fbpx

مرحلة التسوية السياسية الأمريكية

0 97

رغم ما قدّمه مركز بحوث (RAND) الأمريكي خلال 2015 من رؤى واستنتاجات ونصائح لصنّاع القرار في واشنطن، في سلسلة من الدراسات، تناولت جميع جوانب التسوية السياسية من منظور المصالح العليا للولايات المتحدة في إقامة قاعدة ارتكاز أمريكية دائمة، في إطار دولة لا مركزية، يبقى ما أقدّمه اليوم بشكل موجز حول مرحلة التسوية السياسية – سياق وقوى وأهداف وجهود وتحدّيات، منطقة غير مطروقة لدى صّناع الرأي العام، من مراكز بحوث، وما يرتبط بها من أقلام ومنصّات و وسائل إعلام!.

تغييب طبيعة التسوية، كما حصل لحقائق مراحل الخَيار العسكري السابقة، هي حالة طبيعية، تفسّرها مصلحة جميع قوى الخَيار العسكري في إبعاد الحقائق عن إدراك الوعي السياسي السوري، على مبدأ إذا ارتكبتم المعاصي…، فاستتروا، فكيف إذا كانت تلك المعاصي بفداحة جرائم دفع الصراع السياسي على السلطة في ربيع 2011 على دروب ومتاهات الخَيار الأمني العسكري الطائفي الميليشياوي المدمّرة، وبمخاطر الإصرار على تغييب هويّة المجرم الرئيسي، وطبيعة أدواته، التي يشكّلها تقاطع شبكة مصالح وأدوات سلطات محور المقاومة مع مصالح وسياسات الولايات المتّحدة الديمقراطية؛ الذي ما زال مغيّبا عن إدراك الوعي السياسي النخبوي السوري، والرأي العام – ناهيكم عن إجراءات العدالة السورية والدولية؟!.

أولاً: في السياق

على غرار جميع الحروب، صغيرها وكبيرها، انتهت المعارك الكبرى في حروب إعادة تقاسم الجغرافيا السورية التي أطلقَ صيرورتها تدخّل جيوش الولايات المتّحدة وروسيا بين منتصف 2014-2015، وما نتج عنها من ردود أفعال تركية مضادّة، عند توقيع اتفاقيات 5 آذار بين الرئيسين التركي والروسي، وفي تكامل مع إعلان الولايات المتّحدة عن انتصارها التاريخي على داعش وبسط سيطرتها المشتركة مع قوات سوريا الديمقراطية على ما بات يُعرف بسلطة الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا.

على غرار جميع نهايات الحروب، تدخل القوى المنتصرة في مفاوضات صعبة، وطويلة لتثبيت مواقع الحصص التي فرضتها موازين قوى الحرب. هي صيرورة طويلة ومعقّدة، لا يمنع سياقها التسووي من ظهور محاولات لأحد الأطراف أو أكثر، في مسعىً لتحريك ما رسمته موازين القوى من حدود لصالحه، وعلى حساب شركاء الحرب الآخرين!.

ثانياً: في طبيعة قوى التسوية السياسية!.

على الصعيدين السوري والإقليمي والدولي، هي نفس تلك القوى وسلطات الأنظمة والحكومات التي تقاطعت جهودها في دفع الصراع السياسي على السلطة خلال 2011-2012 على مسارات الخَيار العسكري الطائفي، ودخلت بين أواسط 2014 ومطلع 2020 في حروب لإعادة تقاسم خارطة السيطرة الجيوسياسية التي صنعتها موازين قوى المرحلة السابقة من الصراع الميليشياوي على السلطة ؛ والتي باتت تتقاسم في نهاية 2019 حصص السيطرة ومناطق النفوذ التي تحكمها سلطات الأمر الواقع – النظام، قسد، الهيئة وفصائل الجيش الوطني، الذين شكّلوا، في سياق وصيرورة الحل العسكري، الشركاء السوريين لقوى خَيار الحرب الخارجية، وأذرع الثورة المضادة للتغيير الديمقراطي!.

في ضوء موازين القوى وما فرضته من حصص عند مطلع 2020، تحتلّ الولايات المتّحدة المرتبة الأولى على الصعيد الدولي، وتأخذ نفس المرتبة على الصعيد الإقليمي سلطة النظام الايراني، بينما تشغل تركيا الموقع الثاني، وتشكّل مقاومة إسرائيل لأهداف التسوية أبرز التحدّيات الخارجية! تبيّن هذه القراءة هامشية أدوار القوى الإقليمية والدولية الأخرى التي ساهمت بدرجات متفاوتة في دفع الصراع السياسي على مسار الخَيار العسكري الطائفي، في أعقاب حراك ربيع 2011 – المملكة السعودية ومصر وقطر، عربيا، و روسيا والصين و بعض حكومات الاتحاد الأوروبي، على الصعيد الدولي!.

ثالثاً: في طبيعة أهداف مشروع التسوية السياسية الأمريكية

إذ تعمل خطط وسياسات السيطرة الإقليمية الأمريكية على تجيير مسارات الصراع على سوريا من أجل إقامة قاعدة ارتكاز أمريكية دائمة، يصبح من الطبيعي أن تستهدف التسوية السياسية الأمريكية على المستوى السوري تثبيت وقائع وشرعنة حصص سلطات الأمر الواقع الجديدة وعرّابها الخارجي، (التي تُعطيها حصّة الأسد) في مناطق سيطرة سلطة النظام وخصومها، كما رسمت حدودها موازين قوى الحرب بين 2015-2020، واعترفت بها خارطة سوريا الجديدة التي أقرّتها اتفاقيات الرئيسين أردوغان بوتين في 5 آذار 2020؛ من خلال الوصول إلى اعتراف وشرعنة متبادلة ومتزامنة، تضع قواعد وشروط قيام حالة تهدئة مستدامة بين سلطات الأمر الواقع، وبين خصوم الصراع في سوريا على الصعيد الإقليمي، عبر سلسلة من خطوات وإجراءات التطبيع، سواء على صعيد العلاقات بين النظم الإقليمية (السعودية وإيران، أو تركيا ومصر والسعودية)، أو بينها وبين سلطة النظام،…وسلطات الأمر الواقع!.

في هدفها الرئيسي تقوم التسوية السياسية الأمريكية سوريّا على معادلة أساسية، يترابط فيها تأهيل سلطة قسد، بما يضمن ديمومة واستقرار الحصة الأمريكية، مع إعادة تأهيل النظام، الضامن لاستمرار السيطرة الإيرانية، ( بما يجعل من سعي تركي لتنظيم سيطرتها على حصّتها، سواء عبر صفقة مع النظام أو الولايات المتّحدة، أو من دونها، تحصيل حاصل، وبما يفسّر أسباب العداء الإسرائيلي!!)؛ كما ترتكز إقليميا على معادلة إعادة العلاقات الدبلوماسية الإيرانية والسعودية، وتطبيع العلاقات، وجعلها أساساً لمحور إقليمي جديد، يستهدف إضعاف وتفكيك عوامل القوّة الإقليمية الروسية في الحرب على أوكرانيا.

رابعاً: في طبيعة جهود التسوية السياسية الأمريكية

إذا كانت الولايات المتّحدة هي القوّة الأكثر تأثيرا على مآلات الحرب، وقد دفعتها على مسارات إقامة أكبر قاعدة ارتكاز عسكرية لوجستية في الإقليم (حتى بالمقارنة مع قاعدة عين الأسد في العراق )،في مواجهة جهود تركية وروسية وإيرانية لقضم تخومها، أو تقويضها خلال حروب إعادة تقاسم الجغرافيا السورية، فمن الطبيعي، من منطق موازين قوى الصراع، أن تتمحور جهود واشنطن لتحقيق هدف التسوية المركزي حول العمل لتوفير شروط شرعنة وجود حصّتها، والسلطة الذاتية التي تحكمها، في إطار إجراءات وتسويات أشمل، تغطي الساحتين السورية والإقليمية.

1- على الصعيد السوري، دفعت واشنطن بجهود التسوية السياسية على مسارين:

أ- مسار تأهيل سلطة الحكم الذاتي على صعيد مناطق سيطرتها العسكرية، عسكريا وسياسيا وإداريا، من خلال استكمال بناء مؤسسات الحكم والإدارة؛ وقد قدّمت RAND دراسات تفصيلية حول أفضل أشكال اللامركزية.

ضمن هذا السياق العام شجّعت واشنطن سلطة الإدارة الذاتية، بمؤسساتها العسكرية قسد والمدنية مسد، لفتح خطوط تفاوض وتوافقات مع المكوّنات السياسية والأثنية التي خرجت لأسبابها الخاصة عن هياكل ومظلّة سلطة قسد خلال مرحلة تحييد داعش – أحزاب كردية وفصائل عربية، ومكوّنات عشائرية-كما أشرفت على جهود تحويل قوات سوريا الديمقراطية إلى جيش محترف!.

2- مسار تأهيل وشرعنة سلطات الإدارة الذاتية على الصعيد السوري العام. ضمن هذا المسار المعقّد، استخدمت الولايات المتّحدة وماتزال جميع ما تملك من أوراق الضغط لدفع وتحفيز سلطتي قسد والنظام للوصول إلى تفاهمات، تصنع حالة تهدئة مستدامة، تُتيح إجراءات تأهيل وشرعنة متزامنة، ومتكاملة؛ وقد شكّلت ممانعة النظام لتلبية الشروط الأمريكية السبب الرئيسي لحالة الصراع المحتدمة، خاصة بعد انفضاض قمّة جدّة العربية!.

3- على الصعيد الإقليمي والدولي، ربط تقدّم خطوات التطبيع مع سلطتي النظامين الإيراني والسوري بما يتحقق من خطوات على صعيد التأهيل الداخلي، خاصة تجاه سلطة مناطق السيطرة الأمريكية، وبالتالي الاعتراف بمصالح الولايات المتّحدة، وشرعنه وجودها!

خامساً: في طبيعة التحدّيات!

الرؤية الموضوعية لطبيعة قوى التسوية السياسية تكشف طبيعة تناقض مصالح وأهداف الشركاء مع أهداف وسياسات الولايات المتّحدة؛ وهو ما يفسر حالات الاشتباك المستمرّة بعد ربيع 2020، وسقف أوراق القوّة التي يستخدمها الجميع.

1- تتناقض أهداف وسياسات واشنطن في إقامة قاعدة ارتكاز أمريكية دائمة، بإدارة سلطات قسد الأمنية والعسكرية، ومع مصالح وآليات سيطرة النظامين الإيراني والسوري، بالدرجة الأولى، اللتين تعتقدان انّهما تملكان المبررات القانونية والشرعية الدولية (وشراكة الخَيار العسكري!) لإعادة السيطرة على كامل الجغرافيا السوريّة. تُفسّر هذه المعادلة طبيعة الصراع الدائرة معاركه على أكثر من مستوى، وبجميع أوراق الضغط؛ كما تبيّن سقف الأهداف، والمآلات، التي لن تتجاوز سياق التسوية السياسية الشاملة!.

2- تتناقض أهداف وآليات التسوية السياسية الأمريكية مع مصالح تركيا القومية، على الصعد الوطنية، والسورية والإقليمية؛ وهو ما يفسّر شراسة الحروب التي خاضتها تركيا من أجل تقويض سلطة الكانتون الأمريكي منذ 2016، وطبيعة النجاح المحدود الذي حققته، كما يُفسّر أيضا تقاطع مصالح الدولتين في حصول تأهيل متزامن لسلطات الأمر الواقع، بما يحافظ على الحصص القائمة -حصتي تركيا والولايات المتّحدة معا – طبيعة المساومات والتوافقات، خاصّة التي حصلت بعد الانتخابات التركية الأخيرة!.

3- تتناقض مصالح وسياسات الولايات المتّحدة الساعية للوصول إلى تأهيل متزامن لسلطات الأمر الواقع، يحافظ على الحصص ومناطق النفوذ القائمة، ويعترف بشرعية وجود العرّاب الخارجي – التركي والإيراني – طبيعة مواقف وسياسات إسرائيل المعادية لأهداف التسوية الأمريكية. لقد شكّل تمدّد أدوات السيطرة الإقليمية الإيرانية، (في سياق ما حقّقته من تحكّم في لبنان وفلسطين المحتلّة، في إطار الصراع بين أهداف مشروعي السيطرة الإقليمية للنظام الإيراني وحكومة الاحتلال الإسرائيلي)، داخل مناطق السيطرة الحكومية والقسدية، أبرز أشكال تهديد الأمن القومي الإسرائيلي. يفسّر هذا العامل استمرار الهجمات العدوانية الإسرائيلية داخل عمق مناطق السيطرة الإيرانية الحكومية، كما يبيّن طبيعة التناقضات في علاقات التحالف الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وإسرائيل التي ما زال يجهل الوعي السياسي النخبوي أسبابها وطبيعتها، بناء على تصوّرات أيديولوجية خالدة!.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني