fbpx

وزن الأيديولوجيا في ميزان الثورة

0 402

منذ سقوط جدار برلين في تشرين الثاني 1991 احتفل الكثير من المفكّرين حول العالم بفكرة انتهاء الصراع الأيديولوجي لانتفاء حاجته خصوصا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي و تراجع الشيوعية بوصفها فكرا و فلسفة تسعى لتغيير العالم. و قبل مقاربة المسألة من زواية مختلفة وبالذات في زمن ثورات الربيع العربي لا بد من تفكيك مفهوم الأيديولوجيا معرفيا , فما هي الأيديولوجيا ؟

حظيت الأيديولوجيا بجهد فكري كبير من علماء السياسة و الاجتماع و الفلسفة دراسةً وتشريحا و لكنّهم أجمعوا بصيغ مختلفة على أنها نسق متراتب للأفكار ينتظم في هيكل واضح وظيفته تفسير العالم , أو موقف فكري منسجم مع ذاته في نظرته للإنسان و الحياة و الوجود . ولا يتمّ الفهم بالوقوف عند تخوم الاصطلاح دون دراسة خصائص الأيديولوجيا بإيجابياتها و سلبياتها و ذلك ليعرف الباحث على أي أرض يقف , و سنحاول التجول في بيت الأديولوجيا في هذا المقال لنعرف ما هي خصائصها ؟

سلبيات الأديولوجيا :

-تتسم الأيديولوجيا بالتفسير الأحادي الضيّق للتاريخ اقتصاديا أو ثقافيا أو دينيا , فالماركسيون مثلا لا يرون العالم إلّا من خلال صراع الطبقات المحكوم بمبدأ الجدلية التاريخية , و الشيعية السياسية لا ترى العالم إلا من خلال أن مجاهدة “الباطل” هو السبيل لعودة الإمام المعصوم المهدي المنتظر ليخلّص العالم من الظلم و يمنح الإنسان السعادة الأبدية.

-خلق العصبوية : يمكن تشبيه وظيفة الأيديولوجيا بالنزعة القبيلية المضمرة في فكر الحداثة , فالأيديولوجيا تستطيع خلق كيان معنوي غير ملموس ماديا ينتظم في إطاره المشتركون عقائديا و يتكافلون و يتضامنون , بعضهم بعبارة يا رفيق و بعضهم بيا هفال و بعضهم بيا أخي في الإسلام , لذلك فالأيديولوجيا تقدّم المادة الخام للتعصب و التطرف عبر توفير جاهزية التعبئة.

-الأيديولوجيا سمتها الإطلاق و بالتالي فهي ترفض النسبية , لأنها تملك تصوّرا جاهزا للعالم و إجابات مريحة لكل سؤال و بهذا فهي تعفي معتنقيها من مشقة البحث المضني و التحليل الدقيق و المعرفة الناتجة عن تفكيك الظواهر التاريخية و دراسة أسبابها بطريقة عقلانية . لذلك تجد مثلا أن الإسلاميين عموما يفسّرون الاحتلالات الأجنبية لمنطقتنا من خلال الوصفات الجاهزة في صيدلية منظّريهم و التي تقول بأن الغرب المسيحي يسعى للانتقام من المشرق الإسلامي لغاية إذلال المسلمين و منع احتمال نهضتهم , و كذلك يفعل الشيوعيون و العروبيون. و لهذا لا يمكن أن تجد شخصا مؤدلجا يعتقد بجهله بل يظن أنه يعرف كل شيء في الحياة.

-تقدّم الأيديولوجيا للمؤمن بها فرصة امتلاك العالم نظرياً و لهذا و لأن الواقع لا يتيح له فرصة امتلاكه حقيقيا و إجراء التعديلات اللازمة عليه ليتحقق العدل و السلام و يحصل البشر على السعادة و اللذة فتراه يسعى لفعل ذلك عمليا , ما قد يقود في معظم الحالات إلى استخدام العنف و سفك الدماء كما فعل البلاشفة في روسيا و البعثيون في سوريا .

إيجابيات الأيديولوجيا :

-لا بد أن نعترف بأن تبنّي موقف عام و متسق من الحياة يضفي على السلوك الإنساني بعدا أخلاقيا أي أنه يقترن بالشعور بنوع من الالتزام الأخلاقي , و من ثم فإن التخلي عن هذا الموقف الأيديولوجي هو نوع من التخلي عن هذا الالتزام الأخلاقي .

-يقول برتراند راسل ( إن العقل المنفتح على الدوام هو عقل فارغ على الدوام ) , لذلك نجد أن معظم رافضي الأيديولوجيا هم أشخاص سلبيين أمام فكرة الحقيقة و يتهيّبون احتضانها خوفا من وصمهم بالمؤدلجين , و بهذا فهم ينزعون طعم الحياة إذ أن الحياة بغير حقائق يؤمن بها الأفراد على اختلافها باهتة لا طعم لها , و هذا ما دفع بالمدرسة العبثية و العدمية إلى الظهور بقوة في مسرح الحياة.

– مهما اختلفنا مع الأيديولوجيا و عددنا سلبياتها بما فيها قدرتها على شن الحروب المدمرة إلا أنها تبقى شئنا أم أبينا قوة دافعة لحركة التاريخ , فلولا صدام النازية و الفاشية مع العالم لما تأسست منظمة الأمم المتحدة ولا خرجت شرعة حقوق الإنسان العالمية و لا عاش الغربيون في بحبوحة و دعة عيش خلال الأعوام السبعين المنصرمة.

ما قيمة الأيديولوجيا في زمن الربيع العربي ؟

دون شك لم يفكر البوعزيزي -حين حاولت الشرطية الحجز على بسطته التي يعتاش منها بحجة مخالفتها للقانون- في مصير الأمة العربية و لا مستقبل العالم الإسلامي , بل كل ما أشعل غضبه كان شعوره بالظلم و القهر لأن حكومة بلده تمارس عسفها على الفقراء و تترك الهوامير و الحيتان من آل الطرابلسي و بن علي ينعمون في جنات عدن الأرضية و يتركون الفقراء يصارعون البقاء في جهنم العوز و الفاقة , و كأنه أراد تمثيل ذلك حسيا ليضرم النار بنفسه كتصوير حي للنار غير المرئية التي يعيش فيها المساكين في الحياة.

انطلقت الثورات في العالم العربي بأثر العدوى لأن الوجع واحد و هو العدوان على كرامة و حقوق الإنسان العربي , و بهذا فقد داس العرب على ذرائع السلطة التي خدّرت بها الناس لعشرات السنين , و هي ألّا تنمية و لا حريات حتى الفراغ من العدوّ الخارجي الذي يتربّص بنا الدوائر . 

الحالة السورية نموذجا :

رغم أن الثورة السورية تمتلك كل المبررات و الدوافع الأخلاقية و الحقوقية أمام سلطة جففت السياسة و احتكرت المجال العام و سيطرت على منابع الثقافة و الإعلام و الثروة و أصبحت مديرة رسمية للفساد و مالكة حصرية لحق تصنيف المواطنين بين صالح و مواطن عاق كأي سلطة بطريايركية خارجة على مفهوم الجمهورية القائم على ثنائية تقابل الحقوق و تداول السلطة , إلّا أنها ( الثورة السورية ) ابتليت بالخطاب الأيديولوجي الذي امتطاها لغاية نحقيق مصالح الجماعة المؤمنة بهذا الخطاب .

فالثورة و إن لم تقم بالأساس ضد هيمنة الأيديولوجيا بل ضد فئة حاكمة بنهج ديكتاتوري مسرف في كاريكاتوريته الفجة في بشاعتها , إلّا أنها قامت ضد الأحادية التي تتشابه مع الأيديولوجيا في الجوهر و النسق الفكري , و مع التعددية بوصفها ضمانا لتوسيع المشاركة الشعبية في صناعة القرار و توجيه المصير في التقاء مباشر مع مبدأ نسبية الحقيقة النابع من حق تكافؤ الفرص للمختلفين فكريا و المتعارض أيضا مع طبيعة الأيديولوجيا الرافضة للتعددية.

تثور اليوم أسئلة كبيرة بسبب ما اختزنه الوعي السوري طيلة ستين عاما , تُرى مالموقف من الصراع مع إسرائيل مثلا ؟ أي المسائل أبدى في فقه الأولويات ؟ هل من يرسل رسائل تطمين لإسرائيل هو خائن أم وطني واع يخاف على مصلحة شعبه ( بغض النظر عن مدى صوابية و جدوى فكرته سياسيا و واقعيا )؟  

و هذا يعني أن السوريين لم يتخلّصوا بعد من أثقال التاريخ و الأيديولوجيا في صناعة التفكير نحو المستقبل رغم احتراقهم لعشر سنين في مرجل الثورة الذي من المفترض أن يصقل آلية تفكيرهم أكثر , و الدليل أن معظمهم لا يتعامل مع هذه القضايا بأسلوب علمي و منطقي بل العكس تماما بطريقة عاطفية موتورة بالاتجاهين المتعاكسين ,إذ أن المنطق الهادئ يقول بأن القضية الفلسطينية هي قضية عادلة و الاحتلال الإسرائيلي باطل و عديم الشرعية و لا يمكن بحال أن نعترف بهذا الاحتلال طالما أنه ينكر على الفلسطينيين حقوقهم الشرعية و يحتل أراض سورية و لبنانية , لكنّنا في الوقت عينه و لو حصل التغيير في سوريا غدا لن نستطيع أن ننصر القضايا العربية لأننا بأمس الحاجة أن نتكوّر على ذاتنا لنعيد بناء بلدنا و نلم شتاتنا و نقيم المصالحة الوطنية و نصنع لنا نظاما سياسيا جديدا يحمينا من غوائل الزمان و كما يقول المثل الشعبي ( ما يحتاجه البيت يحرم على الجامع ).

في الختام : أودّ أن أقول بأنني من الرافضين لفكرة إمكانية موت الأيديولوجيا  لأنها تكتسب أشكالا مختلفة و تقوم بوظائف متناقضة بحسب كل مجتمع , فهي تبارح دورا ما في سياق تاريخي و سياسي , لتلعب دورا آخر في سياق مغاير , و هكذا في عملية جدلية لا تقبل مقولة النهاية وإن خضعت لمبدأ التحول . لكنها قطعا في زمن الثورات الشعبية الحقيقية تندحر إلى أسفل سلّم أولويات الشعوب الساعية أولا إلى الحريات و المساواة و الرفاه الاجتماعي

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني