، يناقش الفرق البنيوي بين مفهوم التنوير الإسلامي ومفهوم العقلانية، ويحاول الكشف عن العلاقة الجدلية بينهما، من خلال المحاور التالية:
- أهداف التنوير الإسلامي
- العقلانية ومفهومها ونشأتها
- أهداف العقلانية
- جدل التنوير الإسلامي والعقلانية
- عقلنة التنوير الإسلامي
أهداف التنوير الإسلامي
التنوير الإسلامي نمط تفكير، يستند على تحليل الظاهرة الوجودية، أو الاجتماعية، أو السياسية، وتركيبها، يُراد منه تحرير العقل لدى الانسان المسلم، من الركون لتفسيرات واجتهادات، تمّت على النصّ القرآني في مراحل تاريخية، تسبق عصرنا بمئات السنين.
لذا يحقّ التساؤل عن كيفية اعتماد نصوص وتفسيرات، تمّ وضعها في ظروف سياسية واجتماعية، تخصّ مجتمعات ذات درجة من التطور، ولا يمكن اعتمادها في أزمنة لاحقة، نتيجة تغيّر البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية.
لهذا يجد التنوير الإسلامي المعاصر، أنه يستهدف بنى فكرية متخلفة، تتحكم بنمط التفكير والحياة اليومية للإنسان المسلم، وهذا يجعلنا نقول: “التنوير الإسلامي ذاته ضرورة قصوى، لمعالجة التخلّف، وتمكّن الاستبداد من حاضر العالم الإسلامي”[1].
إن تحرير العقل الإنساني، يعني استخدامه وفق منهج علمي، ونقصد بالمنهج العلمي اعتماد منهجٍ تحليليٍ تركيبيٍ استنباطي، فنحن لا يمكن أن نفهم أي ظاهرة اجتماعية أو علمية أو سياسية، دون أن نقوم بتحليلها، بدءاً من سبب نشوئها، وصيرورة تطورها، ومآلاتها.
ولهذا، لا يمكن اعتماد قياس فكري ثابت على بنى متحركة، وهذا أس التنوير الإسلامي، “إذ يرتبط التنوير بفكرة التطور، وهو يهدف إلى تغيير النظام الاجتماعي السائد، من خلال التأثير في الثقافة، فهو عملية تبشيرية، تشتغل على الوعي العام، لتنشيط قدراته على صناعة التغيير، أو القبول به[2].
ولكن هناك من يذهب إلى خلط معرفي لا يتسم بالعلمية، فيرى في التنوير الإسلامي أنه توازن بين مستويين غير متكافئين، هما التوازن بين “القلب والعقل”، ناسفاً ركائز التنوير الحقيقية، التي تعتمد على فكرتين متلازمتين، هما العقلانية والحرية. فمثلاً الدكتور عبد العزيز التويجري يعتقد أن “التنوير الإسلامي هو تنوير للعقل والقلب، في توازن دقيق وتناغم متكامل”.[3]
هذا الاعتقاد يخلط بين مستويين من نمط التفكير، مستوى العقل، ومستوى النفس، وهو أمر لا يمكن قبوله علمياً، فالعقل يستخدم سلطته الذاتية في معرفة الظاهرات، أي يخضعها للمحاكمة العلمية، دون تدخل للنفس البشرية، التي تعتمد وسائل أخرى في مقاربة الظاهرات.
ومع ذلك، يمكن تلمس هدف التنوير الإسلامي في مواقع أخرى، فالتنوير بمفهومه العميق،
هو رفض لسلطة النص البشري المقارب للنص القرآني، فالمقاربة التي تمّت في زمن ومكان محددين، وعلى قاعدة ظروف سياسية وعلمية وثقافية محددة، هي مقاربة قد تكون صالحة لزمنها، وللظروف التي دفعت لإنتاجها، وهي غير صالحة لأزمنة لاحقة مثل زمننا، بسبب تغيّر البنى الاجتماعية والسياسية وتطور العلم.
