إيران.. تخصيب الميليشيات عوضاً عن تخصيب اليورانيوم
كان موقف الوفد الإيراني في جولة فيينا السابعة للمفاوضات النووية مفاجئاً بدرجات متفاوتة للجميع، فقد كان أكثر المتشائمين لا يتوقع ذلك الموقف، الذي لم يكن تفاوضياً بل قدم شرطين رئيسيين غير قابلين للتفاوض، وهما رفع كامل العقوبات المفروضة على الدولة الإيرانية، وتعهد الإدارة الأمريكية بإدراج نص يمنع أي إدارة أمريكية قادمة من الخروج من الاتفاق، وعند تأكد إيران من رفع كامل العقوبات تعود إلى الاتفاق السابق دون تحديد سقف زمني لعودتها، إضافة لشروط جزئية أخرى.
الموقفان الأوربي والأمريكي، كانا متقاربين، بل متطابقين، إزاء التعنت الإيراني برفضه جملة وتفصيلاً، وكانت أصداء الضربات والتصريحات الإسرائيلية مسموعة بوضوح بفيينا، وملخصها أن إسرائيل غير معنية بأي اتفاق يتم الوصول إليه، وأنها مستعدة لضرب المنشآت النووية بمفردها إن تطلب الأمر ذلك، وهذا أيضاً ما كان محور محادثات وزير الدفاع ورئيس الموساد بواشنطن عقب توقف الاجتماعات.
طبعا أسهم وقف السعودية لمباحثاتها الاستكشافية مع إيران بزيادة تلبد الغيوم بأجواء فيينا، وباتت الأحاديث في الفضاء الإعلامي الآن عن ماهية الضربة وهل ستشترك بها الولايات المتحدة مباشرة أم ستكتفي بالدعم اللوجستي والاستخباري، وبدأ الخوض بتفصيلات فنية عن أماكن انطلاق الطائرات، هل ستكون من الخليج وأذربيجان أيضاً ومدى قدرة تزويد الطائرات المهاجمة بالوقود جواً، وهل استلمت إسرائيل من أمريكا القنابل الخارقة للأعماق والطائرات التي ستحملها، وذهب بعضهم لتحديد الأماكن والتواريخ لذلك.
بدأ بعضهم يتساءل، هل كل ذلك الضخ والتسريب الإعلامي غايته التأثير على الموقف الإيراني في الجولة القادمة أم لتهيئة الرأي العام المحلي في المجتمعات المعنية، أم لسبر المواقف الدولية (الصينية والروسية خصوصاً) أم لتلك العوامل مجتمعة.
خرج البريطانيون عن صمتهم (بعد خروجهم من الاتحاد الأوربي) وأصبحت وزيرة الخارجية البريطانية تعبر عن موقف بلادها فقط، إذ قالت في عدة تصريحات نارية، إن زمن المفاوضات ليس مفتوحاً وإن هذه فرصة إيران الأخيرة.
لم تقل كثيراً حدة التصريحات الألمانية والفرنسية وحنقهما من الموقف الإيراني الأخير بفيينا
لابد من الأخذ بعين الاعتبار تصريحات روبرت مالي الأخيرة المبعوث الأمريكي الأول للملف النووي (وهو الذي صاغ الاتفاق السابق) التي تفيد بأن الولايات المتحدة والحلفاء وضعوا موعداً زمنياً لانتهاء المفاوضات ولن تكون مفتوحة وأنهم يبحثون في خيارات أخرى.
وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن قال أيضاً إن الولايات المتحدة أصلحت الخلل الموجود في علاقاتها مع الحلفاء وإنهم بصدد العمل معاً لمواجهة الغطرسة الإيرانية.
كانت أجواء زيارة مستشار الأمن القومي الأمريكي إلى إسرائيل إيجابية من حيث تطمين دولة الاحتلال أن الموقف الأمريكي صارم ولن يقبل بأي شكل المراوغة الإيرانية واحتمال امتلاك إيران للقنبلة النووية.
كيف يمكننا توقع الموقف الإيراني في الجولة الثامنة؟
تعاني إيران مشاكل صعبة للغاية سواء في الداخل الإيراني نفسه أم في عواصمها الأربعة، وأراها كما يلي:
1- في الداخل الإيراني ما يشغل المرشد الآن، عبور إيران من الجيل الأول إلى الجيل الثاني من الثورة ومن المرشد الثاني إلى المرشد الثالث بدون حرب، يهمه كثيراً عدم وقوع حرب غربية مع إيران في هذه المرحلة الانتقالية.
كما أن الرئيس الإيراني، قدم لمجلس الشورى مشروع الموازنة متضمناً زيادة حوالي 100% من اعتمادات الحرس الثوري، فقد ارتفعت من 11 مليار دولار إلى 22 مليار دولار، مع أن الحرس الثوري يشكل 10% من عديد القوات المسلحة الإيرانية، وهذا سيترك آثاراً سلبية على التزامات الدولة تجاه البيئة المدنية التي تعاني من انهيار كامل، فالجفاف وصل لمستويات قياسية فلم تعد مياه الشرب متوفرة، حتى أن آلاف الفلاحين الإيرانيين هجروا أراضيهم وهاجروا إلى أحزمة البؤس في العاصمة والمدن الكبرى.
كان إضراب واعتصام المعلمين في أكثر من 100 مدينة إيرانية احتجاجاً على تدني الدخل وانهيار مستويات المعيشة واضحاً، ورسالة لا يمكن تجاهلها من صانع القرار الإيراني.
ويعلم نظام الملالي مدى التذمر الشعبي منه، إذ كانت المظاهرات والاحتجاجات الإيرانية مستمرة منذ الثورة الخضراء ولم تنقطع وتتجدد كل سنة ويتم قمعها بقسوة وعنف مفرط.
أما التوترات القومية فهي متعددة وخطيرة وليس آخرها التحدي الدائم والاستفزاز المستمر للرئيس الأذري علييف ودغدغة الأحلام البومية للأذر الذين يشكلون ربع سكان إيران.
أما مخاطر وصول طالبان لحكم أفغانستان فستكون واضحة خلال العام القادم.
إن مجرد إعلان الغرب لفشل المفاوضات الإيرانية معناه انهيار كامل للبازار الإيراني والتومان، وسيعقب ذلك عقوبات أممية (وليست أمريكية كما هو الحال الآن) وتصفير تصدير إيران للنفط والمنتجات الأخرى وإلغاء الاستثناءات الضمنية التي أعطيت للصين لشراء 500 ألف برميل يومياً تدفع الصين ثمنها سلعاً تجارية استهلاكية.
2- في العراق وضع الميليشيات الولائية كارثي، فقد تم رفضها شعبياً وتم إسقاطها في الانتخابات الأخيرة، وستتحول إلى عصابات مسلحة وستقتتل فيما بينها كما اقتتل المجاهدون الأفغان بعد انسحاب الاتحاد السوفييتي من كابل، لم تعد هناك داعش أو أمريكا لتبرير جهادها ضدها، وستخرج من العملية السياسية وامتصاصها لموارد الدولة، ستقتتل تلك الميليشيات على السلطة والنفوذ والتهريب والمخدرات.. الخ.
3- في سورية، فشلت كل المحاولات لسحب النظام السوري من العباءة الإيرانية، وأطلقت المملكة العربية السعودية رصاصة الرحمة على أي أمل بتطبيع عربي ودولي مع النظام، وبالتالي لا أموال لإعادة الإعمار ولا مساعدات اقتصادية من فوق أو تحت الطاولة وبالتالي سيتدهور الوضع الاقتصادي والمعيشي لمستويات تنبئ بانفجار شعبي ضمن حواضن النظام.
4- في لبنان لا يختلف اثنان على قيادة حزب الله البلد لوضع كارثي على كل المستويات وإيصاله إلى القاع، وكانت زيارة الأمين العام للأمم المتحدة غوتيرش لبيروت مؤخراً واضحة بتوجيه رسالة دولية للسلطة اللبنانية بضرورة الحفاظ على موعد إجراء الانتخابات النيابية في موعدها المحدد وعدم تعطيلها، ويرجح الكثيرون خسارة حزب الله فيها كما خسرت الميليشيات الولائية بالعراق وخروجه من السلطة، أيضا كان مهماً الإعلان المصري الأخير بأن الدولة المصرية لن تبدأ بضخ الغاز المصري قبل تعهد الولايات المتحدة رسمياً باستثناء كل التعاملات المالية وغيرها من عقوبات قانون قيصر، ما يشي بأن الضغوط على الحزب مستمرة ولن يتم تقديم هدايا مجانية له.
أيضاً لابد من الإشارة إلى فشل الوساطة الفرنسية مع الخليج العربي والسعودية خصوصاً بإصلاح ذات البين مع حكومة الرئيس ميقاتي وأن القطيعة مستمرة.
5- في اليمن، وبعد تكبد ميليشيات الحوثي لأكثر من 30 ألف قتيل منذ آذار الماضي على جبهة مأرب والعوف، وبمعدل ألف قتيل أسبوعياً في الأسابيع الخمسة الأخيرة، وتدمير عتاد عسكري مهم من قبل طيران التحالف مع إخراج مطار صنعاء عن الخدمة (الذي تحول مؤخراً إلى قاعدة إطلاق مسيرات وصواريخ بالستية على المملكة) واصطياد قائد الحرس الثوري الإيراني وقائد حرب الحوثيين حسن إيرلو، فإن الهجوم على مأرب والعوف فشل، وأكثر ما يخشاه الحوثيون والإيرانيون اليوم، قيام قوات الشرعية اليمنية بهجوم معاكس لاستغلال حالة الإحباط والخسائر الهائلة التي مني بها الحوثيون في هجومهم الأخير.
التوقعات حول مصير الاتفاق النووي
لا يختلف اثنان أن الإدارة الأمريكية الأوبامية الثالثة وضعت من أولويات سياستها في الشرق الأوسط الوصول لاتفاق نووي جديد مع إيران، وهي لم تخف ذلك، بل انتقدت إدارة الرئيس ترامب على خروجه من الاتفاق، وحملته سبب زيادة الجهد الإيراني بتخصيب اليوارانيوم نوعاً وكماً، وإنه بفعلته تلك أوصل إيران إلى العتبة النووية، وكان تعيين الفريق المولج في الملف النووي رسالة إلى إيران والعالم عن رغبة الولايات المتحدة تلك.
من المعروف عن السياسة الإيرانية المكر والمراوغة والخداع، فبعد تشكل موقف أمريكي – أوربي وإقليمي موحد ضدهم، وفشل الخيار الأول بدبلوماسية فيينا، يمكن فوراً المباشرة بالخيار الثاني وفرض العقوبات الدولية السابقة بشكل أوتوماتيكي ودخول إيران تحت الفصل السابع دولياً، الأمر الذي يؤدي إلى الخيار الثالث، بتحالف دولي لضرب المنشآت والقدرات النووية الإيرانية، ولن ترهب التحالف الدولي التهديدات الإيرانية بالرد على المملكة العربية السعودية أو إزالة إسرائيل من الوجود أو إعاقة الملاحة في مضيقي باب المندب وهرمز، وستتلقى إيران ضربات تعيدها كثيراً إلى الوراء.
يرى بعض المراقبين أن نظام الملالي قد يستغل الفرصة التي منحها بايدن له، وهي الوصول إلى إطار اتفاق مؤقت للخروج من المأزق المشترك بينهما، وهو تعليق تخصيب اليورانيوم لمدة عامين أو أكثر مع رقابة صارمة من الوكالة الدولية للطاقة النووية مقابل رفع العقوبات المفروضة على الملف النووي بالذات وإبقاء العقوبات الأخرى.
هذا الاتفاق المؤقت (إن تم) يرفع شعبية بايدن المتدهورة لمستويات غير مسبوقة في عامه الأول في البيت الأبيض، ويمكنه من الفوز بالانتخابات النصفية للكونغرس 2022، وتخفيف معدلات التضخم العالية وإنعاش الاقتصاد بسبب عدم الدخول بحرب تؤدي لارتفاع أسعار الطاقة عالمياً.
نظام الملالي يرى أنه وصل إلى العتبة النووية ولم يتبق له إلا صناعة مكونات القنبلة وهو يملك معارفها وتقنياتها بشرياً، وهو يعاني الآن من شح في الموارد المالية وسيختنق إذا لم يوقع الاتفاق المؤقت، لذلك توقيع ذلك الاتفاق يؤدي إلى حلحلة أزماته المالية على مستوى الداخل واستمراره بتخصيب الميليشيات التابعة له في الإقليم مالياً وشق الصف الدولي والإقليمي على ترتيب أولويات البحث في الملف الاقليمي، إذ يسعى نظام الملالي لتوقيع أي اتفاق مع السعودية وحل مشكلة اليمن معها للهروب من استحقاقات الملفات الإقليمية والصاروخية والدرونية.