وجهة الثورة السورية والمقاومة المتهاوية
لم تترك الثورة السورية من بين كل ثورات الربيع العربي خيارات متعددة أو مفتوحة تناور قيادة النظام الدولي من خلالها أو بها، وكذلك فعلت مع جميع الإقليمي الوظيفي فضلاً عن أدواتهم؛ بل وضعتهم كلهم على حدود فاصلة ودقيقة وحدية، هل يقبلون بمرحلة سياسية جديدة في المنطقة، أو يكابرون، ومن ثم تدفع جميع الأطراف أثماناً باهظة؟
ولقد وضعت الثورة بادئ ذي بدء السوريين بكل شرائحهم العامة والخاصة الملتصقة بالشعب بإرثها النضالي، أو إرثها العلمي، أو الديني، أو الفني، أو الوجاهي؛ أمام استحقاق تحديد موقف واضح من العصابة المجرمة غير ملتبس وغير متوارٍ، وفرزت على أساسه المجتمع بكل فئاته فرزاً شاقولياً.
ولم يفهم ماذا تعني الثورة السورية من حيث آثارها السياسية إلا الأميركي، وقلة قليلة من الأوربيين الذين خبروا الجغرافية وتاريخها عبر قرنين، أو يزيد من الزمن بشكل مباشر. الأمر الذي يفسر حالات السقوط والتهاوي والانتكاسات والاهتراء والضبابية والصَّغَار والاستزلام التي وقع فيها كثيرون.
وكان من الممكن لو توفرت ثلة ثورية سياسية مجتمعة فيما بينها على أسس صحيحة، وفاهمة لدور السوريين المرتقب وعمقهم وأثرهم الإقليمي والدولي أن تختصر الزمن والتضحيات، لكن التاريخ نفسه يقول: إن ذلك لا يمكن أن يتحقق بسهولة وبجولة واحدة خاطفة، أو ضربة أولى قاصمة.
ولو ذهبنا نشرح الحالات محلياً وإقليمياً ودولياً وما بين دفَّاتهم وثناياهم لوقفنا على خلاصات سياسية كثيرة جداً، وغاية في الأهمية، ولا تغني إحداها عن الأخرى، وإن ذلك ليس مراداً وغير ممكن ههنا إلا بما تقتضيه المقاومة المتهاوية، الأصل المبحوث في هذه الإضاءة.
ثم بعد الفرز المحلي الشاقولي شرخت الثورة المعارضةَ التقليديةَ منذ الأسابيع الأولى قسمين: هيئة التنسيق من جهة، والحزبين التقليديين من جهة ثانية، ثم ثبت أن هذين الحزبين أقصر قامة من الثورة بمرات ومرات، ولا يختلفان عن هيئة التنسيق بدليل اجتماعهم لاحقاً سوية بعدة محطات سياسية. وغير صحيح البتة أن الأحزاب اليمينية أقرب إلى المبادئ والقيم، وخارج الواقعية الانبطاحية مقارنة مع الأحزاب العلمانية واليسارية، بل إن هؤلاء جميعاً غارقون حتى الثمالة في الانقياد والتبعية، ولم يبرحوا الطفولة السياسية التي ترى في الدولي خاصة سيداً يقرر السياسة التي يريد على حساب الإرادة الشعبية التي تعتبر من خلال أدبياتهم السلوكية دون التنظيرية نزقاً وتهوراً، ولذلك فإن الهياكل والمنصات والفيالق والفرق والحكومات هي مزيج من كل الانتماءات، ولا فرق في سلوكياتهم السياسية التي تحكمها الواقعية التي تؤمن بالقوة المسيطرة وتخضع لها، وهذا من أهم ما أخر عملية التغيير، ومنع التموضع السياسي السيادي الذي يستحقه شعب المنطقة، ويليق بثقافتهم.
كما قسمت هذه الثورة العظيمة ما يسمى بالمقاومة، وأظهرت الشيعية منها أنها حالة طائفية نتنة، معبأة بأوزار الماضي، ممتلئة بالإجرام والتوحش في سبيل أفقها الضيق، لم تكن، ولن تكون ذات دور رائد في النهوض وخدمة قضايا المنطقة، وستبقى كما في كل تاريخها خنجرا مسموما في خاصرتنا.
وإن انزياح حركة المقاومة الإسلامية ” حماس ” نحو الثورة السورية لم يكن نابعاً من الشعور بضرورة الانتماء إلى المبادئ والقيم في العمل السياسي، وإنما كان انزياحاً براغماتياً كسائر الأحزاب المعارضة أو الحاكمة نابعاً من قراءتهم السياسية بأن الثورة السورية ستنتصر سريعاً، ولا بد من التحالف معها، وحينما لم يكن هذا الانتصار سريعاً فلا مانع من تركها والهرولة ثانية نحو العصابة الحاكمة بعد كل موجة الإجرام المريعة التي مارستها ضد الشعب السوري، ولا يدعو ذلك إلى الاستغراب أو الدهشة لأن تحالفها السابق مع العصابة كان قائماً أصلاً على المعرفة بحقيقة هذه العصابة ودورها الوظيفي الدنيء في كامل ملفات المنطقة بما فيها الفلسطينية، والتي لا تخفى على متابع بالحد الأدنى.
وإن حركة المقاومة الإسلامية كتلة واحدة متكاملة لا فرق بين شقها العسكري الذي يتفاخر ويصرح قادته علناً بالتنسيق مع مجرمي ملالي طهران، وقد جاء ذلك على لسان محمد السنوار في برنامج “ما خفي أعظم” بعنوان: “قلب المعادلة”، وبين شقها السياسي الداخلي حينما وصف هنيتهم بكل جوارحه ومن صميم أعماقه باعتبار سيميائه الحركية والصوتية المجرم الهالك “سليمانيهم” بأنه شهيد القدس، وكررها مراراً مستهتراً بدماء شرق المنطقة وغربها، ومستغبياً عقولاً كثيرة؛ أو السياسي الخارجي، حيث أكد رئيس الحركة في مقابلة أجريت معه أنه لا يوجد تياران داخل الحركة، والعلاقة مع إيران محل إجماع، معللين ذلك بتأمين لقمة العيش!!
وزيادة في فهم هذه الحركة نتساءل: بماذا تختلف حماس التي تريد أن تحرر القدس، حينما تنادي بضرورة العلاقة مع المجرمين من ملالي طهران والعصابة الحاكمة، عن حزب الشيطان الذي يرى أن الطريق إلى القدس يمر عبر حمص ودمشق وحلب وقتل أحرارها، والتنكيل بشيوخها، وانتهاك أعراضها، وطمس تاريخها! وبماذا يختلفون عن نهج المرجوم الخميني الذي يرى أن الطريق إلى القدس يمر عبر كربلاء ودم العراق كله! أي قدس هذه التي يتوافق عليها هؤلاء مع بعضهم على تحريرها!!
تتعامد الحركات والتيارات والأحزاب العلمانية والإسلامية واليسارية والمنظومات الحاكمة على اختلاف توجهاتها بفعل قوة الثورة السورية العظيمة ضمن خانة واحدة، وقد أبرزت أن المحاور المتناقضة أو المتخالفة فيما بينها مجرد وهم، فهي محور واحد لا يختلف أحدها عن الآخر، فالكل، حكومات ومعارضات ومقاومات يخدم السيد الأميركي الدارويني، بشكل مباشر او غير مباشر.
فحماس تشنع على الإمارات والبحرين في خضوعها وتطبيعها مع الصهيوني اليهودي، ثم تتحالف صاغرة مع الملالي، وتسعى باتجاه التطبيع مع العصابة؛ والإيراني والعصابة الحاكمة قلعة التخاذل والطعن والتوحش ترى في الإمارات حصناً منيعاً لهما!
إن معادلة حماس والإيراني والعصابة والإمارات والصهيوني اليهودي بتناقضاتها الظاهرية، كما معادلة أستانة المشؤومة تشيران بدلالة سياسية واضحة إلى كامل أرجاء المنطقة الرسمي منها والمعارض والمقاوم وحقيقتهم المشبعة بالخنوع والخضوع وخداع الشعوب والتلاعب بمقدراتها ومصيرها.
تحرص حماس ببعض أدبياتها السياسية وتصريحات كبرائها أن تصدر نفسها حركة تحررية تعبر عن ضمير الأمة، وهي لا تعدو ألعوبة صغيرة يتقاذفها الإقليمي الوظيفي ككرة الطائرة بإيقاع الدولي لتكون ملهاة الأمة وحالة تنفيسية تشبه مسلسلات اللحام وصواريخ حيفا، لا علاقة لها بالتاريخ ولا بصنعه، وربما يعتقد بعضهم أن هذا تقليلاً من شأن المجاهدين الذين بذلوا دماءهم رخيصة ضد الصهيوني اليهودي عبر عقود من الزمن، والحقيقة هي عكس ذلك تماماً فحتى لا تضيع دماء هؤلاء الشهداء العظام لا بد من إيجاد فاصل بين المرحلة السابقة للربيع العربي وسنواته الأولى وبعض التجاوزات، وما بعد ذلك، في دقة توجيه البوصلة، ورسم السياسات، وتوضيح شبكة علاقاتها.
وحماس من هذا المعطى تشبه إلى حد بعيد الفصائل السورية التي قبلت بالارتهان لاحتلال ما بعد كل التضحيات السابقة، وفضح هذه الفصائل وتبعيتها لا يعني التنكر للشهداء الذين انتموا إلى هذه الفصائل في مرحلة ما قبل وضوح حالة الارتهان للمحتلين.
وحماس نفسها تشنع على فتح بعد دخولها في مرحلة أوسلو، فأين شهداء فتح ونضالاتهم! وكذلك فعلت مع قيادة جبريل، أليست تشبههما إلى درجة التطابق؟!
كما تروج حماس أنها رأس حربة للأمة ضد الصهيوني اليهودي، وأنها جاهزة لرشقة صاروخية تقدر بـ 1111، وهي بتحالفها مع ملالي طهران والمليشيات الطائفية العفنة، وركضها نحو العصابة المجرمة التي أمطرت السوريين والعراقيين بأضعاف هذا العدد من الصواريخ لا تصلح لأن تكون ذيلاً للأمة.
وإني أدعو جميع المنصفين والمتوازنين محلياً وعربياً وإسلامياً من كل التيارات والانتماءات، وخصوصاً المنتسبين إلى حماس إلى الخروج من هياكلهم دون أدنى تردد، والكف عن الدفاع عنها؛ والدعوة إلى تفكيكها كلها لعدم صلاحيتها للعمل السياسي المناسب باعتبار طبيعة المرحلة وتطوراتها، والتحلل من أوهام المكتسبات، والبحث عن أطر جديدة تقود المنطقة إلى تموضعات سياسية قادرة على فهم النظام الدولي بقيادة الولايات المتحدة وتوزيعها الأدوار الوظيفية على الرسمي، واحتوائها الحركات والأحزاب والجماعات من خلاله؛ والعمل على تحديد المفاصل الرئيسية التي يدير النظام الدولي على أساسها منطقتنا للشروع بتقويضها بخطوات مهنية تراكمية، ومن أهم بنود هذا العمل السياسي المنظم المطلوب ألا يكون واسع الدائرة في مراحله الأولى، وكل دعوة لتوسيعه مباشرة على شاكلة مؤتمرات، أو تحالفات، أو ما شابهها، لا يعدو أن يكون خدمة للنظام الدولي والإطالة بعمره بعلم أو جهل.
أما دعوات الإصلاح والنصح في الغرف المغلقة بعيداً عن نوايا أصحابها، وتحبير البيانات الخجولة بمعزل عن دور مصدِّريها في ميدان ما فإنها لا تنم عن عمق سياسي في استيعاب شبكة العلاقات، وتؤكد تخبطهم وهشاشتهم التي توقعهم في الشباك والشراك المنصوبة لهم من قبل الدولي والإقليمي.
وكلما برروا تحركاتهم ازدادوا غرقاً وتناقضاً.
ولن تستجيب حماس – كحكومات المنطقة ومعارضاتها – لأمثال هذه الدعوات حكماً لأنها أسيرة الغرور، فلم يبق أحد منذ سنوات إلا حذرها من مغبة التعاون مع الإيراني المجرم وهي تزداد صلفاً وعناداً في تبريراتها لهذه العلاقة، وتستخف بالجميع، وتسوفهم، وتمضي في استرخاص فلسطين، وتقزيم القضية بطعام غزة.
ومن يتابع خطابات الرسمي والمعارض والمقاوم على حد سواء منذ انطلاقة الربيع العربي يدرك مستوى التعالي على آلام الناس ومصائبهم، ويدرك قصورهم السياسي في انغماسهم بالواقعية الانبطاحية التبريرية الانهزامية.
وإن النصح الذي يجب أن نفكر به تجاه هؤلاء بمن فيهم حماس هو نصح الإلجاء، والعمل الذي لا بد أن نركز عليه هو البحث في منطقتنا وفي ثورتنا عن الثلة السياسية التي تتجاوز كل هؤلاء وأولهم المقاومين المغرورين الذين يفرقون بين إجرام الصهيوني اليهودي وتوحش الإيراني، وبين الروسي والصيني الباحثين عن الهيمنة والأميركي الذي يفتك بالمنطقة طولاً وعرضاً، وتفرض إيقاع الإرادة الشعبية ليبدأ عهد المنطقة الجديد.
وكما أظهرت الثورة السورية وضاعة الأمم المتحدة وقراراتها الورقية، وكما أبانت المسرحية المضحكة التي تجري في مجلس أمنها بخصوص المعابر لنقل الغذاء إلى ملايين الناس، وكما وضحت زيف معادلة أصدقاء الشعب السوري الهزيلة، وكما بينت الزعامات الكركوزية؛ فإن أثرها السياسي الكبير – الذي سيترجم في وقت ما ليس ببعيد – يقتضي إسقاط حماس المتحالفة مع الملالي ومليشياتها الطائفية واللاهثة نحو العصابة المجرمة، من ضمير المنطقة، وطردها من جميع الفعاليات الشعبية، فالنظافة لا تقبل أضدادها.