لهذا نجد أن من يقاوم التنوير الإسلامي، هم الفئات الأكثر سلفيةً، باعتبار أن هذه السلفية المُشتَرطة بظرفها التاريخي، تحقّق لهم السيطرة على نمط التفكير والممارسة الاجتماعية والدينية وغيرها، وفق قواعد لم يتم اشتقاقها من حركة الواقع المعاصر.
إن فهم التنوير الإسلامي بجوهره الفلسفي، ينبغي أن يُبنى على الاعتراف بتلازم العقلانية والحرية، فهذا التلازم يقود إلى فهم جوهره، حيث أن “التنوير هو تحرير المعرفة الإنسانية من السلطة الدينية، أو الفكر الغيبي بمجمله، والاعتماد على المنهج العلمي في دراسة الواقع، واعتبار العقل الإنساني هو أساس المعرفة، وليس أية قوى غيبية من الخارج”[4].
إن الله العالم القدير لم يهبنا العقل لنستخدمه خارج نطاق فعاليته، هذا النطاق هو التفكير العلمي، والتفكير العلمي، يعني ضرورة وجود منهج علمي صارم له، لا يقبل بغير سلطة العقل، وهذا تجاوز صحيح لعوامل الإعاقة، وعدم القدرة على فهم الظاهرات باختلاف أنواعها، لهذا نستطيع القول: “إن تفعيل العقل السليم بتحريره من كل عوامل عجزه وقصوره واجب ديني وحضاري”.[5].
العقلانية ومفهومها ونشأتها
ربما يكون مفاجئاً لكثيرٍ أن العقلانية (Rationalist) التي تقول أن “لا سلطة على العقل غير العقل”، هي “منحنىً فلسفي، يؤكد أن الحقيقة يمكن أن تكتشف بشكلٍ أفضل باستخدام العقل والتحليل الواقعي، وليس بالإيمان والتعاليم الدينية”.[6]
والمقصود هنا أن العقلانية هي وظيفة العقل الإنساني، هذا العقل منحه الله للإنسان ليمارس به فهم الطبيعة والمجتمع وفق قوانينه الخاصة، وهذا ما يجعل من العقلانية اتجاهاً للتعبير عن جوهر الإنسانية (العقل والحرية)، باعتباره يمنح الانسان قيمة مركزية.
لقد فهم سقراط (470 – 399 ق.م) العقلانية، على أنها معرفة النفس أولاً، ولتحقيق ذلك سيكون التفكير العقلاني هو الطريق الوحيد لهذه المعرفة، هذه الرؤية تركّز على بنية الذات الإنسانية وإضاءتها، ومنها يتمّ الانطلاق نحو فهم المحيط الطبيعي والاجتماعي للإنسان.
أما العالم الفرنسي الرياضي رينيه ديكارت (1596 – 1650م)، فهو ذهب إلى منحىً آخر، حيث يعتقد “أن معرفة الحقائق الخالدة، بما فيها الحقائق الرياضية، والأسس المعرفية، والميتافيزيقية، للعلوم، يمكن الحصول عليها من العقل وحده”[7].
إذاً العقلانية لا يمكن تصنيفها على أنها ايديولوجيا، بل يمكن القول فيها أنها منهج تفكير، وهو ما يعطي العقل الإنساني قيمة مركزية في فهم العالم والظاهرات، وفهم النص الديني المقدس، باعتباره نصّاً من تنزيل عزيز حكيم، خلق الكون على قاعدة النسبية والتغيّر، فكيف تتم مناقضة ذلك بالثبات في فهم وتفسير الظاهرات الاجتماعية، والسياسية، والطبيعية، خارج قوانين الله.
“العقلانية ليست مذهباً مغلقاً، يضمّ فريقاً من الأنصار مثلما الحال مع الماركسية أو الوجودية أو الليبرالية، بل هي نزعة ومنهجٌ في التفكير، ينحو إليه المفكرون والفلاسفة، بل والفقهاء، من داخل منظوماتهم، ومذاهبهم الفكرية، أو الفلسفية، أو الشرعية، مولين العقل مكانةً محورية، سواءً في نظرية المعرفة، أو في فهم العالم”.[8]
هذا المنهج غاب عن العقل الإسلامي، بعد سيادة أنماط تفكير استندت إلى سلطة مطلقة، مثّلتها أنظمة أوتوقراطية، وهذا ما جعل المؤسسة الدينية مؤسسة في خدمة الحاكم المطلق، وليس في فهم احتياجات واقع الناس، من خلال نصٍ ديني مقدّس أورده الله وفق نسبية الأمور لا مطلقها.
ولهذا يمكن فهم أن “الإسلام لا يتناقض مع الدلالة العامة المشتركة للتنوير، أي اعتبار، أن تحرير عقل الإنسان من القيود، التي تعيق فعاليته كوسيلة معرفة، هو شرط لنقل أي مجتمع من حال التخلف الحضاري إلى التقدم الحضاري”.[9]
وهذا يعني أن التنوير الإسلامي لا ينبغي أن يكون تنويراً شكلياً، بل يجب أن يتضمن فعالية العقل، وهذا يخلق بالضرورة علاقة جدلية متبادلة بينهما، فإذا غابت فعالية العقل (تحليل الظاهرات وتركيبها واستنباط النتائج منها)، فهذا يعني تناقضاً مع نسبية النص القرآني المقدس، وسيادة لثبات الظاهرة، التي هي بالأساس، لم يخلقها الله ثابتةً، بل في حركة ونسبية دائمين.
الثبات هنا نقيض العقلانية بجوهرها، فالعقلانية ترى الأمور في سياقها الطبيعي وصيرورتها، ولا تأخذ بالتسليم غير المبني على العقل، لذلك تجد نفسها ضد سلطة دينية تحتكر قراءة النص القرآني، وتعمّم فهمها وتفسيرها الخاص بها، وهو ما يكشف عن ممالأة لسلطة الحاكم المطلقة، وتحوّل القراءة والمقاربة إلى تبريرات تخدم هذه السلطة.
لذلك، تلجأ هذه السلطة الدينية إلى تحويل النسبي في الحاكم والحكم، وفهم الظاهرات، إلى مطلقٍ، لمنع تجاوزه، في حين أن لا مطلق في الكون غير الله.
تحويل النسبي إلى مطلق، هو فعل يناقض العقل وحركة الحياة وناموسها، وهذا يعني تركيز العقل في فئة صغيرة، يمثل تكثيفها الأعلى الحاكم، باعتباره مطلقاً، وهو يؤدي فيما بعد، إلى إلغاء فعل العقل عند الآخرين، مما يلغي المساواة بين عقول الناس، ويؤدي إلى تقسيمهم على فئتين، كبيرة لا تفكّر، وتطيع وتتبّع وقليلة مفكّرة تُطاع وتتُبَع.
إن التنوير الإسلامي لا يقبل بهذه الثنائية غير العادلة، والمناقضة للنص القرآني، مما يسمح أن “يلتقي المنهج الإسلامي مع المنهج الليبرالي في تقريره، أن تحرير الناس من القيود المفروضة عليهم شرطٌ لازمٌ لتغيير الواقع”[10]. وتحرير الناس هنا هو تحرير عقلهم، واستخدامه باعتباره سلطة تحليل وتركيب وفهم للطبيعة والمجتمع وظاهراتهما.
أهداف العقلانية
باعتبار، أن العقلانية تنحو باتجاه خلق مسار خاصٍ بها، يرفض استخدام أي وسائل خارج محاكمة العقل للظاهرات الطبيعية والاجتماعية، فإنها تهدف في البداية إلى تحرير فهم الانسان للعالم، هذا التحرير، لا يمكن أن يُكتب له النجاح بدون استخدام العقل كأداة فهم.
تحرير العقل، يعني استخدام التحليل العلمي للظاهرات، سواء كانت طبيعية، أو اجتماعية، أو فكرية أيديولوجية. وفي دراستنا، نريد فهم أهمية العقلانية في النظر للموروث الديني المكتوب، أي اخضاع هذا الموروث للتحليل والتركيب العلميين، والاستنباط. لذلك سيكون “من أهم شروط تحقيق النهضة هو العمل على تحديث النظر إلى مسألة التراث”[11].
قبول الموروث الديني المكتوب والمنقول، على أنه حقيقة مطلقة، يتم التسليم بها، هو مسعى تمارسه المؤسسة الدينية الإسلامية، فهي ترفض أي قراءة جديدة، تناقض قراءة السلف، وهذا يتناقض مع جوهر العقلانية، التي حبا الله الانسان بها، وهذا يجعلنا نؤكد على مقولة “تُعرّف العقلانية على أنها المنهجية أو النظرية، التي يكون معيار الحقيقة فيها فكرياً واستنباطياً، وليس حسّياً”[12].
إن اعتماد العقل كميزانٍ لمعرفة الظاهرات وفهمها، يحقق رؤية الله في خلق الناس، إذ خلقهم جميعاً بعقول ذات قدرة فطرية، والانزياح عن هذه الحقيقة هو انزياح عما خلقه الله من قدرة العقل لدى البشر، من هنا تبدو المؤسسة الدينية الملحقة بنظام الحكم، وكأنها تزيح قدرة التفكير واستخدام العقل لدى الناس لتعمل على احتكاره وقوننته بما يخدم مصالحها الضيّقة ومصالح الحاكم المستترة خلف تفسيراتها وتبريراتها.
إن فهم الأحكام العقلية، على أنها ليست أحكاماً ثابتة على مرّ الزمان وتغيّر المكان، يجعلنا نقول بظرفية الأمور، ونسبيتها، وهما حالتان بثهما الله في مخلوقاته الطبيعية والإنسانية والحيّة عموماً، وهو ما سمح بفهم شروط الواقع وتغيراته، وشروط قبول النص البشري أمام حركة هذا الواقع.
وفق هذا المنطق العلمي، يمكننا القول إن ثبات التفسير والرؤية لحركة الواقع المتغيرة باستمرار، سيضعنا أمام نمط تفكير لا عقلاني يحتاج تغييراً عميقاً. فاللاعقلانية هنا تغلق على العقل قدرة التفكير والنقد وفهم سببية الأمور في حركة الواقع الاجتماعي أو الطبيعي.
لهذا نقول إن الفكر العربي المعاصر، يشغل حالة توضّح أن، “الفكر لا يزال عاجزاً عن المواجهة اللاعقلانية، السائدة، وعن تأسيس تنظير عميق لسيرورة متقدمة لعقلنة الواقع”[13].
من هنا تتشكل العلاقة الجدلية بين العقلانية والتنوير الإسلامي، فكلاهما يعمل على تحرير العقل، غير أن التنوير يعمل من داخل البنية القائمة، أما العقلانية فتعمل من منطق إن العقل يجب أن يكون خارج كل المفاهيم الدينية والغيبية.
جدل التنوير الإسلامي والعقلانية
الحديث عن علاقة بين التنوير الإسلامي والعقلانية، يقود بالضرورة إلى معرفة وفهم المبنى الفكري لكلٍ منهما، لمعرفة التقاطعات والتفارقات بين المفهومين، فالتنوير الإسلامي يعمل على إنتاج قراءة للنص القرآني، بما يتناسب ودرجة التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي في المجتمعات العربية والإسلامية، في حين أن العقلانية كمنهج فكري تقرأ الواقع كما هو خارج اليقينيات والغيبيات.
القراءتان تعملان على تحرير النص من ثبات الرؤية، حيث “ترتكز أطروحة دعاة التنوير الإسلامي على تفعيل العقل في ميادين الإصلاح والتجديد الدينيين”[14]، بينما ترتكز أطروحة العقلانية على مبدأ “لا سلطة على العقل سوى العقل”.
تفعيل العقل في ميادين إعادة إنتاج الرؤية الدينية، يعني تحرير النصّ القرآني من التفسيرات والتبريرات والتأويلات، التي لحقت به عبر مراحل مختلفة، وتحديداً في مرحلة القراءات الكبرى، ونقصد مراحل قراءات “الأئمة” الكبار.
تحرير النص هنا يعني النظر إليه وفق سيرورته المعاصرة، فالنص القرآني لم يخالف طبائع الأشياء بنسبيتها وحركيتها، ولهذا، لا يمكن مع تغيّر الزمان والمكان إعادة إنتاج نفس القراءة له.
قراءة الواقع والأحداث والظاهرات لدى العقلانية، لا تعتمد على يقينية مفترضة، أو تسليم بها، بل تعتمد على اعتبارها بنى قابلة للتحليل والتركيب العلمي الصارمين، وهو ما يسمح باستنباط علمي للنتائج، وهذا يعني اعتماد العقل كمرجع وحيد في معرفة الكون والظاهرات التي تحدث فيه، ومعرفة المجتمع ودوافع تطوره، والتغيرات التي تحدث فيه.
تتقاطع العقلانية مع التنوير الإسلامي بمربع تحرير العقل من المقولات السابقة أو الجاهزة، أو التي تمّ التوصل إلى نتائج فيها بطرقٍ أخرى، هذا التحرير، يفيد في توفير دينامية البحث العلمي في قراءة النص القرآني، أو في الظاهرات الطبيعية والاجتماعية والسياسية وغيرها.
إن غاية التنوير الإسلامي هي تجاوز الجهل والتخلف والجمود الفكري، الذي تسببت به تفسيرات وقراءات كانت صالحة في فهم زمانها ومكانها، وهي غير صالحة لأزمنة وأمكنة أخرى، بسبب تغير البنى المرتكزة عليها، وهذا يمكن رؤيته في الجانب الفكري والسياسي.
إن المشروع النهضوي العربي، الذي أتى به رفاعة الطهطاوي، إنما استند على رؤية تنويرية إسلامية جديدة، تحدثت عن مجتمع ديمقراطي ودولة مدنية وحريات.
أما إذا نظرنا إلى نتائج اعتماد العقلانية في الفكر والثقافة الغربيين، سنجد أن تحرير العقل الأوربي، هو من وقف خلف هذه النهضة الكبرى، على صعد تطور العلوم والاقتصاد والبنى الاجتماعية بما فيها أنظمة الحكم.
وفق هذه الرؤية نستطيع القول إن “التنوير الإسلامي ذاته ضرورة قصوى لمعالجة التخلّف والاستبداد من حاضر العالم الإسلامي”[15]. لأنه ببساطة يخوض معركة تكسير بنى الجهل التي تمّ بناؤها باسم الدين، وهو ما أحدث كفّاً لفعل العقل الذي وهبه الله للناس.
من جهتها العقلانية انتصرت كمنهج فكري وعلمي، واستطاعت دحض كل مقولات المؤسسة الدينية الأوربية التي كانت لا تقوم على علم أو معرفة.
إن تبني التنوير الإسلامي وتعميق رؤيته، يعتمد بالضرورة على رؤيته كمنظور استراتيجي، وليس كحالة مرحلية تتصدى للتشبث بمقولات ماضوية. وهذا يعني، أن التنوير هو مقاربة علمية في فهم النص القرآني ونسبية آياته، وهذا يفتح الباب لفهمٍ جديدٍ للرسالة الإسلامية بصورة معاصرة، تعتمد على مبدأ نهضة الانسان والعالم، وتكون بصورة ما حاضنة للقيم الإنسانية والحياة المدنية، التي يحتاجها كل إنسان.
العقلانية محقت كل قوى السيطرة على العقل، وبالتالي عملت على تحريره، مما جعل أمر إعادة إنتاج بنى الدولة ونظام الحكم خاضعين للعقل أي لمبدأ تحليل طبيعة بنائهما خارج أي مبنى قدسي مزيف حاولت الكنيسة من قبل تثبيته في حياة المجتمعات.
لكن هناك ما يمكن تسميته تنويراً إسلامياً مزيّفاً، تقوم ببنائه منظومة الاستبداد السياسي والتي تجد قاعاً لمشروعها من خلال الحركات ذات الجذر السلفي، وهذا يعني شراكة مصالح كلٌ منهما يساهم في توفيرها.
عقلنة التنوير الإسلامي
الحديث عن عقلنة التنوير الإسلامي، يقود بالضرورة إلى بيان، أن لا قيمة لأي تنويرٍ، بدون التسلح بمنهج علمي في قراءة النص القرآني، هذا التنوير، يصطدم بكتلة فكرية ذات طبيعة دينية، تمّ تأسيسها في مراحل تاريخية، ويقوم بعض روادها المعاصرون، بمحاولة تثبيت مفاهيمها، على أنها مفاهيم صالحة لكل زمان ومكان.
ولعل عقلنة التنوير الإسلامي، ستصطدم في البداية مع مفاهيم ومصطلحات دينية، تمّ اشتقاقها في مراحل تاريخية سابقة، وهذا يتطلب إعادة إنتاجها، ونستطيع التأكيد بأن “توقف المسلمين عن إنتاج المفاهيم يعدّ سمة من السمات البارزة للأزمة الفكرية، والتوقف عن الإبداع والتجديد الحقيقي”[16].
إن إعادة إنتاج المفاهيم والمصلحات لا ينبغي لها أن تُشتقَ من مفاهيم ومصلحات غربية، والسبب في ذلك، إن أدوات عقلنة التنوير الإسلامي هي أدوات من داخل النص القرآني والديني الإسلامي، وليست اشتقاقاً من منهج العقلانية الذي ساد في الغرب.
هذه العملية لا ترفض الدين ابداً، بل تعيد إنتاج المفاهيم حوله بصورة عقلانية غير غيبية، تعتمد على العقل الذي وهبنا الله إياه، وهذا يعني العمل على تحرير العقل الإسلامي، من داخل النص القرآني، وليس من خارجه.
فإذا أرنا أن تكون هناك فعالية للتنوير الإسلامي، ينبغي توفير عناصرها الأساسية، من بحوث ودراسات ذات طابع علمي نقدي، سواء من تنويريي المراحل التاريخية السابقة، أو توسيع البحوث والدراسات التنويرية المتخصصة، ذات الطابع العلمي والعقلاني في مرحلتنا الحالية، ولكن التنوير يجب أن يتوجه بالأساس ضد سلطة الدين التابعة للأنظمة السياسية، لأنها هي من يسيطر على الفضاءين الخاص والعام الديني الاجتماعي. هذا يعني في المحصلة رؤية الأشياء والظاهرات والأدوار كما هي، وليس كما نشتهي قراءتها”[17].
إن التنوير لن يكون تنويراً حقيقياً دون أن يرتكز على متلازمتي الحرية والعقلانية، أو ما يمكن أن نصطلح عليه ب “التعقّل الحر”، وهذا معناه استخدام التفكير العقلاني في كل ميادين الحياة والبحث، خصوصاً في مرحلتنا الحالية، التي تتسم بتطورات بنيوية على كل صعد الحياة، مما تتطلب معها أدوات بحث علمية صارة مشتقة من منهج علمي صارم.
عقلنة التنوير الإسلامي، يعني تخليصه من أي تبعية مرجعية مباشرة، وهذا يُفهم على أن مقاربة النص القرآني يمكن أن تتم بأدوات علمية، إذ أن ذلك لا يتنافى مع جوهر النص القرآني، لأن الله قال بالعلم، وألحّ عليه، وميّز بين العلماء وغير العلماء.
عقلنة التنوير الإسلامي ستقود بالضرورة إلى حالة انفكاك مع مقاربات دينية سابقة، يمّ الشغل عليها بأدوات أقل علمية من أدوات عصرنا، وهذا سيجعل هناك ارتباط بين التنوير المقصود وفكرة التطور الاجتماعي.
إن التنوير الإسلامي في بداياته، كانت له أهداف إصلاحية محدودة، مثل تعليم المرأة، أو البحث عن تجديد الفكر الديني، وهو أمرٌ لن يغيّر عميقاً من حالة تخلف مجتمعاتنا، بسبب اليقينية المسيطرة على نمط التفكير لدى رواد الإصلاح، هذه اليقينية هي بؤرة تعطيل عمل العقل الإسلامي، وبالتالي صار من الضروري وفق التنوير الإسلامي الحديث، نقد هذه اليقينية، واعتماد الصرامة النقدية، التي إن دلّت على شيء، فلن تدلّ سوى على تغيّر منهج التفكير وتغيير الأدوات البحثية.
إن “التنوير الإسلامي لا يأخذ مشروعية من خطابٍ خارج البنية، بل من نقد خطاب البنية ذاتها التي يولد منها”[18].
إن عقلنة الخطاب التنويري يعني رفض السكوت عن الخطاب الديني القائم، الذي يخدم استدامة التخلف والاستبداد، وإن نقد الخطاب الديني السائد، يعني تفكيكه في الوعي الاجتماعي والديني، ويعني منعه من فرصة الانبعاث من جديد.
فلا عقلنة للتنوير، بغير ارتكازها على جعل مفهومي الحرية والعدالة قضيتين أساسيتين، تستحقان خوض المواجهة مع سكونية الخطاب السائد، الذي لا يخدم سوى الاستبداد والتخلف.
[1]– Alaraby.co.uk لماذا يحاربون التنوير الإسلامي مهنا الجبيل 9 إبريل/نيسان 2019
[2]– مركز المسبار للدراسات والبحوث التنوير – مفاهيم إشكالية في الوعي الإسلامي المعاصر عبد الجواد يس 13 فبراير/شباط 2018
[3]– التنوير في الإسلام كيف تنظر له www.aibayan.ae د. عبد العزيز عثمان التويجري 16 نوفمبر 2001
[4]– Arabi 21.com/story/750426 التنوير الإسلامي فاعلية العقل للانعتاق/بسام ناصر 22 مايو/أيار 2014.
[5]– المرجع السابق نفسه.
[6]– Ar.wikipedia.org عقلانية فلسفة
[7]– المرجع السابق نفسه.
[8]– Islamonline.nwtL32777 العقلانية: جدل الفلسفة والدين
[9]– مفهوم التنوير بين الفكر الإسلامي والفلسفة الغربية drsabrikhalil.wordpress.com د. صبري محمد خليل 30/6/2011
[10]– المرجع السابق نفسه
[11]– Journales.openedition.org/insaniyat/9652 إشكالية العقلانية في الفكر العربي المعاصر عبد الله موسى 2001
[12]– Aqraa.net بحث حول المذهب العقلاني 7 إبريل/نيسان 2020
[13]– Journales.openedition.org إشكالية العقلانية في الفكر العربي المعاصر دراسة في أعمال محمد عابد الجابري
[14]– التنوير الإسلامي فاعلية العقل للانعتاق من إرث الجمهور بسام ناصر 22 مايو/أيار 2014 arabi21.com/story/750426
[15]– العربي الجديد لماذا يحاربون التنوير الإسلامي مهنا الجبيل 9 إبريل/نيسان 2019 alaraby.co.uk
[16]– Arabeeme.org الرابطة العربية للتربويين التنويريين التنوير وصناعة المستقبل إشكالية المفهوم
[17]– المرجع السابق نفسه.
[18]– التنوير والفقهاء المستنيرون 1 أكتوبر/تشرين أول 2018 محمد المحمود alhurra.com/different-angle