fbpx

مداخل خاطئة وهم التنوير الديني

0 634

في
كتابه الشهير (جواب عن سؤال: ما التنوير؟) يعرِّف الفيلسوف الألماني كانط التنوير
بأنه (هجرة الإنسان للارشد، واللارشد هو عجز الإنسان عن الإفادة من عقله دون معونة
الآخرين). ولقد انشغل المفكرون العرب بقضية التنوير خلال القرن التاسع عشر بعد
الصدمة التاريخية التي تلقّاها العالم العربي من البون الحضاري الشاسع بينهم وبين
الغرب سيما بعد غزو نابليون بونابرت لمصر واكتشافهم لحجم المنجزات المادية التي
جلبها معه الجيش الفرنسي. ورغم أن مفكري عصر النهضة قدّموا أعظم الأسفار في حينه،
تلك التي أسست فيما بعد لتشكّل الدولة العربية الحديثة بقبول فكرة الجمهورية والنظام
النيابي والقضاء الحديث، إلّا أن جهودهم ظلت مبعثرة لم تنتظم لتشكل نسقاً معرفيّاً
منسجماً يمكنه تفكيك البارادايم المعرفي القديم الذي يتمحور حول أن الدين هو مصدر
الأخلاق والمعرفة الإنسانية، وذلك نتيجة جملة من العوامل لا يتسع المقام لسردها.
إلّا أننا سنبقى أوفياء لأجدادنا الكرام الذين حاولوا وأفشلتهم الظروف رغم أنّهم
حاولوا استحضار المنهج العلمي وأدوات التفكير الحديث، والذي نجده في طه حسين الذي تأثّر
بديكارت، ومحمد عبده بسبنسر والطهطاوي بمونتسكيو وفرح أنطون بالفكر الاشتراكي وغيرهم
كثير..

خلال
هذه الفترة حصلت حادثة، حيث قام الجيش الإنكليزي بإعدام فيلق عسكري من المسلمين في
الهند، فكتب جمال الدين الأفغاني كتاباً كردّة فعل يمجّد فيه الحضارة الإسلامية ويقارنها
بالوحشية الأوربية، ليغدو هذا المنهج في التفكير هو المهيمن على الحالة الثقافية لدى
المثقفين المتدينين في ذلك العصر كإجابة حتمية عن سؤال النهضة، فيستنفر محمد رشيد
رضا تلميذ محمد عبده ليعيد إحياء كتب الغزالي وابن تيمية وابن القيّم على افتراض
ألّا سبيل للقومة من بعد طول كبوة سوى بالعودة إلى الإجابات التي أهملناها طويلاً
في التراث الإسلامي، وكلّ هذا شكّل ضمير وفكر حسن البنّا تلميذ رشيد رضا ليخرج
بفكرة (الإخوان المسلمين) الذي دعمها بقوّة حدث سقوط الخلافة العثمانية.

وبعد
سلسلة الخيبات التي حصدتها الجماعات الإسلامية في أفغانستان والسودان وإيران ومصر،
وتآكل دوائر الاعتدال لصالح اتساع دوائر الغلو، فقد شهد العالم العربي في العقود
الثلاث الماضية نشوء حالة ثقافية جديدة تتمثّل ببروز تيّار فكري  يعمل على إعادة تفسير النص الديني من وحي العقل
المجرّد أو برفض تراث التفسير والفقه كلّياً أو جزئياً، ولعلّنا نفهم دوافعهم في
ذلك لإنقاذ صورة الإسلام من الورطة التاريخية التي أقحمتها بها الجماعات الدينية وللخروج
من المأزق الحضاري الذي سببه – كما يعتقدون – التفسير المتمحور على ذات وفهم السلف،
والذي يرونه مفارقاً لقيم وحاجات العصر ومولّداً حتمياً للعنف وتسييس الدين.

وقبل
نقد منهجهم تقتضي الأمانة العلمية أن عدداً من هؤلاء “التنويريين” كما
يحلو لهم تسمية أنفسهم جمع جمهوراً جيّداً حوله وثقب بإزميله ثقباً بحجم الإبرة أو
يزيد جدار التراث الفقهي العظيم حجماً وأثراً. لكن الذي يعنينا هو وضع منهجهم على
مشرحة البحث والتحليل، وليست مهمّتنا تصويب أو تخطئة محتوى خطابهم.

نقد
شكل منهج خطابهم:

 يتوسّل التنويريون الجدد ذات أدوات التراثيين في
معالجة الموضوع ذي الصلة، فكلاهما يفحصان القرآن والسنّة ويستنبطان الأحكام
الفقهية أو التفاسير من مصادر التشريع وطرق المعايرة ذاتها، فلم يأتوا بجديد عبر
الإفادة من علم التاريخ، وبهذا لم يغادر التنويريون الساحة المعرفية التراثية بل
ظلّوا بموقع المنفعل بها وكأنّهم في مبارزة فكرية يفوز فيها ذو الحجّة الأصوب.

نقد
جوهر منهجهم:

– يسعى التنويريون إلى ضرب حجة قوى
الإسلام السياسي  بأن القرآن الكريم وتأريخ
السيرة النبوية يخلوان من ذكر أو تفصيل شكل نظام الحكم في الإسلام أو حتى وجود نظرية
للحكم تحدد شكل خلافة النبي بعد موته أو للمسلمين عموماً، وأن ما جاء به الصحابة
الكرام بعده ما هو إلّا اجتهاد شخصي ويدعمهم في هذه الفرضية الإمام الأزهري علي
عبدالرازق في كتابه (الإسلام وأصول الحكم) الذي كتبه في العام 1925 والذي يدعو إلى
رفض الخلافة، وعليه فلا مسوّغ فكري أو شرعي لنشوء الأحزاب الإسلامية في العصر
الحديث سوى أنه شهوة الحكم بحسب زعمهم. لكن ينسى التنويريون بأن الرسول الكريم هو
الذي أتى بفكرة الدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة وأن التيار التراثي العملاق المتمثّل
بالمؤسسات العتيدة كالأزهر وغيرها التي تحتكر تعليم وتفسير الشريعة، لا تقبل أي
تفسير تأويلي جديد للآيات الكريمة المتعلّقة بـ (من لم يحكم بما أنزل الله)،
فنظرية التأويل تم الإجهاز عليها مرّتين، الأولى حين انتصرت مدرسة أهل الحديث
الحجازية على مدرسة أهل الرأي العراقية في القرن الهجري الأول، والثانية حين
انهزمت الرشدية على يد السلطة السياسية في الأندلس ليهيمن بعدها بقرن فكر ابن
تيمية في كتابه الشهير (درء تعارض العقل والنقل) والذي يردّ فيه على ابن رشد الذي
قال بوجوب إعلاء العقل على النقل حال التعارض. دون أن ننسى بأن الإمام أبي حامد
الغزالي قد وجّه طعنة للفلسفة لم تقم بعدها لها في الشرق قائمة.

– يجتهد التنويريون في تفكيك المفاهيم
القديمة التي حكمت العقل الإسلامي لقرون طويلة ولا تزال عبر الاستدلال بسماحة
الآيات الكريمة لدحض تفاسير قديمة أو أحاديث يرونها ضعيفة، كالمقابلة بين آية (فمن
شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) أو (فذكّر إنما أنت مذكّر * لست عليهم بمصيطر) لدحض
صدقية (من بدّل دينه فاقتلوه)، لكنّ التيّار التراثي يتذرّع بأن علماء الأمة بمن
فيهم السلف الصالح أكّد نسخ هذه الآيات بآيات السيف، وأن حديث قتل المرتدّ صحيح لكنّه
يفعّل ضمن ضوابط شرعية كأن يأتي المرتدّ محارباً أو مجاهراً أو مظاهراً للأعداء. على
العكس فإن الكلاسيكيين أقوى حجة من التنويريين لا لأن الأخيرين على خطأ بل لأن
الأولين يملكون الحجج الأوضح التي لا تحتاج إلى كبير إعمال للعقل ويدعمهم في ذلك
العامة.

وما أريد قوله بأن معركة التنويريين مع
السائد المحروس بعناية من المؤسسات العتيدة هي معركة خاسرة بوضوح نظراً لفارق ميزان
القوة بين الطرفين وهذا مالم يحسب له التنويريون حساباً، إلّا اللهم من أراد شهرة
بالمخالفة.

سوى ذلك، فما يقوم به هؤلاء ليس سوى
عمليّة شد أعصاب للتراثيين المتزمّتين وبهذا لا تصبح العملية تنويراً بل تعتيماً وتقتيماً
للعقول.

وإن عدنا إلى مقدمة المقال التي تتحدّث عن
محاولات مفكري النهضة في إيجاد الحلول لقضية التخلف المديد الذي عاشه العالم
العربي والتي منيت بفشل ذريع أدّت إلى عودة طه حسين إلى الكتابة في الإسلاميات بعد
محاكمته على كتاب الشعر الجاهلي وانكفاء علي عبدالرازق مبكراً ورحيل عبدالرحمن
الكواكبي في ظروف غامضة… من يتابع هذا المسار يجد بأن الخط البياني للمفكّرين
العرب في انحدار مستمر، فمن المتأثرين بفلسفات ديكارت وسبينوزا وكانط وروسو إلى
المفكرين العرب المتأخرين الذين سقطوا في فخ الإيديولوجيا كالعروي ومروّة وعابد
الجابري وجورج طرابيشي الذين أنفقوا أعمارهم في تفسير ظاهرة الرجعيّة الفكرية
بوسائل هي أيضا رجعية، كالبحث في نقد العقل العربي أو ابتداع مفاهيم مذهلة كماركسية
بلبوس قومي أو نهضة لا تجافي الماضي، أي البحث في أسئلة الحاضر عبر إجابات ماضوية.

ليأتي تيار التنوير الديني فيزيد الخط
البياني للفكر العربي انحداراً عبر البحث عن المخرج من أزماتنا السياسية والاجتماعية
والثقافية بالعودة لا إلى التراث الذي كان يحتمل الأطاريح والردود بين مثقفي ذلك
العصر بل إلى تفسير جديد للقرآن والسنة.

وبرأيي أن كل هذه المحاولات لن تجدي نفعا
بل هي مداخل خاطئة لصناعة عصر جديد من الثقافة بقيم جديدة، واستنزاف للطاقات في شد
وجذب عبثي لا معنى له ولا نتيجة له سوى تضييع المزيد والمزيد من الوقت، ولا حلّ
لمعضلتنا الكؤود سوى بقطيعة معرفية كاملة مع الماضي والتراث ومواجهة استحقاقات
الألفية الثالثة بروحيّة المقاتل الشجاع الذي لا يخاف من الجديد مهما كان، ولإحقاق
ذلك واقعاً وجب تشكّل طبقة نخبوية على دراية عميقة بأسباب جهلنا وانعدام وزننا وتبتكر
أساليب التشبيك والتماسك بينها كي لا تضيع جهودها سدى كما ضاع جهد المخلصين في
القرنين الماضيين.

————————————————————-

*راجع دراسة (إخفاق التنوير العربي).

* كتاب الأصولية والعلمانية في الشرق
الأوسط لمراد وهبة.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني