fbpx

هرم ماسلو وإبداع البطاقة الذكية

0 356

في المعادلات البسيطة “اللقمة
لا تحتمل التأجيل أو التقنين” باعتبارها ضرورة “فيزيولوجية”
تحتاجها “العضوية” للبقاء على قيد الحياة، وكل الكائنات الحية تستطيع
الحصول على ما يكفيها من مستلزماتها 
الضرورية وإشباع حاجاتها الرئيسة في الظروف
والأحوال كافةً، وهذا لا يحتاج “إبداعاً” أو بحثاً مفصلاً لتوصيف
الضرورة بالنسبة للكائنات الحية أو مخاطر إلغائها وتقنينها، ما يحتاج بحثاً هو
“الإبداع” في إيجاد مجموعة كبيرة من الوسائل المستحدثة للتحكم بكمية
استهلاك الحاجات الضرورية بعمومها وكيفية الحصول عليها، لتتحول هذه الضرورة  إلى غاية وهدف لكائنات بشرية أقل ما يقال إنهم
على قيد الحياة.

هل يثور
الجياع؟

أخذ فقدان الحاجات الأساسية – وخصوصاً
الخبز – للحياة هامشاً واسعاً في التاريخ السياسي، وكان نقص القمح
و”الخبز” محركاً للثورات ووسيلة لفرض الرضوخ، فمنذ دهشة “ماري
أنطوانيت” بأن شعبها لا يأكل “الكاتو”،
واستخدام القمح كأداة ضغط أرهقت بها
أميركا الاتحاد السوفييتي، شكل الخبز ولقمة العيش خطاً أحمرَ يحاول الحكام
المستبدون مهما اقترفوا بشأن شعبهم من جرائم، ومهما بلغ حدّ الحرمان الذي يوصلون الشعوب
إليه، ألّا يقتربوا من “خبز الشعب” الذي يتمفصل حوله خطر
الجوع وما يعقبه من ردود فعل تصل نحو هزّ وإسقاط العروش كما حدث في مصر وتونس
وغيرها من “ثورات الخبز”.

ولكن هذا لم يعد شرطاً كافياً لا
للمستبد ولا لثورة الشعوب، خصوصاً مع اشتباك الكثير من المعطيات التي يستخدمها
الطغاة كـ “مبرر” للدوس على الخطوط الحمراء كافة وإسقاطها، والتي أخذت
في سوريا أوسع مجالاتها قبل الحرب وبعدها.

قبل الحرب رغم وجود فائض في إنتاج
القمح وتحقيق الاكتفاء، لكن السياسة الاقتصادية لم تكن متجهة نحو الإنتاج الزراعي
وتنميته ودعمه، وفي السياسة العامة كان إشباع الحاجات الضرورية للحياة وفقاً
لنظرية الدافع البشري  أو
“هرم ماسلو” مترنحاً متداخلاً مع حاجة “الأمان”، التي
تقتصر على أمان الوطن ضد العدوان الخارجي متمثلاً بإسرائيل، وقبول الشعب السوري
اقتطاع ما يعادل 80% من رصيده لإعداد الجيش، فالأمان لمواطن عربي سوري لا يكون
خاضعاً لهرم ماسلو ومحدداته في (السلامة الجسدية من العنف والاعتداء، الأمن
الوظيفي، أمن الإيرادات والموارد، الأمن المعنوي والنفسي، الأمن الأسري، الأمن
الصحي، أمن الممتلكات الشخصية) التي يفترض بالدولة تقديمها، بل لهرم السلطة التي أخضعت
محددات الأمن لما يحفظ أمنها وامتلكت بسياستها قدرة التأرجح بين البروباغندا
والدعاية الخالصة لموقفها المقاوم، والعنف الوحشي لزرع أمان مقابل الخضوع.
فالسوريون بعمومهم لم يتجاوزوا عتبة الحدّ الأدنى لهرم ماسلو، في
ترتيبه حاجات الإنسان ووصف الدوافع التي تُحرّكه، وصارت ملامسة العتبة أو (حدّ
الاكتفاء) حلماً، بعد أن كانت سياسة التجويع واحدة من أسباب ثورة السوريين وجزءاً
من مآسٍ تلتها.

إدارة
الجوع والتجويع

شكلت إدارة الجوع والتجويع جزءاً
أساسياً من سياسة الهرم السلطوي بعد إعلان الحرب، فقد أزال عن عاتقه ما يمكن أن
يسمى خطوط حمراء في حاجة البشر الأولية من (غذاء وماء وكهرباء وغيرها)، ومع اشتعال
المناطق في الحروب والحصار وفقدان مقومات الحياة كافة، أصبح الخبز – الذي يعتبر
أساس الغذاء السوري منذ العام 6000 ق.م حينما اكتشف السومريون الفرن – بأيدي تجار
الحرب المتحكمين بالكمية والسعر، علماً أن الدولة السورية بدأت برفع أسعار الخبز
منذ 2013 وقبل أن تمتد أيدي أمراء الحرب تجاه خبز الشعب، بحجة نقص مخزون القمح
والحرب على الإرهاب والإرهابيين،  وكان
شعار( الجوع أو الركوع) أحد الشعارات التي أطلقت في المناطق المحاصرة لإعادتها بما
يسمى المصالحات الوطنية.

ومع إشاعة “الانتصار”
والذي لم يكن بحقيقته الأكثر وضوحاً سوى انتصاراً على مطالب
الشعب وتحويله إلى شتات سوري، وتحويل سوريا إلى ركام، فإن مقومات الحياة المعدمة
توالت انحدراً على المستويات كافة، ففي سوريا ما يقارب 8 مليون جائع وفق التقديرات
الدورية لبرنامج الغذاء العالمي WFP لأزمة الغذاء في سوريا. وكما كان الفقر وسوء
الظروف المعيشية قبل المأساة مرتبطاً مترافقاً مع ملفات هائلة للفساد ودعم
الفاسدين، بقي خلال الحرب مرتبطاً ومترافقاً مع أمراء الحرب من كل الجهات، ولا
يمكن للسوري إعلاء صوته بشأنها. ومع وصول الفقر والعوز السوري إلى مرحلة أشد مما
كان خلال الحرب، فإن أنظار البروباغندا اتجهت نحو العقوبات الاقتصادية لتجعلها
مطية لإسكات الشعب، وخصوصاً عقوبات “سيزر” لإقناع الفقراء بأنها السبب
الرئيس للفقر، وغض الطرف عن الفساد الذي يسم الاقتصاد السوري منذ عقود وعن
المستفيدين مما بقي من سوريا، فتجار الأزمة تحوّلوا إلى “مافيا” مدعومة
بالسلاح والمناصب تتحكم بقرارات الاقتصاد وقوت السوريين.

قانون
سيزر ضد من؟

في واقع الحال لم تكن عقوبة
“سيزر” موجهة ضد الشعب بل ضد السلطة وتوحشها، ومهما كان أثرها على
المواطنين الذين يعانون أصلاً من القمع ثم من الحرب، فالمشكلة تبقى في استمرار
توحش السلطة التي لا تتوانى عن امتصاص آخر قطرة دماء لدى السوريين. وهذا الجوع
السوري ليس بسبب نقص المواد الغذائية الضرورية، بل استمراراً لسياسة التجويع التي
تظهر في انعدام القدرة الشرائية، التي حولت الخبز وحده غذاءً للسوريين، قبل أن
يدخل إبداع التقييد ببطاقة حكومية “ذكية” تحسب معايير الخبز وتدخله خطة
الحرمان، أسوة بمواد تموينية سابقة كالرز والشاي والسكر والزيت تم تقليص كمياتها
واحتكارها لصالح شركة “تكامل” التي تقتنص ضريبة من المواطنين على مواد
الكفاف، وتعود بها لجيوب النظام الراعي والمستثمر بهذه البطاقة وغيرها.

وإشاعة إن هدف البطاقة الذكية هو
الحدّ من التهريب والاحتكار والتوزيع لمستحقيه حسب الحاجة مع عدالة اجتماعية،
فالحرمان وتنظيم استهلاك الأفراد هو العدالة الاجتماعية التي يقدمها النظام بحسابه
مخصصات الخبز و”حدّ الاكتفاء”، الذي لا يمكن أخذه بعيداً عن السخرية،
وقدرة النظام على حلّ إشكالية نظرية “إبراهام ماسلو” بأنه لم يحدد حجم
الإشباع اللازم للانتقال إلى الحاجة الأعلى منها مباشرة، فإن حدود الكفاية
والإشباع تمت برمجتهما وفقاً لإبداع “البطاقة الذكية”، بحيث يبقى دافع
الحصول على رغيف خبز لا أكثر يحرك السوريين.

ختاماً

ما وصل إليه حال الداخل السوري من مآس متراكمة في ظل
انعدام الحلول والتسويات حتى الآن، بفعل مصالح منظومة الدمار والنهب الدولية
والمحلية، يزداد كارثية في تحويل السوريين إلى جوعى حتى لرغيف خبز في ظل سلطة
“متوحشة” سقط عنها الخوف من مواطنيها الذي اعتبره “مونتيسكو” جزءاً من مخاوف
الطغيان، فبعد التيقن أن هذا الشعب الذي انحدرت به الحال عقب صرخة
“الحرية”، ومواجهتها بأشكال العنف كافة وصولاً إلى الأسلحة المتطورة
المحرمة دولياً، واستخدام الأساليب “الذكية” كافة في القمع، لن يعيد
الصرخة ليطالب بضروريات الحياة. لتبقى السلطة الاعتباطية تدير ما تديره دون أن تحتاج
لتقديم حساب، ولا أن تُطالَب بتحمل المسؤولية، ويبقى السوري يحلم مع البطاقة
الذكية بأسفل العتبة لسلم ماسلو.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني