fbpx

مسلسلات البيئة الشامية: موسم التوحش والتشويه والماضي الأسود!

0 500

لا أجد مدخلاً لهذه الدراسة، أكثر تعبيراً من العنوان المستوحى من اسم كتاب شهير للراحل ممدوح عدوان هو (حيونة الإنسان)، ذلك أن ما شاهدناه في موسم الدراما السورية في رمضان 1444/2023 هو تجسيد حقيقي لمفهوم “حيونة الدراما”، أي إلغاء أهم خاصية لدى البشر في هذه الدراما، سواء كانوا شخصيات درامية أو مشاهدين متابعين لها، ألا وهي خاصية العقل باعتباره ليس أداة للفهم فقط، بل للوعي والإدراك والتحليل والتبصّر.

وربما كان أهم ما يستحق التحليل في موسم حيونة الدراما هذا، هو هذا الكم من مسلسلات البيئة الشامية المتوحشة التي أباحت كل الشرور والآثام، وجعلتها فعلاً طبيعياً لدى البشر المتصارعين بلا هوادة ولا مرجعيات قيمية ثابتة، وهكذا فبدل أن تكون دراما البيئة الشامية صراعاً بين خير وشر، كما هي معظم حال الدرامات في العالم على اختلاف أنواعها وبيئاتها، صارت صراعاً بين شر وشر آخر، بين قتلة مجرمين وبين سفلة وقوادين، والرابح الوحيد في خضم هذا الصراع هو انتصار الشر على الشر نفسه!.

وإذا أردنا أن نستعير مفهوم (التطهير) من المسرح الإغريقي، لنسأل: أين هي متعة أو فائدة هذا الانتصار بالنسبة للمشاهد؟ فلا بد أن يكون الجواب بعد طول بحث واجتهاد، أن المتعة تكمن أنك – كمشاهد – ستجد نفسك مجبراً على اختيار أي الشرور هي أقرب إليك، كي تجد نفسك وأنت تصفق لها وتنحاز، متماهياً مع شر أقل وضاعة من الشر الآخر الذي تناصبه العداء. ولا يهم إن وجدت نفسك قي لحظة التماهي هذه جزءاً من الحالة، فأنت في النهاية مشاهد، ويداك لم تتلوثا بصنع هذه الدراما ولا بسفك الدماء فيها، بل فقط منحها شيئاً من القيمة والأهمية من خلال مواظبتك على متابعتها.

العربجي: الشر وأهله!

حاول صناع مسلسل (العربجي) الذي كتبه عثمان جحا ومؤيد النابلسي، وأخرجه سيف الدين السبيعي، نفي نسبة المسلسل لمسلسلات البيئة الشامية، عبر التنويه في مطلع كل حلقة بأن: “هذه الحكاية من وحي الخيال، لم تحدث في أي زمان ومكان،” وعبر التصرف في الديكورات الهجينة، التي لم تغن مخرج المسلسل في النهاية عن اللجوء للبيوت الدمشقية للتصوير فيها، لكن هذه المحاولات زادت من تخبط المسلسل وضياعه، فلا نفي معالم البيئة الدمشقية وهويتها كان تاماً، إذ أن أسماء الشخصيات والعائللات (النشواتي، النويلاتي، الجوخدار) هي دمشقية، وكذلك نمط الصراعات داخل الحارة وحول مفهوم الزعامة، والاستثئار بتجارة الحبوب ومفهوم الخان، وحتى مهنة بطل المسلسل هي حرفة تقليدية دمشقية مصاغة بمفردة دمشقية (العربجي) ولا تأكيد مرجعية هذه البيئة كان تاماً من خلال الملابس والإكسسوارات وبعض التفاصيل البيئية الملعوب بها بسذاجة عبثية لا معنى لها. لكن في النهاية لم يشذ المسلسل عن أمراض مسلسلات البيئة الشامية ونقاط التشابه والاجترار في تأليف واستنساخ حكاياتها، مجسدا كل سوءات هذه الدراما.

يبدأ المسلسل بصراع درامي محتدم بين درية خانم وشقيق زوجها (أبو حمزة) الذي يرث زعامة أخيه للحارة، والذي يقوم – بالاتفاق مع المغّسل – بوضع بصمات شقيقه المتوفى على حجج بيع مزوّرة للاستيلاء على بعض أملاكه. تبدو المواجهة محتدمة بين شقيق وضيع يمثل الشر التقليدي والتطلع لتبوأ مكانة ليس أهلا لها، وبين زوجة أخ قوية تحاول الدفاع عن إرث زوجها المتوفى، مشفوعة بنسب عريق وثروة وفيرة وقوة شخصية وتدبر.

لكن سرعان ما نكتشف أن كل هذه الصفات لم تجعل من شخصية (درّية خانم) حالة مختلفة، لا النسب العريق، ولا الثروة المتوارثة، ولا رجاحة العقل، ولا امتلاكها للحق في مواجهة نقيض فاقد للمعايير الأخلاقية تناصبه العداء جعل منها نقيضاً له، بل هي آية من آيات الشر غير المبرر، إذ تنكشف حقيقتها عندما تسهم في تشجيع الداية (بدور) على تلويث شرف ابنة العربجي، متماشية بذلك مع رغبة خصمها (أبو حمزة) في الانتقام من أبيها. وإذا أمكن لنا أن نفهم أن دوافع (أبو حمزة) للانتقام من العربجي المتعيش في خان يديره هو تمرده السافر علي، فما هي دوافع (دريّة خانم) لمشاركته في هذا الفعل، وخصوصاً أن العربجي مقرب منها، ويمثل ورقة قوية بيدها في صراعها مع شقيق زوجها ومواجهة مؤامراته؟!.

لا جواب على هذا السؤال سوى الرغبة في تكريس صورة الشر، والقول إن كل الأغنياء وأبناء الجاه والنسب متشابهون، يحقدون بلا أسباب، وينتقمون بلا مبررات قوية، ويكيدون لجميع البشر، لأنهم أشرار ومتسلطون هكذا، يحبون الشر للشر، وهم يتحالفون مع الدولة العلية من أجل استعباد الناس وسرقة قمحهم واحتكار قوتهم في زمن الحرب.

حتى البطل الإيجابي في العمل (عبده العربجي) سرعان ما يصبح مثلهم، يسرق ويقطع الطريق ويقتل دفاعاً عن النفس أو انتقاماً، لكنه في كلا الحالتين يطبق قانونه الخاص، ويأخذ حقه بيده في ظل شريعة غاب تحكم جميع العلاقات وتذكي الصراعات، وتنتج خراباً قيمياً مثيراً للتقزز والنفور، يغدو فيه وصف هذه الحارة من قبل إحدى الشخصيات المستضعفة بـ “الحارة الزبالة” مراراً وتكراراً هو وصف مخفف جداً، أمام زعيم حارة مجرم، ومختار مرتشٍ، وتجار يأكلون حقوق مؤجريهم من النساء اللواتي لا حول لهن ولا قوة!.

هدر الكرامة الإنسانية سمة أساسية في دراما من هذا النوع، وتعريض البنات المتهمات بشرفهن لفحص العذرية من قبل داية لعوب وفاقدة لأدنى إحساس بالمسؤولية الأخلاقية تجاه دورها الاجتماعي في مجتمع مغلق ومحافظ وتجاه ضميرها، مثال صارخ على غياب الذوق والمعرفة بقيم البيئة لدى كاتبيْ هذه الدراما ومخرجها. فحوادث التأكد من عذرية فتاة عبر فحصها في مسألة ملفقة، هي اختراع درامي سبق إليه الكاتب أحمد حامد في (أهل الراية) ثم في (طوق البنات)، والمجتمع الدمشقي لا يتعامل مع هذه المسائل بتلك الفظاظة الفضائحية البعيدة كل البعد عن طبيعته المحافظة، فكيف وقد جعل صناع العربجي المستغرقين في جهلهم، هذا الاختبار النسائي يتم في غرفة ملحقة بمضافة لأعيان الحارة؟! إنه جهل وافتراء لا يمكن تصور مستويات انحداره!.

ويترافق هدر الكرامة الإنسانية عادة مع سذاجة الحلول الدرامية، وسهولة حبك المكائد، فكل الشخصيات المستضعفة مؤهلة لأن تقع في أي مكيدة مهما كانت ساذجة، وكل الشخصيات التي تخرج نسبياً عن سمة الشر ويمكن إلباسها لبوس خير هي شخصيات غبية بالضرورة، يسهل الضحك عليها واستدراجها كما يحدث مع ابنة العربجي في فبركة حادثة تحرش شومان بها، وإثبات واقعة الزنا المفبركة عليها. كلهم يجب أن يكونوا أغبياء كي يستفرد الشر بمسار الأحداث، وكي تأكل الضحية الطعم وتصبح الضحية ضحية، تموت حرقاً ولا من مغيث!.

لا ناظم لقوانين الشر وآلياته الدرامية لا في خط الصراع الرئيسي ولا في الخطوط الفرعية والثانوية، غياب للمبرر والدافع، يجعل من الممكن تلفيق أي قصة من قبيل أن عمة الداية (بدور) التي تجسد شخصيتها الممثلة المخضرمة هدى شعراوي، قد سعت فيما مضى للبحث عن زوجة ثانية لأبي نوري، وعندما علمت زوجته القوية (درية خانم) أرسلت من يضرب هذه الداية على رأسها فأصيبت بالعمى.

الغريب أن المسلسل لا يتحدث أو يشير أبداً إلى أن أبي نوري كان متبرماً من عيشته مع زوجته الحسناء، ابنة الحسب والنسب، التي منحته الثروة، ولكن الشر الأعمى قال كلمته، وما علينا سوى تلفيق قصة بأي طريقة، والأغرب أن (درية خانم) تفخر بأنها انتقمت بهذه الطريقة، وتطلب من الداية بدور أن تسأل عمتها كيف فقدت بصرها؟!.

ليس غريباً في ظل هذه السذاجة الدرامية المؤسسة على انهيار سلم القيم الاجتماعي الشامل من جهة، وغياب أبجديات فهم الدراما ودورها وآليات بنائها أن ينتهي بطل المسلسل الإيجابي (عبده العربجي) قاتلاً وقاطع طريق، يرمي القمح من على أسطح المنازل للمحتاجين، كما يرمي جثث من قتلهم من على أسطح منازل أسيادهم أو مشغليهم. ولا أن يضرب الموت خبط عشواء تارة بتهمة التخابر مع العربجي وإفشاء الأسرار له، وأخرى أثناء اقتحام العاشق (حمزة) لمنزل الفتاة التي يريد الزواج بها، فيقوم بقتل والدتها!.

في ظل هذا الرسم الحاد لصراع الشر مع الشر، وما يلده هذا الصراع الأجوف من شرور صغيرة، لا يمكن أن تجد أداء تمثيلياً تعبيرياً. يذهب الممثلون إلى أقصى درجات سمات شخصيتهم، فالشرير شرير للغاية يصرخ ويضرب ويصفع، وإن استطاع سلوم حداد أن يكسو شخصيته تلك ببعض لحظات المكر والمناورة التي يجيدها، والخير أبله وساذج يسهل التغرير به، والتحول بين الشر والشر، والغباء، لا ينتج سوى أداء أحادياً، ربما عبرت عنه الفنانة نادين أصدق تعبير، فكل هذه القوة هي قوة مصنوعة، أحادية، تفتقر للتلوين والمساحات الإنسانية وتتحول إلى مانشيت، مثلها مثل أداء باسم ياخور، الذي ترفعه القوة الجسدية، وتهوي به مداركه العقلية إذا ما جاز لها استخدامها في إلباس شخصيته بعضا من لبوس النباهة التائهة!.

زقاق الجن: كاريزما الكراهية

يحمل مسلسل (زقاق الجن) الذي كتبه محمد العاص وأخرجه تامر إسحاق، اسم محلة شهيرة موقعها حالياً في منطقة البرامكة بدمشق، كان يقال إن بساتينها الموحشة البعيدة عن العمران نسبياً مسكونة بالجان، وكانت تنسج حول ذلك الأساطير والقصص الشعبية المسلية التي غالباً ما تنتهي بنكتة تخفف من وقع الإثارة والرعب في نفوس السامعين. لكن صناع هذا المسلسل جعلوها عنواناً لسلسلة من الجرائم التي تقع في الحارة المجاورة لتلك البساتين، وتستهدف أطفال الحارة بالخطف والقتل.

تترافق هذه الحبكة البوليسية مع حبكة اجتماعية من نوع خاص، تتمثل في عائلة الجد (أبو نذير) المتعددة الأجيال، والتي ترزح كلها تحت سلطة هذا الجد القاسي الفاسد، فتنتج نماذج مهزوزة ومشوهة: الابن الأكبر (أبو تيسير) الطيب والضعيف أمام جبروت أبيه، والابن الأصغر الفنان المسرحي الذي غضب عليه الأب لأنه يشتغل بالمرسح ويجلب العار لاسم العائلة، والابنة التي تزوجت من رجل سرعان ما دب الخلاف بينه وبين هذا الأب فقرر ألا يزوج حفيدته من ابنه الأكبر، لحفيدته من ابنته الوحيدة المتبقية على قيد الحياة، وتسبب بمأساة للعاشقين: (ملك وعربي). لكن النماذج الأكثر تشوهاً نراها في الأحفاد الشبان، من أولاد الابن الأكبر: فالابن الأكبر (تيسير) شخص فاسد يصفق لتسلط واستبداد جده بالحق وبالباطل، وشقيقه (مأمون) يتحول إلى سكّير، وشقيقهما (مروان) يعشق امرأة تكبره ويعيش حالة تمرد ويقرر الهرب من البيت والحارة، أما الابن (مجدي) فيعاني من حالة سلس بولي رغم زواجه، ما يجعله يبدو عاجزاً جنسياً، ومثاراً لتنكيل وقرف زوجته في واحدة من أكثر النماذج الدرامية إهداراً للكرامة الإنسانية، وهذه سمة يشترك فيها عادة الكتاب المملوئين بالضحالة والسفه، فالعيوب والأمراض التي تعاني منها الشخصية المأزومة عادة، سواء كانت عضوية أو نفسية، لا يمكن معالجتها بمثل هذه الفضائحية والمشاهد المهينة التي تجعل رجلاً متزوجاً يتبول في فراش الزوجية تارة ومن شباك غرفته إلى أرض الدار المشتركة مع باقي أفراد العائلة تارة أخرى، أو يجعل زوجته تهينه وتمعن في تحطيم شخصيته في مشاهد مكررة تنضح مازوشية وألماً وإثارة للنفور، ثم ما هذه العائلة التي تقبل أن يهان ابنها المتزوج من قبل زوجته ليل نهار وهو يقيم بينهم دون أن تضع حداً لذلك أو تبحث ولو مجرد بحث عن علاج له؟!.

لقد أمعن صناع العمل في جعل السلس البولي الناتج عن الخوف الذي عاناه (مجدي) وهو طفل بسبب إدخاله من قبل جده لغرفة حطب التدفئة المظلمة، في جعله مفتاحاً للضعف الجنسي تارة، والعته العقلي طوراً، والتأتأة اللفظية في كل الأحوال، فصارت مقولة الخوف والعقاب القاسي يصنع كل هذا، مقولة تنضح بالخلط العلمي والطبي، ناهيك بافتقاد الحس الاجتماعي والدرامي في معالجة الحالة.

ولعل الأمر نفسه ينطبق على معالجة باقي شخصيات العمل، فالجد المتسلط هو نموذج مطلق للشر بأركانه: متسلط، متحجر الفكر، قاسي القلب، دنيء ومتصابٍ، لا يتورع عن القتل أو الحض عليه، والمسلسل لا يقول لنا لماذا أصبح هكذا خارج ضرورات صناعة الشر المطلق هنا، بل إنه لا يقدم له أية حسنة أو ميزة يمكن التعاطف معها مثل البشر العاديين، ولعل كاريزما الكراهية التي يتمتع بها الممثل أيمن زيدان الذي أدى هذه الشخصية، ساهمت بدورها في تكريس كل هذه القيم السلبية المسبقة الصنع في شخصية لم تشم رائحة الخير في حياتها.

ويمكن استعارة تعبير “كاريزما الكراهية” أي الحضور الخاص للشخصيات الممتلئة بالكره والمثيرة له، كمفتاح للعديد من الشخصيات الأخرى التي تسرح وتمرح على رقعة العمل الدرامية، وأقول: “تسرح وتمرح” ليس من قبيل التعبير المجازي، بل لتوصيف شكل الحضور الدرامي تماماً، فشخصية الخادمة (ثريا)، تعيث فساداً في البيت، جاعلة من هذا الجد المتسلط ألعوبة بيدها، تديره بمكر مفضوح لا ينطلي على طفل في المرحلة الابتدائية، ومتقلبة في أدائها الأفعواني الممتلئ بالغواية بين الجد والابن والأحفاد، بلا أي ناظم درامي لتلك العلاقات التي يضفي عليها أداء الممثلة صفاء سلطان المتمادي في فجاجته سمات غير فنية في الأداء ومقاربة الشخصية، والأمر نفسه ينطبق على شخصية (أبو العز) التي يؤديها الممثل عبد المنعم عمايري بلا أي هدف درامي واضح، مقدماً شخصية: لص، قاتل، قواد، واشٍ، ينتهي مسموماً بسم الجرذان على يد المرأة التي يساكنها دون زواج شرعي، ويعد عشاقها والوافدين على مخدعها دون أدنى إحساس بالشرف الاجتماعي ولا أقول الشخصي. شخصية تحيا في مستنقع من الرذائل وتموت فيه دون أن تقدم أي إضافة لدراما العمل أو مقولاته، إن كان ثمة مقولات تستحق أن يتم التوقف عندها.

ذاك هو الحال في الخط الاجتماعي، أما في الخط البوليسي فيؤسس العمل جرائم قتل الأطفال على حادث إعدام والد القاتل أمام عينيه شنقاً حين كان طفلاً. المقولة التي أراد أن يوصلها القاتل، المعتوه أو الذي يدعي العته ويدخل إلى مشفى المجانين ثم يخرج منه: لقد حرموني من أبي وأنا طفل، لذا سأحرم هؤلاء الآباء من أطفالهم.

لا يوضح صناع العمل حقيقة جنون القاتل، ولا يشخصون اضطرابه النفسي اضطراباً دقيقاً، ففي دراما الجهل وفبركة الحكايا لا معنى لمعالجة مثل هذه الأمور والتوقف عندها، فالمطلوب هو فبركة جريمة، وصناعة حالة غموض وتشويق بأي شكل من الأشكال، دون أي اعتبار لتأسيس ذلك على معطيات درامية مقنعة ومدروسة. وكي يكتمل الجو يحتاج مناخ الجرائم هذا إلى تمائم وتعاويذ سحرة، وبخور يُحرق ودماء تسيل وحرائق تشتعل، ويمكن لجعل الشر مطلقاً أن يدفع رئيس المخفر (أبو عفيف) ثمناً باهظاً من مستقبله المهني والحياتي ومن حياته وحياة زوجته ثمناً لصفعة وجهها لطبيب لم يستطيع أن يحمي طفلاً من قاتله داخل المشفى التي يعمل بها، وهو سبب تافه للتأسيس لسلسلة عذابات مجانية مفبركة تنتهي بالعمل على جلب زوجته لاغتصابها أمام عينيه قبل أن تقتل نفسها، في تقليد وحشي سارت عليه مخابرات الأسد، ولم يعرف لا في تلك العهود ولا ما تلاها.

في النهاية لا يقدم مسلسل (زقاق الجن) خارج متعة التشويق البوليسي لعشاق النوع، أي مقاربة تستحق الاحترام لمجتمع الحارة الدمشقية، بل يصطف جنباً إلى جنب العديد من المسلسلات التي افترت على هذه البيئة وشوهت حياة الناس، واستبدلت قيم المحبة والتكاتف الاجتماعي ومواجهة مصاعب الحياة والاستمتاع بمسراتها، بكاريزما الكراهية وشريعة القتل، وصراع الشر مع نفسه أمام شخصيات خيّرة مستلبة لا تعرف سوى أن تكون مفعولاً بها في بيئة يتحكم فيها الشر والتسلط والأنانية والمكر والخديعة، ولا تجيد في النهاية سوى اللطم والنواح!.

حارة القبة: دراما الغباء والتغابي

سبقت مسلسل (حارة القبة) في جزئه الثالث، دعاية الجزأين الأول والثاني منه، اللذين عرضا في العامين الماضيين، وسمعة مخرجته رشا شربجي التي حققت مسلسلات ناجحة ومثيرة للاهتمام قبل ذلك، ناهيك بكاتبه، مهندس الإضاءة أسامة كوكش، الذي ينتمي إلى عائلة فنية عريقة، عميدها شقيقه الأكبر المخرج الراحل علاء الدين كوكش، وتضم شقيقه رشاد كوكش مخرجاً وممثلاً في كم من مسلسلات دراما البيئة الشامية، وابنة شقيقه الفنانة سمر كوكش. أي أن الكاتب هو دمشقي البيئة والانتماء والهوى الفني في آن معاً.

ولأنني لم يسبق لي أن شاهدت الجزأين الأول والثاني من هذا المسلسل، فقد عدت لمشاهدتهما كاملين، حتى يكون حكمي على الجزء الثالث منصفاً، ومتسقاً مع المسار الذي سار فيه هذا المسلسل الماضي في غيّه كما تقول نهاية الجزء الثالث المعّلقة، التي تؤكد وجود أجزاء أخرى قادمة. ولكن السؤال: هل كان الجزء الثالث بمستوى الجزأين الأول والثاني من المسلسل؟ هل تقدم؟ هل تراجع؟ أم سار على نفس المسار؟!.

يمكن القول باختصار أن الجزء الثالث سار على نفس المسار الرديء للجزأين الأول والثاني من (حارة القبة) هذا، فهو دراما تقوم على سلسلة لا تنتهي من المصائب التي تقع على رأس بطل العمل الشهم الشجاع (أبو العز) يؤدي دوره باقتدار الفنان عباس النوري. إذ إن البنية الدرامية للعمل كله تقوم على حياكة المكائد وتجهيز الأفخاخ وابتكار وسائل الأذى والشر من أجل النيل من بطل المسلسل المعدّل وتشويه سمعته وسمعة عائلته وابتزازه وتحطيمه. هذا هو الهدف الدرامي الذي مازال المسلسل على مدار ثلاثة أجزاء وما يزيد على أكثر من مائة حلقة يسير للإعادة والاستزادة منه.

ولأن مسلسلات البيئة الشامية تستنسخ من بعضها بعضاً، يعود المسلسل لاستعارة تيمة “الصراع حول الأمانة” من مسلسل (ليالي الصالحية) للمخرج الراحل بسام الملا، وهكذا يدور الصراع في الجزأين الأول والثاني حول محاولات غازي بيك، استعادة الأمانة التي وضعها والده لدى صهره (أبو العز) وهي عبارة عن صندوق يحوي وصيته، لا يفتح إلا بعد عام على رحيله. لكن المصائب التي تنزل على رأس (أبو العز) مثل الرز، لا تنتهي بحلول موعد فتح الأمانة والقيام بذلك على رؤوس الأشهاد مع نهاية الجزء الثاني، بل تستمر وتتوالد وكأن المطلوب هو تسويد عيشة (أبو العز) بأي شكل من الأشكال، لدرجة أن هذا الرجل الوقور المشورب، يبكي بصوت عال سائلاً ربه: ليش يارب ليش؟ ما بكفي؟!.

طبعاً لا علاقة لرب العالمين بدراما تمثيلية يكتبها بشر بهدف الإثار والتشويق وشحن المشاهد بالانفعالات السلبية القاتمة التي تؤكد سواد هذه الحياة وكارثيتها، كما باتت صورة الحياة في دراما البيئة الشامية المنطوية على حكاياتها المفبركة وخيالها الأسود، وجهلها المريع بأبجديات البيئة والدراما في آن معا، مصائب (أبو العز) من فعل بشر، وهم صناع هذا المسلسل المليء بالهذر الفارغ، والصراعات المجانية التافهة، والسعي المحموم نحو إدهاش المتلقي بكم من حكايات الشر التي يظن صناع هذا المسلسل أنها لا تخطر على بال، من قبيل الدخول إلى بيت مجهور وثقب حائط بيت (أبو العز) من قبل اثنين من زعران الحارة، من أجل التلصص عليه، وكشف ستر بناته وزوجته المستورات إلى جانب معرفة مكان الأمانة طبعاً، وسوى ذلك من الألعاب الصبيانية التي لا أفهم كيف يستسيغها عقل إنسان يعرف ما هي تقاليد الحارة الدمشقية وخطوطها الحمراء التي لم يكن حتى الزعران يتجاوزونها!.

ويستمر خيال الكاتب في صناعة حكايات ساذجة وسخيفة لا أحد يطرح سؤالاً من صناع العمل حول مدى جدارتها باحترام عقل المشاهد، من قبيل قيام زوجة (أبو العز) السابقة، وهي سيدة وقورة وذات مكانة بالزواج من بلطجي الحارة (طبنجا) لمجرد الانتقام منه، إذا تقوم في ليلتهما الأولى بتوثيقه بالحبال في عوارض السير بعد أن استبد به السكر، ثم تنكل به على مدى أيام، بعد إجباره على شرب الخشخاش المخدر كي يذهب إلى الحمام ويعود وهو مهدود الحيل، ناهيك بوضع المكياج على وجهه لإذلاله، قبل أن يتمكن هو منها، في تصوّر غرائبي يُسخّف شخصية بطلة المسلسل ويقزّم دراما العمل برمته!.

ومع إيماننا أن الدراما في جوهرها هي صراع بين إرادات متباينة، إلا أن ما نراه في (حارة القبة) لا يحاكي هذا الجوهر، بل هو سلسلة من المصائب المتتالية التي لا يمكن أن تقع إلا بتغابي المفعول به، بحيث أن طرح أي سؤال حول سلوك الشخصيات يمكن أن يقوّض الحتمية الدرامية التي يسلكها الحدث، فلو سألت: لماذا لم تخبر أم العز زوجها بأن أزعر الحارة (طبنجا) يبتزها بقصة ابنتها التي كانت تتكلم مع ابن الجيران على السطوح، وانساقت وراء ابتزازه لدرجة الذهاب لإعطائه مصاغها الذهبي، مع أن العلاقة مع زوجها ليست مسكونة بالتسلط والقهر، فلن تجد جواباً على هذا السؤال البسيط الذي يقوّض خطاً درامياً برمته سوى أن الكاتب أو المخرج عاوز كده؟ ولو سألت لماذا لم يصرخ الطفل رضوان حين اكتشف أن أبا الريح يثقب جدار بيتهم، ويبلغ أمه أو إحدى أخواته مع أنه لم يمكن وحيداً في المنزل حينها، وبالتالي وفر جريمة خطفه ثم قتله ثم تورط والده في الثأر من مقتله، لما وجدت جواباً لهذا السؤال البسيط سوى أن الكاتب رتبها هكذا، وبالمعيار نفسه هناك سلسلة طويلة من الأحداث التي يبني عليها المسلسل مساراته الدرامية ما كانت لتحدث لو أنها خضعت لقانون الحتمية الدرامية، أي استنفاذ كل الأسئلة المنطقية التي تجعل الحدث لا يمكن أن يسير إلا في المسار الذي سار فيه!.

الغباء والتغابي هما السمتان البارزتان لانتصار الشر في مسلسل (حارة القبة) حتى لتغدو القاعدة هي انتصار الشر، أما الاستثناء فهو تمكن الخير من انتزاع مساحة ضئيلة له في هذه الدراما المضطربة للتعبير عن ذاته، ولعل أسوأ أمثلة هذا الغباء والتغابي تمكن ابنة (أبو الأحلام) التي ضبطها والدها وهي تحمل مسروقات من بيت (أبو العز) من أن تهرب وتدعي أن أباها هو الذي أرغمها على السرقة وتلبسه التهمة، فقط لأن أبا الأحلام رفض أن تحلف يميناً على القرآن؟ هل هذا منطقي؟ هل يفرط رجل بأغلى ما يملكه وهو سمعته وأمانته من أجل أن يحمي ابنته السارقة التي تلفق تهمة له من حلف يمين غموس؟ ما هذه الاستهانة بعقل المشاهد وبمنطق الأشياء؟!.

في ظل هذا التهافت الدرامي يبدو التدقيق في الجانب التاريخي عبثاً في عبث، فهو مبني بالمطلق على الجهل والاستهانة بالمراحل التاريخية المتعاقبة، من قبيل أن أزعر الحارة (طبنجا) يصبح شرطياً في العهد الفيصلي بعد انسحاب العثمانيين من دمشق في تشرين الأول/ أكتوبر 1918. طبعاً هذا من سابع المستحيلات أن يتم قبول شخص سيء السمعة ومعروف بسمعته السيئة تلك (أي ليس مستور الحال) في سلك الشرطة، وإساءة كهذه بحق العهد الفيصلي الذي كان عهد بناء دولة من طراز رفيع وزراء حكومته: عبد الرحمن الشهبندر وساطع الحصري وفارس الخوري والشهيد يوسف العظمة، لا تصدر إلا عن جاهل بالتاريخ للأسف!.

أما حكم أخذ (أبو العز) بالثأر من قاتل ابنه رضوان، فليس الشنق كما جاء في المسلسل، وإن كان له عقوبة مشددة، كما أنه لا يمكن في العهد العثماني لأي شخص حتى لو كان (غازي بيك) أن يدخل إلى سجن ليجلد خصمه (أبو العز) بيديه، وهو الموقوف على ذمة الثأر من قاتل طفله، فهناك قوانين وأنظمة لم تكن تنجح حتى الرشوة في خرقها أو تبديلها، لكن في ظل دراما الغباء والتغابي يمكن القفز على أي قانون، والإساءة إلى أي حقبة تاريخية ما دامت رقابة نظام الأسد لن تعترض على ذلك.

في المحصلة لا يشذ مسلسل (حارة القبة) عن عاهات دراما البيئة الشامية إن لم يزدها سوءاً، لا يشذ عن تصوير وضاعة شخصياته الشعبية إلى حد مهين ومتناقض، فلحّام الحارة (أبو راتب) البخيل والمزواج، لا يطلب من زوجته الثالثة العانس فقط التنازل عن المهر وتكاليف العريس، وهذا قد يكون مفهوماً بالنسبة لشخص مقتّر؛ بل يطلب أن تصرف على البيت أيضا، وهي – بخلاف ضرتيها – تستطيع أن تطهو له اللحمة لأنها كانت تعمل في كار الخياطة ولديها مدخرات مالية!.

نعم هناك بخلاء ومقترون في البيئة الدمشقية وفي أي بيئة شعبية أخرى، لكن بالتأكيد ليس هناك من يصلون إلى هذا الدرك الذي يمس إحساسهم بالحد الأدنى من رجولتهم ولا يدخل في باب البخل فقط، كما أن شخصية الرجل المزواج (الباحث عن المتعة) أبعد ما تنسجم مع سلوك من يحرّم متعة تناول اللحوم من متجره على نفسه وأهله إلا إذا اشترته له زوجته الثالثة من مالها الخاص!.

أما المشاهد الوحشية لضرب شقيقة (أبو العز) التي تظهر هكذا فجأة في مسار الأحداث مع زوجها العصابي الأخرق، ومساهمة ضرتها في هذا الضرب الوحشي وأمام ابنتها، فرغم النجاح الإخراجي في تصويرها، فهي تقدم لنا نموذجاً يقول: إن كل جهد رشا شربتجي، وكل تألق عباس النوري وأمل عرفة، إنما هو جهد فني مجرد من القيمة الدرامية، لأن أحداً لم يستطع أن يطرح سؤالاً حول معنى هذه الأحداث المتلاطمة التي تخرج فيها الحارة الدمشقية عن نمط الحياة المألوف، وتصبح بؤرة للصراع الدامي المحموم من أجل فقط جذب مشاهد مازوشي يهوى تعذيب نفسه مع دراما المصائب والبكائيات والأجواء المتوترة المسمومة، وهم يفترضون فيه أنه جاهز للاندهاش من كل شيء والتصفيق لكل شيء!.

مربى العز: تجريس وفضيحة محمل الحج!

يسعى مسلسل (مربى العز) لكاتب جديد وافد على دراما البيئة الدمشقية من الساحل السوري، اسمه (علي معين صالح) ولمخرجة (حارة القبة) نفسها رشا شربجي، يسعى لأن يأخذ مكانته الملائمة في مستنقع الاستنساخ والقحط الدرامي والعقلي الذي باتت ترتع فيه هذه الدراما البيئية المزورة قلباً وروحاً وشخصيات وتقاليد.

ولهذا لا معنى للتوقف كثيراً عند الحضور النافر للممثلة سوزان نجم الدين، في أول أدوار البيئة الشامية لها، ولا في هذا الجهل المريع بالمفردات البيئية للشخصية في أدائها المغناج، مادام حال المسلسل كله بدءاً من النص، يبدو حال كاتبه أشبه بحال هذه الممثلة المحدودة الأدوات والقدرات.

الصراع الدرامي في (مربى العز) يقوم على الانتقام الذي يُنزل المصائب بالآخرين، رأس الحربة في هذا الانتقام هي الست (جواهر المكتوي) أو سوزان نجم الدين، والسبب أن والدها تعرض في السابق لحادثة تشهير أو “تجريس” بعد محاولته الاعتداء على خادمته أسهمت في وصم العائلة كلها بوصمة العار. أما الضحية فهم زعماء حارات (الورد – المشرقية – العسلية) الذين يختطف أطفالهم بتخطيط من الست جواهر.

طبعاً لا يمكن إلا لكاتب غريب عن هذه البيئة أن يفبرك حدثاً كهذا، لأن قيم الحارة الشامية، حتى وهي تنحاز للمظلوم أو تسعى لإنصافه، لا يمكن أن تقوم على التشهير والتجريس على النحو الذي قدمه المسلسل وخصوصاً في المسائل التي تمس العرض والشرف، لأنها بيئة مرجعيتها دينية تؤمن بقيم الستر والإصلاح الذي يعطي المذنب فرصة للتوبة، لا التشهير الذي يصم العائلة كلها بوصمة عار لا ذنب لها فيها.

ولأن الفضائح تلد فضائح، تتفق مخيلة الكاتب على فضيحة من نوع خاص، إذ يتحدث عن قيام شقيق شيخ الحارة (الشيخ مالك) بالهرب من موكب محمل الحجاج العائد من بيت الله الحرام، مع ابنة خالته والزواج بها دون علم أو موافقة أهلها، مع أن أهلها هم بيت خالته ولا يشير المسلسل إلى أنهم يرفضون تزويجه ابنتهم. لا يدرك الكاتب معنى فبركة فضيحة من هذا النوع في قلب الرحلة إلى الديار المقدسة التي كان يتسم فيها الناس بأعلى درجات الالتزام الخلقي والديني ناهيك بمشاق الرحلة الطويلة والأخطار التي تواجهها، والتي لا تترك مجالاً لمثل هذه الانحرافات العاطفية، لأن هذه الرحلة في الأساس لا تعنى له في ثقافته البيئية شيئاً، والأدهى أن الأب يرفض مباركة هذا الزواج والستر على ابنته مادام قد تم بالحلال أساساً – وإن خارج العرف الاجتماعي المعمول به – ويصر على نشر الفضيحة وصولاً إلى هدفه غسل العار بطريقته المفضلة. وهاهنا تبرع المخرجة رشا شربجي في تصوير مشهد قتل الابنة العائدة إلى بيت أهلها عبر قيام شقيقها بجرها إلى الطابق العلوي وتوثيق يديها ثم رميها أمام أبيها الذي يتفرج على المشهد الوحشي بتشفٍ وإعجاب لا تجيزه المرجعية الدينية ولا العاطفة الأبوية مهما قست وتوحشت. أما خطبة الشيخ السمح المؤثرة التي تلي ارتكاب هذه الجريمة فلا تبدو أكثر من محاولة لجعل الرحمة حالة فردية استثنائية، والتوحش حالة جماعية في بيئة منغلقة مستعدة للقتل الفضائحي!.

لا حاجة لنا بعد هذا كله للتدقيق في ارتكابات المسلسل الدرامية، ولا في مشاهد كي الأطفال بالنار، ولا في العبارات القاسية التي توجه لطفل يتيم أو مجهول النسب حتى داخل مناسبة اجتماعية كانت عنوان لجبر الخواطر كمناسبة العيد، والتي تدعو لنبذ وزجر ومقاطعة قائلها في العرف الاجتماعي الذي عاشته دمشق قروناً قبل كارثة حكم البعث والأسد، فمن الواضح أن الكاتب لم ير البيئة الدمشقية إلا على الشاشة، ولم يعش أجواء حارة دمشقية حقيقية يوماً، وهو ما نراه مجسداً مثلاً في التفاصيل البيئية التي يشتغل عليها الممثل عباس النوري، وهو يؤدي لأول مرة شخصية شيخ متنور مسكون بروح المحبة، وفي أداء الفنان المخضرم أسامة الروماني وهو يقدم أداء رصيناً ومثيراً للاهتمام لشخصيته الرائعة، أو حضور نادين الرصين أو (كاركتر) أمل عرفة المحبوك بمهارة، فكل هذا يبدو رصيداً مهدوراً في دراما لا تشبه بيئتها ولا تعي قيم تلك البيئة ولا تدرك جوهرها.

جماليات المكان وقبح الدراما

إن كل مسلسلات البيئة الشامية باتت تتسم بسمات مشتركة تجعل منها نمطاً درامياً جاهزاً ومقولباً يُحشى بالأحداث والحكايا والفبركات ونقائص الشخصيات المُنحّطة، والجرائم السهلة الحدوث التي تتراكم بكل عقدها ومساراتها الفرعية، ولا تحل إلا في الحلقة الأخيرة حسب نمط الكتابة الدرامية التقليدية الرديئة التي لا تمت بصلة لدراما الحياة الحقيقية، مثلما لا يمت هذا النمط المقولب لمجتمع الحارة الدمشقية بأي صلة سوى صلة العمران، والبيوت والأماكن التي يصور فيها ويستعرض جمالياتها.

لكن نجاح كل مخرجي تلك المسلسلات الرديئة والمزورة في إبراز جماليات العمران الدمشقي، ودفء ورحابة وأناقة البيوت الدمشقية المترعة بالحياة في أنفاس البشر والحجر والخضرة والنبات وخرير الماء المتدفق يطرح سؤالاً درامياً هاماً:

كيف يمكن لكل هذا الجمال وهذه الرقة والدفء أن ينتجوا هذه الكراهية وهذه الجرائم والقتل والسلب والنهب والسحل والكي بالنار؟ كيف يمكن لبيئة مسكونة بالجمال أن تنتج كل هذه الكراهية والبشاعة؟!.

لقد أضحت مسلسلات البيئة الشامية باختصار: كالأيتام على موائد اللئام. يُنكّل بها كل جاهل، وكل غريب عن البيئة، وكل بعيد عن روح الحارة الدمشقية التي كانت مسكونة بالآلام والمسرات، وبالتعاضد والتآخي رغم بروز الأنانيات الفردية الطبيعية للبشر، ورغم ظهور نماذج من منغلقي الفكر أو البخلاء والمقترين أو الجشعين الباحثين عن المال، لكنها أبداً لم تكن مرتعاً للجرائم اليومية وبيع الذمم والضمائر، وإهدار كرامة الإنسان وتحويل المال إلى فيتامين للرشى والفساد والإفساد. أبداً لم يكن الماضي بمثل هذه الرثاثة والانحطاط، وكأن المطلوب الانتقام من هذا الماضي اليوم وتسويده وطمس قيمه!.

والأسوأ أن هذا لا يتم فقط من خارج روح البيئة ونسيجها الاجتماعي وحسب، بل من خارج المنطق الدرامي أيضاً، حيث يمكن بسهولة حيونة الدراما (أي تجريدها من العقل والتبصّر)، حتى لو كان من يمثلون بها ويخرجونها هم من البشر!.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني